بيروت.. بين الولاء والتحدي
في تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي، يظهر اسم السيد حسن نصر الله كرمزٍ للتحدي والانتصار لقضايا الأمة. فقد عمل بجد على إعادة صياغة مفاهيم المقاومة والصمود، معززاً ثقافة الانتصار التي ألهمت العديد من الشعوب في المنطقة. قاد نصر الله تحولات استراتيجية تميزت بالتمسك بالمبادئ الدينية، مما جعله شخصية محورية في سياق الصراعات الإقليمية والدولية.
تحت قيادته، أصبحت المقاومة اللبنانية مثالاً يُحتذى به في مواجهة العدو الصهيوني، حيث أسس لخط سياسي وعسكري ينبع من الثوابت الثقافية والوطنية. وقد سخر من خلال ذلك تأثيره لخلق تحالفات استراتيجية ليست موجهة فقط نحو التصدي للاحتلال، بل أيضاً لتعزيز وحدة الصف العربي والإسلامي في مواجهة التحديات المتزايدة.
تتجلى عظمة شخصية نصر الله فيما حققه من نجاحات عسكرية وسياسية، أعادت تشكيل خارطة المنطقة وصنعت تحولات كبرى أعادت الاعتبار لشعوب أمتنا وأثبتت أن الإرادة هي القوة الحقيقية التي بها تصنع الانتصارات.
رفعتم رؤوسنا عاليًا
مهابة التشييع لجثماني شهيد الأمة السيد حسن نصر الله ورفيق دربه السيد هاشم صفي الدين ثبتت العديد من المعادلات بأن الدم ينتصر على السيف وأن نصرالله سيظل كابوسا للكيان الصهيوني ولا فرق إن كان حيا أو شهيدا، فرعبه لا سيظل يؤرق كيان العدو.
وبالمناسبة العظيمة، وجَّه الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم تحيّة للحشود المشاركة في تشييع الشهيدين سيّد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين، مخاطبًا إياهم بالقول: “أخاطبكم باسم أخي وحبيبي السيد حسن نصر الله السلام عليكم يا أوفى وأكرم وأشرف الناس ويا من رفعتم رؤوسنا عاليًا”. وأضاف سماحته: “نودّع اليوم قائدًا تاريخيًا استثنائيًا وطنيًا وعربيًا إسلاميًا يمثل قبلة الأحرار في العالم”.
يؤكد قاسم أن وجهة السيد حبيب المقاومين كانت فلسطين والقدس وهو الذي ساهم في إحياء هذه القضية فهو قائد المقاومة إلى الأمة وقائد الأمة إلى المقاومة. ذاب في الإسلام والولاية، واستشهد في الموقع المتقدّم.
وخاطب الشيخ قاسم السيد نصر الله: “ أنت حيّ فينا، وسنحفظ الأمانة وسنسير على هذا الخطّ، وأنت القائل: هذا الطريق سنُكمله جميعًا حتى لو قُتلنا جميعًا وإنّا على العهد يا نصر الله”.
كذلك، وجّه التحية للأسرى، وقال لهم: “لن نترككم عند العدو وسنقود كلّ الضغوطات اللازمة للإفراج عنكم”.
وحول إسناد غزة، قال سماحته: “معركة إسناد غزة هي جزء من إيماننا بتحرير فلسطين، وواجهنا الكيان الإسرائيلي والطاغوت الأكبر أمريكا التي حشدت كل إمكاناتها لمواجهة محور المقاومة الذي التفّ حول غزة وفلسطين”.
وأشار إلى أنَّ حجم الإجرام غير مسبوق لإنهاء المقاومة في غزة ولبنان، ولكن في المقابل حجم الصمود والاستمرارية كان غير مسبوق، مؤكدًا أنَّ العدو “الاسرائيلي” لم يستطع التقدّم بسبب المقاومة وصمودها وعطاءاتها.
واعتبر الشيخ قاسم أنَّ الموافقة على وقف إطلاق النار في لحظة مناسبة كانت نقطة قوة، وتابع: “أصبحنا الآن في مرحلة جديدة تختلف أدواتها وكيفية التعامل معها”، لافتًا إلى أنَّ “أبرز خطوة اتخذناها أن تتحمّل الدولة اللبنانية مسؤولياتها”.
وشدَّد الأمين العام لحزب الله على أنَّ “إسرائيل” لا تستطيع أن تستمرّ في احتلالها وعدوانها، مؤكدًا أنَّ المقاومة موجودة وقوية عددًا وعدّة.
