تقرير _ أبو بكر عبد الله:
على مدى الأيام الماضية حققت قوات الجيش السوداني والقوات الشعبية المتحالفة معها، انتصارات استراتيجية مكنتها من فرض سيطرة كاملة على أكثر مسارح العمليات في شمالي ووسط البلاد، وسط انهيارات لافتة لقوات الدعم السريع، لتفتح هذه التطورات أسئلة كثيرة لدى الشارع السوداني الذي فقد الثقة بقدرة الجيش على الحسم وقدرة المفاوضات على إنهاء الصراع المسلح المندلع منذ نحو عامين وأدى إلى مقتل الآلاف وتشريد نحو 15 مليون نسمة.
الانسحابات الجماعية لقوات الدعم السريع من مراكز سيطرتها في العاصمة السودانية الخرطوم شمالا وولاية الجزيرة (وسط) وبعض المناطق الشرقية، كان الحدث الأبرز في دوامة الحرب المندلعة منذ عامين، بعد أن سجلت قوات الدعم السريع للمرة الأولى أكبر الهزائم في معاركها مع الجيش السوداني التي ألحقت خسائر ثقيلة في صفوفها وأجبرت من تبقى منها على الفرار نحو ضواحي إقليم دارفور حيث معقلهم الرئيسي في جنوب السودان.
وبحسب التقديرات العسكرية فقد استعاد الجيش السوداني وقوات المقاومة الشعبية المساندة له، نحو 90 % المناطق التي كان يسيطر عليها في شمالي ووسط البلاد وجنوبها، بدءا من العاصمة الخرطوم، حيث سيطر الجيش على العديد من المناطق الاستراتيجية، ونحو 10 مدن كبيرة في الوسط وصولا إلى تخوم مدينة الدمازين التي تبعد 600 كيلومتر جنوبا، ومن الجنوب الشرقي حتى تخوم مدينة أبو رخم على حدود ولاية القضارف شرقي السودان.
وفي ظل غياب شبه كامل لقائد قوات الدعم السريع وتولي شقيقه مهام قيادة القوات، مثلت انتصارات الجيش تحولا مهما في معادلة الصراع التي كانت مائلة لصالح قوات الدعم السريع منذ نحو عامين، بعد أن أفضت تكتيكات الجيش السوداني إلى انتقاله من موضع الدفاع إلى الهجوم، في تحول تكلل بسلسلة عمليات ناجحة قربته من استعادة السيطرة على العاصمة ومناطق الوسط أو ما يعرف بـ “الخرطوم الكبرى” بشكل كامل.
والتحول الجديد في سير المعارك وضع قوات الدعم السريع في مأزق كبير بعد أن تم دحرها من مناطق استراتيجية عدة، وقطع خطوط الامداد الرئيسية على ما تبقى منها ولا سيما في مناطق شرق النيل وكافوري (شمال بحري) وهي من أهم المناطق الاقتصادية في الخرطوم ويقطنها نحو مليون نسمة، وكانت خلال العامين الماضيين تشكل معقلا رئيسيا لقوات الدعم السريع بقيادة عبدالرحيم دقلو، شقيق قوات قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو.
وخلال أسابيع قليلة تمكن الجيش السوداني والقوات الشعبية المتحالفة معه، من كسر حصار، كانت قوات الدعم السريع تفرضه على مقر قيادته العامة في العاصمة، كما تمكن من السيطرة على كتيبة “سلاح المدرعات” التي كانت خاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع وسط العاصمة الخرطوم قبل أن يبدأ التقدم نحو محيط القصر الجمهوري بالتزامن مع قيامه بعمليات تمشيط وتطهير كاملة لمناطق الرميلة والإمدادات الطبية والمنطقة الصناعية ودار سك العملة، ناهيك عن التوغل في مناطق السوق العربي ـ توتي، ضمن ما سمته بخطة “التطويق الاستراتيجي للمليشيا”.
ومشهد لانتصارات لم يختلف في ولاية الجزيرة، حيث أفلح الجيش مؤخرا بالسيطرة على مدينة الكاملين والتي مثلت آخر معاقل مليشيا الدعم السريع بهذه الولاية التي تبعد قرابة 60 كيلومترا جنوب العاصمة الخرطوم، بعد أن كان فرض سيطرة كاملة على عاصمتها ود مدني منتصف الشهر الماضي.
ورغم أن الجيش السوداني أصبح اليوم قاب وقوسين من تعزيز قبضته على شمال البلاد ووسطها وشرقها وغربها، إلا أن عملياته لم تتوقف باتجاه معاقل الدعم السريع في إقليم دارفور، حيث كثف الجيش هجماته الجوية ضد قوات الدعم السريع ولا سيما في منطقة زالنجي عاصمة وسط دارفور الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع، وكذلك في منطقة نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور، في ظل استعدادات للتقدم نحو اهم مناطق الإقليم الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع منذ نحو عامين.
