مأساة قرية “المسقاه”
مأساة قرية “المسقاه“
بقلم / د .عبدالعزيز المقالح
المسقاه أجمل قرية بين القرى الكثيرة الخضراء المطلة على “وادي بنا”، وسكانها خليط من المزارعين والعلماء وقضاة المحاكم. وبالقرب منها ينبوع ماء غزير ولذيذ يسقي القرية ويحنو على أراضيها، وهي بفضله وفضل الأمطار الموسمية دائمة الخضرة وكأنها حديقة وارفة الظلال طوال العام. ولعل هذا الينبوع الغزير هو الذي أعطاها اسمها فهي “مُسقاة” منه . ولا يمكن لمن يزور “وادي بنا” أن لا تشده المسقاه من النظرة الأولى، وتكون
زيارته للوادي ناقصة إن لم يزرها ويشرب من مسقاها الذي ينحدر من أعماق صخور الجبل العالي الذي تقع عند سفحه. وأتذكر أنني –قبل عشر سنوات تقريباً- زرتها مع عدد من الشعراء العرب . كانت الزيارة خاطفة لكنها ملأت
مشاعرهم وتركت أجمل الانطباعات. لقد وقفنا تحت الشجرة الكبيرة المعمرة التي تتوسط مساحة القرية وحملتنا السيارة إلى قرب النبع حيث شربنا واسترحنا، وألقينا كل ما في قناني المياه المعدنية من مياه واستبدلناها بمياه النبع بعدما قال أحدهم هذه أنقى مياه على وجه الأرض!
ولاستكمال الحديث عن المسقاه لابد من الإشارة إلى أن علاّمة اليمن المجتهد الكبير الشهيد حسين الكبسي من مواليدها وتربى بها ولم يكن يتخلى عن زيارتها حتى بعد أن ملأت شهرته الآفاق بعلمه وبمواقفه السياسية الشجاعة وبما قدمه من تضحيات من أجل هذا الوطن. وقد كان واحداً من أعلام العرب المعاصرين الذين أسهموا في إنشاء الجامعة العربية التي تحولت فيما بعد إلى فندق للسياسيين العاطلين، وإلى مكان لاجترار الكلمات الميتة وقرارات أكثر موتاً. ومن أشهر شخصيات هذه القرية العلامة محمد بن محمد الشامي الذي كان معروفاً بالحاكم بعد أن تولى القضاء في أكثر من محافظة يمنية وكان مثالاً للزهد والتقوى والعدل. ومنهم أيضاً أخوه العلامة أحمد محمد الشامي رئيس الاستئناف في تعز سابقاً، ومن أبنائه المناضل الثائر اللواء علي محمد الشامي أحد أبرز ضباط الثورة السبتمبرية وأكثرهم زهداً وترفعاً عن المناصب والمنافع الزائلة. ومن هذه القرية نفسها خرج العشرات من
القضاة والشعراء والمثقفين ممن كانوا في طليعة المطالبين بالتغييرات الهادفة إلى الارتقاء بالوطن والخروج به من وهدة التخلف وربقة الطغيان.
هذه التوطئة التي ربما تكون قد طالت تبدو لي ضرورية جداً للتعريف بهذه القرية الجميلة الوادعة والحاضنة للفكر والمعرفة والعلم والتي كانت –منذ أيام- ضحية سهلة لصواريخ العدوان الإجرامي الخارجي الذي لم يكتف بتمزيق صمتها الهادئ وتمزيق صمت ما حولها من القرى، بل تسبب في قتل الأبرياء وهدم المنازل علماً بأن هذه القرية لم تكن في يوم ما ثكنة عسكرية ولا تصلح لتكون أي شيء غير قرية لمواطنين عزل أبرياء. وهي تبدو خالية من أبنائها الموظفين في أغلب أيام العام ولا يبقى فيها سوى المزارعين ومن وصلوا من أبنائها إلى مرحلة الشيخوخة بعد أن خدموا بلادهم في أكثر من مرفق حكومي وفي أكثر من منطقة . ولا يمكن حتى الآن فهم الأسباب التي أدت إلى ما تعرضت له هذه القرية إلا أنه الجنون وفقدان المنطق والعقل، واستعراض للقوة الغاشمة بطريقة تثير السخرية وتطرح أكثر من سؤال وأكثر من علامة استفهام.
إنني حزين، حزين جداً وموجع القلب على ما وصلت إليه أمتنا العربية التي كانت خير أمة أخرجت للناس، حزين على هبوط في التفكير وتدنٍ في العمل لما وصلت إليه الأحقاد والضغائن بين أبناء الأمة الواحدة أو التي كان المأمول أن تكون أمة واحد . ويبدو لي أننا جميعاً نبدو جميعاً إزاء هذه الحرب العدوانية غير الطبيعية وغير المبررة فواجه ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ العربي القديم منه والحديث، وأعتقد جازماً أن مأساة قرية “المسقاة” ستكون في مقدمة ما سوف تبحثه محكمة العدل الدولية لا لأنها أكثر فظاعة وبشاعة مما جرى في أماكن ومناطق أخرى، وإنما لأنه عدوان على قرية صغيرة معزولة وبعيدة كل البعد عن مسرح الحرب وأهوالها، ولا
يشكل تدميرها أو حتى محوها من على الأرض أي مكسب للمعتدين.
المبدع عبدالقادر سعيد في روايته الأولى: عنوان الرواية “يفرون” وسبق لي أن تحدثت عن كتاباته القصصية وما تتسم به من رؤى ولغة شعرية تجعل القارئ يشعر أنه في صحبة شاعر يستخدم فن السرد ليعبر عما يكتنزه وجدانه من قضايا وهموم. والرواية كتجربة أولى على درجة عالية التقنية بارعة الدلالة، وتبشر بما بعدها من أعمال روائية قادمة.
تأملات شعرية:
أسفي أن هذا البهاء
الذي يملأ الأرض والأفق
يخبو
وأن الظلال التي تكتب الشعر
فوق التلال
وفوق الجبال
تموت وتخبو
ويدركها تحت قصف العدو
الزوال