وأضاف: “المقاومة إيمان أرسخ من الجحافل وعشق يتغلغل في المحافل ونصر يخلد كل مقاتل والمقاومة باقية ومستمرة، المقاومة لم تنتهِ بل مستمرة في جهوزيتها وهي إيمان وحقّ ولا يمكن لأحد أن يسلبنا هذا الحقّ، المقاومة تُكتب بالدماء ولا تحتاج الى الحبر على الورق”.
وأردف سماحته: “سنُمارس عملنا في المقاومة نصبر أو نُطلق متى نرى مناسبًا، ولن تأخذوا بالسياسة ما لم تأخذوه بالحرب، ولن نقبل باستمرار قتلنا”، مشيرًا إلى أنَّ المسؤولين في لبنان يعرفون توازن القوى.
وسأل الشيخ قاسم مدّعي السيادة: “كيف تكون السيادة مع هذا الاحتلال المستمرّ؟”، وقال للأميركيين: “اعرفوا أنه إذا كنتم تحاولون الضغط على لبنان فلم تتمكنوا من تحقيق أهدافكم وأنصحكم بأن تكفّوا عن هذه المؤامرات”.
وأكَّد أنَّ “حزب الله وحركة أمل كانا في متن تركيبة البلد، ولا يمكن لأحد أن يطلب منا أن ننكشف وأن نقدم ما لدينا من قوة”.
كذلك، قال: “نحن أبناء الإمام الخامنئي والإمام الخميني والإمام موسى الصدر والسيد عباس الموسوي والسيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين، لو اجتمع طواغيت العالم لقتلنا فسوف نواجههم حتى النصر أو الشهادة”.
وتوجّه للسيد نصر الله بالقول: “يا سيّدنا القيادات موجودة والمقاومين موجودون والشعب موجود”، مؤكدًا أنَّ “المقاومة أساس وهي خيارنا السياسي ما دام الاحتلال موجودًا”.
ولفت إلى أنَّ حزب الله سيتابع تحرّك الدولة لطرد الاحتلال دبلوماسيًا، وأضاف: “المقاومة أساس وهي خيارنا الإيماني والسياسي ما زال الاحتلال موجودًا ونمارس حقنا في المقاومة بحسب تقديرنا للمصلحة والظروف ونناقش لاحقًا استفادة لبنان من قوته عندما نناقش الاستراتيجية الدفاعية”.
وأشار إلى أنَّ حزب الله سيواجه مشروع الرئيس الأميركي دونالد ترامب التهجيري، وأوضح أنَّ الحزب سيشارك في بناء الدولة القوية ونهضتها، مع حرصه على مشاركة الجميع في بناء الدولة والوحدة الوطنية والسلم الأهلي.
وأعاد الشيخ قاسم التأكيد على تحالف حزب الله مع حركة أمل، وتابع: “لا تفكّروا أن تلعبوا بيننا ونحن واحد في الخيارات وسنبقى معًا إن شاء الله”.
وشدَّد الأمين العام لحزب الله على أنَّ الحزب متمسك بإخراج المحتل واستعادة الأسرى وإعادة الإعمار وإقرار خطة الإنقاذ والنهضة السياسية والإدارية والاجتماعية بأسرع وقت.
نفحات مراسم التشييع العالمي في بيروت
بالتزامن مع الاستعراضات الفارغة للقوة الإسرائيلية، عمت النفحات الروحانية أجواء ساحات مراسم التشييع. تتجسد اللحظات التاريخية المعبرة عن عمق الانتماء والولاء للقضايا العادلة، مفعمة بالاحترام والتقدير والوفاء للعهد الذي قطعاه الشهيدان في سبيل حرية الأمة.
تدفقت الحشود من مختلف الأعمار والأجناس من أقطار العالم، مرتدين الأعلام وحاملين صور الشهداء، مرددين هتافات تعكس الوحدة والعزيمة. ولم تكن تلك اللحظات مجرد تعبير عن الحزن، بل كانت من أقوى تجسيدات الأمل، تذكّر الجميع أن الطريق إلى النصر قد يكون شاقاً، لكنه محفوف بالتضحية.
“ولى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات” العبارة الشهيرة التي أطلقها السيد نصر الله تعد منعطفاً حاسماً في الخطاب السياسي العربي. إذ أنها أتت بعد مراحل من الإحباط والهزائم التي عاشتها الأمة العربية، لكن مواقف نصر الله وخطاباته كانت بمثابة بلسما للجراح، حيث وظف الشعارات لتغيير النظرة العامة نحو المقاومة والتحدي.
قدمت خطاباته أسساً ضمن الرؤى الوطنية النهضوية لمشروع المقاومة حيث تتكامل ركيزتا مشروعية المقاومة وبناء الدولة في وحدة الأهداف وتوزيع الأدوار دون أي تناقض أو تضاد. كان يركّز على ضرورة دعم كل منهما للآخر بالقوة الضرورية. في مسار المقاومة العسكرية، أهدى نصر تموز لجميع الشركاء في لبنان، بل للأمة كلها.
