كلمات .. على وجع قريتنا / بقلم : محمد الصفي الشامي
هناك على ضفاف شلالات فائقة الجمال ، وأشجار تُشاكس الرياح ، وجبال تعانق السماء ، في وادي بنا ، تقع ‘ قرية المسقاة ‘ ، التي انتمي إليها ، وتشدني لها عادةً والدتي العزيزة كلما أخبرتني عن مناسبة ما فيها ، لأشارك أهلها وأبنائها .
هبوب الرياح ، وأسراب الطيور ، أنين السواقي ، وأصوات المزارعين ، جدران دارنا القديم المتواضع ، وروحانية المسجد الأعلى ، نهيق حمار جارنا ، وطاحونه المزعج ، لحظات تظل عالقة في الذاكرة ، بكل تفاصيلها ، سواء بعفوية وبراءة أو قسوة ومعاناة .
الحمامُ يُسلِّم هديله ، لـ جدتي ‘المرحومة‘ ، التي كانت تشبعه غالباً من فتات خبزنا في ذلك الحين ، أما الأطفال فيتعثر الصبح بهم ، عند انتشارهم قبل شروق الشمس كالنباتات التي تنمو على درب الحقل .
في شهر مايو من العام الماضي ، بينما نحن في منزل احد الأصدقاء بالعاصمة ، وردني اتصال ، مفاده أن طيران العدو الصهيوامريكي ، شن عدة غارات على منازل متفرقة في قريتنا الصغيرة ، بينها دارنا القديم ، واستشهد وجرح على اثر ذلك عددٍ من الأهل والأصدقاء.
صديق طفولتي الحنون الذي كان يعطيني سيارته المصنوعة من الأسلاك ” لعبة ” ، كلما شعرت بالضجر ، استشهد ، أيضا احد الأطفال الذين لا يخافون الموت بالرصاص ، وينتشرون على درب ذلك الحقل ، استشهد بصاروخ طيران العدو ، صديق اخر ، بعد أن كان ينعم مثلنا بيدين وقدمين ، وبسبب قصف العدوان على القرية صار لديه قدم واحدة و يدان ، إلا أن إحدى يديه أصبحت من دون أصابع .
والدتي العزيزة اكتفت بالدعاء للشهداء و المجاهدين وتجاهلت ما جرى ، فكل كلام في حقهم قليل ، وكل شكر وثناء لا يبلغ مقامهم مهما عظم ، هم فوق ما نستطيع ان نبدع من القول ، وأعلى مما نبلغ من مراتب البلاغة ، لا يسعنا أمام نبلهم وصدقهم وكرم أخلاقهم وفروسيتهم إلا الصمت إجلالا لبطولات لا تحتمل القول ، ولا تحيط ببهائها ممكنات اللغة .
منازل قصفت في تلك القرية الصغيرة ، فقدنا أعز وأنبل وخيرة أبناءها .. أجل دارنا القديم المتواضع دمر ، ولم يتبقى لنا سوى حكايات الجدات ، وحفنة من الذكريات ، إلا أنها ” لن ترى الدنيا على أرضي وصيا ” .