العمق الاستراتيجي
حتى اليوم لا يزال الجيش السوداني والمقاومة الشعبية المتحالفة معه يواصلان الزحف نحو وسط العاصمة الخرطوم من ثلاثة اتجاهات في محاولة لاستعادة السيطرة على العاصمة التي تضم القصر الرئاسي ومقار الوزرات والمؤسسات الحكومية والشركات الخاصة والمصارف بعد سلسلة نجاحات سطرها خلال الأيام القليلة الماضية باستعادته نحو 90 % من ولاية الجزيرة ومدينة أم روابة الاستراتيجية بولاية شمال كردفان.
وتشير المعطيات الميدانية إلى أن قوات الدعم السريع خسرت في أقل من شهر اهم مراكز العمق الاستراتيجي في الشمال والوسط التي ظلت تسيطر عليها لأكثر من 21 شهرا، على وقع عمليات عسكرية متسارعة نفذها الجيش، سجلت فيها قوات الدعم السريع خسائر كبيرة وأجبر ما تبقى منها على الانسحاب إلى مناطق بعيدة.
هذا التقدم فتح باب التوقعات لقادة الجيش الذين رجحوا احراز الجيش تقدم وشيك باتجاه وسط الخرطوم خلال أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر، وهو أمر إن تحقق فسوف يتيح للجيش الاقتراب أكثر من القصر الجمهوري الذي تسيطر عليه قوات الدعم السريع وإنهاء نفوذها في الخرطوم بشكل كامل.
وتتركز أعين ضباط الجيش على ما تبقى من كتائب الدعم السريع المتمركزة في معسكرات الكتيبة الاستراتيجية التي كانت تابعة للجيش وسيطرت عليها قوات الدعم السريع بعد شهرين فقط من اندلاع الحرب، كما يركزون جهودهم للتوغل لدحر جيوب قوات الدعم المتمركزة في مناطق وسط الخرطوم، حيث يقع القصر الجمهوري ومؤسسات الحكومة الاتحادية،
ما يدفعهم لذلك هو التقدم السريع والحاسم الذي حققه الجيش بهذه المناطق قبل أيام ولا سيما بعمليات السيطرة على حي الرميلة والمنطقة الصناعية في قلب الخرطوم، والتي تبعد نحو 3 كيلومترات فقط من القصر الجمهوري الخاضع لسيطرة قوات الدعم السريع.
ومناطق العمق الاستراتيجي التي فقدتها قوات الدعم السريع في الخرطوم، لم تكن الوحيدة، فالعديد من مناطق الوسط مثلت على مدى العامين الماضيين مناطق عمق استراتيجي لكل من قوات الجيش والدعم السريع على السواء، وشهدت قبل أسابيع معارك شرسة بين الجانبين أكبرها في بلدة جبل موية بولاية سنار، تكللت بسيطرة الجيش عليها وتمكنه من إغلاق خطوط الإمداد لقوات الدعم السريع المتمركزة في سنجة والدندر وأبو حجار ودالنيل على تخوم الدمازين.
وذلك ما فسر تصريحات لقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو قال فيها إن “دولة مجاورة للسودان هي من هزمت قواته في جبل موية عبر سلاح الجو”.
تغير المعادلات
تعيد أكثر التقديرات تراجع قوات الدعم السريع في حربها المستمرة منذ قرابة عامين مع الجيش السوداني، إلى عوامل عسكرية لعبت دورا مهما في حسم معارك الشمال والوسط لصالح الجيش يتصدرها امتلاك الجيش سلاح الذي لعب دورا مهما في اضعاف تمركزات الدعم السريع وقطع خطوط الإمداد عنها، والاستخدام العالي الكفاءة للطائرات المسيَّرة التي تمكنت من استهداف العديد من قادة الدعم السريع فضلا عن السياسة التي اتبعها الجيش السوداني في إنهاك الخصم وحصاره.
يضاف لذلك انشقاق العديد من القادة العسكريين ولا سيما من مناطق الوسط عن الدعم السريع وانضمامهم إلى الجيش وهي تطورات شكلت علامة فارقة في معارك الوسط، خصوصا وهي تزامنت مع أخطاء استراتيجية فادحة لقوات الدعم السريع التي عانت من الانقسامات والانتشار الواسع الذي أنهكها في ظل مشكلات عميقة في الإمدادات والأسلحة والذخائر.
زاد من ذلك تراجع قدرات الدعم السريع في التجنيد والضغوط الناتجة عن ضعف قدرات القيادة على إدارة قواتها بطريقة متماسكة ومنظمة، وهي المشكلات التي تفاقمت أكثر نتيجة انشقاق العديد من ضباط الجيش السابقين الذين انضموا لقوات الدعم السريع قبل عامين وعادوا إلى حضن الجيش السوداني والقتال في صفوفه.