لقد شدّد دائماً على أن حزب الله من دعاة الشراكة الوطنية في بناء الدولة العادلة والقادرة، وعمل من أطر من الشراكة والتعاون على “إخراج لبنان من أزماته”.
لطالما كان العدو يترقب خطابه قبل أصدقائه؛ لأنه القائد الصادق، الحكيم، ذو الفكر العميق والرؤية الواسعة، أمضى السيد نصر الله حياته في تعزيز الوعي السياسي لدى الشعب اللبناني والأمة، وكانت خطاباته الغنية كماً ونوعاً بمثابة ميادين مفاهيمية لكل شرائح المجتمع؛ من نخبه إلى عماله. بل لقد أظهر في مؤتمر تجديد الخطاب الإعلامي في تموز 2021 رؤية تأسيسية شاملة، مؤكداً على أهمية المعركة الإعلامية وضرورة مواكبة الخطاب للتطورات في المنطقة ضمن سياق دعم استراتيجية “جهاد التبيين”، لكشف الحقائق وفضح التضليل الممارس ضد الأمة بخصوص القضية الفلسطينية وتشويه نماذج المقاومة.
هو الأب المحب، الذي حافظ منذ حرب التحرير على “وعده الصادق” في الوفاء والحب والالتزام لعائلته الكبيرة، الشعب اللبناني. انضم إلى قافلة عوائل الشهداء، وواسى أهالي الشهداء، قاضياً عمره فداءً للوطن على مذبح الوطنية في دروب النصر والتحرير وتعزيز الوحدة الإسلامية. وحتى النفس الأخير، امتلك قلباً مشغولاً بالقضية الفلسطينية، وقدم روحه في سبيل القدس، مستحقاً لقب “شهيد الإنسانية” بجدارة.
اللحظات التاريخية
لقد استطاع نصر الله من خلال خطاباته أن يبعث روح الأمل في صفوف شعوب المقاومة. أكثر من ذلك، أظهر لنا أن الانتصار ليس مجرد كلمة، بل هو حالة ذهنية مرتبطة بالإرادة والعزيمة. فبفضل رؤيته الاستراتيجية وقدرته على توجيه الجهود نحو الأهداف النبيلة، تحققت انتصارات ملموسة، مثل انتصار 2006 ضد الكيان الصهيوني، أحد أبرز اللحظات التي عززت من مقولة “ولى زمن الهزائم”، حيث تمكن حزب الله من مواجهة الاحتلال الإسرائيلي الذي أطلق عليه الضعفاء في الأمة بأنه “الجيش الذي لا يقهر”. هذه الحرب لا تعكس فقط التفوق العسكري، بل توضح أيضاً الإرادة القوية للشعب اللبناني في الوقوف بوجه الظلم والتحديات الخارجية.
هيهات منا الذلة
إن كلمات نصر الله تتجاوز السياقات العسكرية، إذ تعبر عن رؤية أعمق للتغيير الاجتماعي والسياسي في المنطقة. الأمل بالانتصار ليس مجرد توقع، بل هو دافع يُشجع الأجيال الجديدة على النضال من أجل حقوقهم وأوطانهم.
في ظل الأحداث الجارية، تُعزز مراسم التشييع في بيروت من قوة المعاني التي ينقلها السيد نصر الله. إن الهتافات والمشاعر الجياشة في هذه اللحظة تعبر عن تصميم شعوب المقاومة على الاستمرار في المقاومة والسعي لتحقيق الانتصارات، مهما كانت التحديات. إن هذه اللحظات التاريخية تجسد التزام الذاكرة الحية للامة بعدم نسيان الشهداء والأمل الذي يحمله كل منهم في سبيل الانتصار على قوى الظلم.
وصل يوم “إنّا على العهد” المنتظر من قبل الداخل والخارج بعد أشهر مضت على اغتيال الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله في 27 أيلول الماضي، وخلفه السيّد هاشم صفي الدين في 3 تشرين الأول الفائت.
ستظل روح السيد حسن نصر الله رمزاً جهادياً تمثل شريحة واسعة من الأمة العربية، وهي تجسد الأمل والانتصار. إن كلمته الشهيرة حول “انتهاء زمن الهزائم” ستبقى بمثابة دعوة للجميع للإيمان بقدرتهم على تغيير الواقع وتحقيق الانتصارات، معبرةً عن التعبير الجمعي للأمة في تجاوز جميع الإخفاقات والتحديات. وحقاً، “هيهات منا الذلة”.
- نقلا عن موقع أنصار الله