ترامب المسكون بوهم العظمة
مقالات:
بقلم/ وديع العبسي
كان واضحا منذ الفترة الرئاسية الأولى سيطرة وهم العظمة على المعتوه ترامب الذي أخذ يُمني نفسه طويلا باستعادة المكانة الأولى المطلقة لكيانه الأمريكي، بالعمل تحت شعار (أمريكا أولا) غير أن ما أنجزه لم يكن سوى زيادة في مراكمة الدين العام على الأمريكيين والذي تجاوز حتى نوفمبر الماضي الـ(36) تريليون دولار، وربما قد يكون هذا الأمر هو القاصم لهذا الكيان وقد بدأ يترنح بظهور فكرة الانفصال لدى بعض الولايات، وهزّ ما لم يكن حاصلا إلى ما قبل عقدين من الزمن في حالة الاتحاد.
ترامب بالعودة النارية التي استهلها بإطلاق التهديد والوعيد، رسم سياسته بوضوح تجاه الشرق الأوسط القائمة على العنف، وهي في ظاهرها تستهدف المنطقة لكنها لا تقف عند هذا الحد، وإنما تعني ردع باقي القوى العالمية الناهضة والتي تنافس البيت الأبيض بقوة على سيادة العالم وإن لم يكن بنفس الطريقة الأمريكية، كما أنها بطبيعة الحال محاولة لاستعادة الهيبة المهدورة والهيمنة على دول المنطقة وتزويد خزينة واشنطن بمليارات شعوبها المستضعفة، غير أن التحديات اليوم تبدو أكثر وضوحا وقساوة، وتعمُد ترامب تجاهلها لا يعني امتلاكه لمفاتيح حلحلتها بقدر ما هي استمرار للسياسة الأمريكية في البناء على ما تريده، وما هي مقتنعة به وإن كان ذلك متعارضا مع الواقع، كما أنها في عين الوقت محاولة للهروب من غيومها التي قد تثبّط عن الاستمرار إلى بلوغ الأهداف.
ولا يبدو أن ترامب كان بمقدوره اكثر من التلويح بمساعٍ وأهداف ويريدها أن تتحقق من تلقاء نفسها دون عناء أو جهد، مستندا في ذلك إلى أوهامه بالعظمة الأمريكية الكفيلة- حسب اعتقاده- بأن تدفع للرضوخ لها، فقبل أيام هدد بجحيم ينتظر الشرق الأوسط إن لم يتم الإفراج عن المستوطنين الأسرى لدى حماس، ويريد أن يكون ذلك كافيا لإخافة دول المنطقة كي تضغط للإفراج عن هؤلاء الأسرى، مع أن ذلك يعني إقراراً بهزيمة الكيان في تحقيق هدفه باستعادة الأسرى، ليستعين بصديق، وقبل أشهر تحدث عن توسيع خارطة الكيان الصهيوني، ويريد من ذلك إرهاب من بقي من أحرار الأمة بالعودة إلى مخطط توسع الكيان في تجرؤ سافر على كل المواثيق والعهود والمبادئ الدولية التي جاءت لحفظ حقوق الإنسان وحق الدول بالسيادة على أراضيها.
لا يتجاوز ترامب وحسب في مطالبته غير العقلانية، عشرات الآلاف من الأسرى الفلسطينيين من النساء والأطفال وكبار السن، بلا أي سبب سوى أنهم فلسطينيون، ولا يتجاوز كمّ مجازر الإبادة الجماعية التي ارتكبها ولا يزال الكيان الصهيوني في غزة والضفة، لكنه وهو المؤلم ربما، تجاوز، توقع أي مستوى من ردة فعل أنظمة المنطقة، باستضعاف واضح لها، وهو ما تسبب به وهن هذه الأنظمة منذ البداية فجعلها في متناول يد أمريكا متى ما أرادت، كما جعلها هامشية في حسابات أخرى للبيت الأبيض فلا يعيرها اهتماما ولا يحسب لها وزنا.
وإذا كانت فترة بايدن قد شهدت محاولات خجولة لإشعال الحرائق هنا وهناك فإن ترامب بنهج حزبه الذي يميل أكثر للحلول العسكرية، سيُدخل العالم في فوضى لتعويض عجزه في تحقيق أي مكسب لصالح شعار «أمريكا أولا»، لكنه أيضا سيجلب الكوارث لبلاده، إذ سيتجرأ الجميع أمام المخاوف من ما يمكن أن يلحق بهم، إلى فعل مضاد لأي تحرك أمريكي طائش، والقاعدة العلمية تقول إن «لكل فعل رد فعل»، وسيكون من الغباء أن يعتقد ترامب أنه سيمضي إلى أهدافه على طرق مفروشة بعبارات الترحيب والتمكين.
من حظ ترامب السيئ أنه يأتي على واقع مرتبك وفوضى يعيشها الشرق الأوسط بسبب بلطجة الكيان الصهيوني على العرب، وحقيقة أن هذه البلطجة تسببت في حصار بحري على الكيان الذي سمع صرخاته القاصي والداني بسبب آثار هذا الحصار عليه، كما يأتي ترامب وقد أجرت بلاده ما أمكن لها من المحاولات لاستعادة السيطرة على الوضع والتخلص من الأطراف التي ظهرت في مشهد المعركة بقوة كاليمن والعراق، إلا النتيجة كانت خلو البحر الأحمر من البارجات والمدمرات الأمريكية، ولن نقول انه يأتي وقد أصبحت مصداقية الشعارات الأمريكية مثيرة للسخرية، لأنه يدرك ذلك ويعي أن قاعدة أمريكا في اللعبة هي تجاوز كل شيء من أجل الوصول إلى الهدف.
ما ينتظر ترامب قد لا يهيء له أي فرصة من النجاح، لكنها يمكن أن تكون محاولته الأخيرة لإثبات أهليته في الإدارة السياسية، كما هو في الاقتصاد، خصوصا وأن الأمريكيين يؤكدون أنه لا يفقه شيئا في السياسة ودهاءه اكثر في الاقتصاد، رغم انه في نسخته الرئاسية الأولى أثبت أنه فاشل حتى في الاقتصاد بمفهومه الاستراتيجي الواسع الذي يعني الدولة، دون الاعتماد على البلطجة وفرض الجبايات على دول العالم.