يا نزار: لم يعد في حاراتنا “دِيَكَة”
على مدى 15 شهرا رأى العالم ما لم يك واجباً أن يحدث، وشاهد على الهواء ما لم يكن ينبغي أن يستمر، وسكت بالإجمال على ما لا يُعقل أن يطول حدوثه بكل تلك البشاعة الشيطانية في غزة. إذاً، فعليه كذلك -على مدى السنوات اللاحقة- أن يرى أو بالأحرى أن يعيش تبعات ما فعل الصهاينة، وأن يواجه عواقب ما اقترفه هو من الصمت والنأي والسلبية التي لم تكن سوى ضوء أخضر وتصفيقة ضمنية لا مبالية.
لـ 470 يوما شاهد العالمُ الدمَ البريءَ يُسفك، يُصب، يُهدر، يُستباح.. إذاً، فعليه أيضا -وقد آن الأوان- أن يرى الدمَ البريءَ المظلومَ ذاك وهو يثأر، يفعل، يغير وجه القاتل والصامت والخاذل وفق سُنن غيبية لكنها يقينية.
لتربط البشرية حزامها في رحلة التبعات والعواقب واللامبالاة والتصهين من حيث لم تشعر هي أو ترغب أو تريد. وما بعد الجريمة الشيطانية في غزة لن يكون كما قبلها في الأسباب والنتائج، وفي تسارع تفاعلهما على نحو يتعسر على القلوب المقفلة إدراكه، والضمائر الميتة استيعابه.
لعقود طويلة ظلت العلاقات المحرمة بين المنظومة الرسمية العربية والولايات المتحدة الأمريكية قائمة على السرية والكتمان في ما يتعلق بالكم الهائل من التعليمات والتوصيات والتوجيهات والإملاءات التي تنصب باتجاه واحد، بالطبع مع كثرة قيام وسائل الإعلام من الجانبين بعمليات إخفاء نوباتها التشجنية وعوارضها الجلفة وسوقها في تيار العناوين الإخبارية المضللة، ودسها في طي القنوات الدبلوماسية الكاذبة..
حان وقت فتح الحساب مع خصم أحمر قانٍ، جعل الله له في السنن سلطانا من حيث لا يحتسبه عمداء السياسات الدولية وخبراء الاستراتيجيات العولمية، ولا تتوقعه مراكز الأبحاث ومعاهد الدراسات المتخصصة، ويمكن بسهولة للشعوب العربية والإسلامية تخيل مدى تراجيدية الآتي حينما تنظر إلى الأيام الأولى من العجرفة وغطرسة الـ”كاو بوي” الأمريكي الأهوج تجاه العالم مع الاعتبار بأنهم يقعون دائما في رأس أجندة الاستهداف والتربص، وفي أولى أولويات الاستكبار والاستهتار الصهيوني للدماء وللسيادة وللكرامة وللحرمات جميعها بلا استثناء.
سبعون عاما من المظلومية الفلسطينية، وما حولها بامتداد واسع من الفانتازيا العربية المتناقضة، يطويها اليوم ترامب بجلافة تحرج حتى طواقم العمل في إدارة البيت الأبيض نفسه؛ جلافة بدأت تطوي معها عقودا من الروغان والمخاتلة وترويض الشعوب العربية تحت سياط وكلاء أجلاف وشرطيين تمت صناعتهم بأعين أمريكا وسفاراتها وجامعاتها ومنظماتها.
لم يعد في القصور الحاكمة العربية ديوك وأسود من ورق، ولم يعد واردا استمرار تلك الأقنعة الخشبية في ما هو آت من الأحداث والمتغيرات المتسارعة التي ستحرق نمطية البطء والمهل والمكث التي ظلت سمة المراحل التاريخية التي عهدتها البشرية من قبل على مدى كل الماضي.
في زعماء وقادة الأمة تكمن العبرة، كل العبرة -للشعوب- بكل تجلياتها الكوميدية السوداء والمضحكة المبكية في آن واحد. ومع أول أسبوعين فقط من اعتلاء ترامب صهوة الفيل الأمريكي داس بعدة كلمات منه كل شوارب وهيلمان و”هنجمة” الزعماء “المفدايين” والقادة “الملهمين” والملوك المترفين المراهقين المفتونين بأحلام الحداثة والعصرية والعبودية “الحلوة” والتبعية “المهضربة”.
ورحم الله الشاعر نزار الذي قال في مطلع قصيدته المشرِّحة لنرجسية زعماء العقود الماضية:
” في حارتنا
ديك سادي سفاح
ينتف ريش دجاج الحارة ، كل صباح”.
فتلك الديكة أضحت نعاجاً ودجاجاً يُجَزُّ صوفُها كلَّ صباح، ويُنتَفُ ريشُها كلَّ مساء على رؤوس الأشهاد ومرأى الشعوب ومسمع كل الأحزاب والنخب والمكونات والقبائل والعشائر.
ترامب -وقد وضع بيادته فوق الطاولة أمام كل وجوه الأنظمة وزعامات المنطقة- يلقي أوامره بامتعاض شديد عن يمينه وعن شماله.. هذا يريد منه الأرض وذاك النفط وذاك التريليون وذاك القناة وذاك المضيق وذاك الخليج. وكل تلك القائمة من الطلبات يجب أن توضع على الطاولة قبل تحرك البيادة من موضعها، وبلا مقابل وبلا مجاملة وبلا دبلوماسية وبلا (لياقة).
هذا بعض الذي يحصل أمام عيون كل العالم للقادة والزعماء والأنظمة. والسؤال الأهم: كيف سيكون الحال بالشعوب إن هي بقيت لا تبارح مربع سلبيتها ولامبالاتها، وإن هي ظلت لا تحرك ساكنا في انتظارها ليس للمجهول فقط بل للأسوأ والأخطر والأدمى والأشر؟
ومن مدرسة غزة تقول أطول حصة دامية استمرت لعام وربع العام: سيعظم الخطب ويفدح الأمر بالنسبة لشعوب الأمة إن لم تتعلم أعظم الدروس المصيرية وأكثرها ألما، ولم تبادر لـ”كتابة الواجبات الوطنية”. فلا الحل لها أن تلتف حول زعامات هي فاقدة لما يمكن أن يعوَّل عليه في تقديم الحلول، ولا هو بالانقسام ضدها وجعلها غرضا للغضب ومرمى للنار وقبلة للثورة وسببا للاقتتال. بل الحل هو إزاحتها بشكل عاجل ومن دون حتى أن تتجه رصاصة واحدة إلا صوب عدو واحد هو رأس الأفعى وهو رأس المصائب ورأس الشرور، وهو قائم بوجوده السرطاني المحتل الغاصب المجرم المتوحش منذ عقود في فلسطين.
- نقلا عن موقع أنصار الله