في مقابل ذلك أفلح الجيش السوداني في الاستفادة من خبرائه العسكريين واستثمر الوقت ببراعة من أجل ترتيب صفوفه التي تبعثرت في بداية الحرب، كما تمكن من إعادة بناء بعض فروع قواته التي تم حلها سابقا وتسليحها وتوزيعها في مناطق المواجهات، ولا سيما قوات العمليات الخاصة، التي تم حلها عام 2019م وهي من اهم الوحدات المدربة على حرب المدن وتضطلع حاليا بدور أساسي في معارك الخرطوم، فضلا عن نجاحه في توسيع قاعدته وحشد المتطوعين والحركات المسلحة للقتال في صفوفه.
وثمة عوامل أخرى لعبت دورا محوريا في تغيير المعادلات الميدانية في دعم قوات الجيش وفي المقدمة جرائم الحرب التي ارتكبتها قوات الدعم السريع بحق المدنيين والتي يعتقد أنها أنتجت حالة تأييد واسعة للجيش ولا سيما من شباب وسط السودان الذين انخرطوا جماعات في صفوف الجيش عبر بوابة المقاومة الشعبية، ويعتقد أنهم لعبوا دورا كبيرا في المعارك الأخيرة.
واستراتيجية قوات الدعم السريع كانت ولا تزال سببا في هزائمه المتوالية، كونها قامت خلال الفترة الماضية على الاستهداف العنيف للمدنيين، لمعاقبة الشعب والدولة، وإحداث حالة من الفوضى من خلال استهداف البنية التحتية المدنية.
وهذا الأمر تجسد بوضوح في هجماتها على محطات توليد الكهرباء مثل محطة كهرباء سد مروي، وكهرباء مروي بالولاية الشمالية، ومحطة كهرباء الشوك التحويلية بولاية القضارف، ومحطة كهرباء أم دباكر بولاية النيل الأبيض ومحطة تحويلية في شمال أم درمان ومحطة أخرى في دنقلا، فضلا عن استهدافها أكبر مصفاة للنفط في السودان والمستشفى الوحيد العامل في الفاشر عاصمة شمال دارفور، وسوق أم درمان.
بداية حرب طويلة
على عكس التصريحات المتواترة لقادة قوات الدعم السريع التي قللت من شأن انتصارات الجيش السوداني، تذهب تقييمات قادة الجيش إلى أن نهاية الحرب الأهلية السودانية اقتربت بعد الحملة الواسعة التي قادها الجيش والقوات الشعبية المتحالفة معه وحققت انتصارات نوعية في أكثر محاول القتال بالعاصمة والولايات الأخرى.
لكن تصريحات الجانبين، تكشف عن محاولتهما استثمار المكاسب ورفع المعنويات، حيث أن الانتكاسات التي وجهتها قوات الدعم السريع لا تعني أنها هُزمت بشكل كامل، أو أن نهاية الحرب صارت وشيكة، فقوات الدعم السريع لا تزال تتمركز في بعض مناطق العاصمة، كما تفرض سيطرة كاملة على مناطق شاسعة في الجنوب وتحديدا في إقليم دارفور الذي يعد معقلها الرئيسي.
وهزيمة قوات الدعم السريع أو انسحابها من تمركزاتها في جبهات الشمال الوسط لا يعني الكثير لها، إذ أن هدفها الرئيسي هو إحكام السيطرة على إقليم دارفور الذي تقدر مساحته بحوالي ثلث مساحة السودان، وهو وضع إن استمر على النحو الحاصل الآن سيؤدي بلا شك إلى طول أمد الحرب لسنوات قادمة، ما قد يفرض حالة انقسام فعلية في البلاد، في ظل إحكام الجيش قبضته على وسط السودان وشرقه وشماله.
ولا يمكن التعامي عن التقديرات التي تحدثت عن أن انسحاب قوات الدعم السريع من وسط السودان جاء بهدف تنظيم صفوفها استعدادا لمعارك طويلة الأمد، ولا سيما بعد انعدام فرص التفاوض، وهي تقديرات تبدو واقعية لدى المتابع لمجريات الحرب هناك منذ عامين.
وفي الشهور الماضية كان واضحا أن قوات الدعم السريع في بعض هذه المناطق كانت في الواقع خاضعة للحصار من قوات الجيش أو أنها معزولة ويصعب تعزيزها بالإمدادات الضرورية، ما جعل من مسألة انسحابها خيارا جيدا يجنبها الهلاك.
والمعروف عن قوات الدعم السريع أنها لا تفضل الاحتفاظ بمناطق ومدن تحت الحصار حفاظا على جنودها، ولذلك ربما تكون قد نفذت انسحابا تكتيكيا من مناطق شمال ووسط السودان ربما لإعادة ترتيب صفوفها وإعادة التموضع.
ووفقا لذلك فإن المرجح أن الجيش السوداني والقوات الشعبية المتحالفة معه قد تتمكن من حسم المعارك في الخرطوم الكبرى وولايات الوسط والغرب والشرق، ولكن الحسم العسكري قد يتأخر في إقليم دارفور الجنوبي، حيث تسيطر قوات الدعم السريع على 4 ولايات من دارفور، بينما يسيطر الجيش على أجزاء من ولاية شمال دارفور، بينها عاصمتها الفاشر.