المراسل الحربي لا ينقل “مجرد وجهة نظر”..!
زينب الطحان
معادلة شديدة المفارقة في الإعلام اللبناني؛ مراسلو بعض القنوات المناهضة يبثّون من الميدان الإحباط وروح اليأس؛ في حين تجد مراسلين آخرين من قنوات أخرى مقاومة أو مؤيدة، يقفون شامخين يصدحون بصوت عالٍ بما يبثّونه من أخبار ومعلومات تفيد كيف يجاهد المقاومون ويتصدّون لمحاولات جنود جيش الاحتلال “الإسرائيلي” التقدم باتجاه القرى الحدودية مع فلسطين المحتلة.. يروون لنا كيف تتجسد البطولات في ملاحم حقيقية بين رجال الله في الميدان وبين المغتصبين الصهاينة.. تأخذك ابتساماتهم إلى أرض المعركة؛ فتشعر بروح تلك البطولات الملحمية وبنفس شبان المقاومة، وهم ينزلون واديًا ويصعدون آخر..، حتى تختلط دماؤهم بدماء المقاومين فيسقطون شهداء رسالة الصحافة والاعلام على مذبح الوطن….
لماذا الحديث دومًا عن الأداء الإعلامي البغيض، والذي لا ينفكّ يبثّ الكراهية والفتنة وروح الانكسار، كي تؤثر في المجتمع اللبناني، وبخاصة في جمهور المقاومة وبيئتها؟ هذا الإعلام الذي امتهن بثّ ذلك الذل منذ زمن الاجتياح “الإسرائيلي” للبنان في العام 1982، مبشرًا بتطبيع “يعيد لبنان إلى ثقافة الحياة”؛ وكأنّ الحروب دومًا لها وجه واحد، وكأنها أحيانًا لا تقهر المعتدي وتنصر المظلوم والمضطهد.
إن المراسل الحربي، حين يكون منتميًا إلى أحد الفريقين المتحاربين، لا بد أن يكون له موقف محدّد وهوية واضحة وأدبيات ثقافية تميزه في تبني موقف بلاده.. ولكن المصيبة حين يكون هذا البلد منقسمًا حول تحديد العدو من الصديق بشكل يفوق التصديق حيال قضايا وطنية صرفة.. لن تجد في بلد، يتعرض للاحتلال وقصف معادٍ على معظم مناطقه، أناسًا يدافعون عن هذا الاحتلال!! هناك بلدان تعاني أزمة هوية تمامًا مثلما حال لبنان؛ ولكنك لن تجد هذا الانقسام حيال الوطنية والفداء والتضحية والصبر حين تتعرض بلدانهم إلى احتلال أو عدوان خارجي مهما كان حجمه ونوعه…
تاريخيًا؛ بدأت فكرة نقل أحداث الحروب وتوثيقها قبل آلاف السنين، فقد أضفت كل الحضارات القديمة الطابع الأسطوري على الحروب ومجدّت المحاربين والجيوش، ووضعتهم أحيانًا في منزلة الألهة. وثّقت الرسوم المصرية القديمة المعارك والآلات الحربية على جدران المعابد مثل اللوحة الأشهر للملك “رمسيس الثاني” في معركة “قادش” وهو يقود عجلة حربية. وحكت أعمال الشاعر اليوناني الأشهر “هوميروس” في “الإلياذة” و”الأوذيسة” عن حرب طروادة وعواقبها، كما أحيا “وليام شكسبير” ذكرى حروب إنكلترا في مسرحياته، وصوّر “جون ميلتون” في ملحمته “الفردوس المفقود” المعارك بين جيش الخير وجيش الشر.
كذلك يذكر التأريخ أن من عداد المراسلين الحربيين القدامى مؤرخين؛ كالمؤرخ اليوناني “ثيوسيديدس”، والذي كتب عن الحرب “البيلوبونيسية” اليونانية القديمة في العام 424 ق. م؛ وكذلك الإمبراطور الروماني “يوليوس قيصر” الذي وصف غزوه لبلاد الغال القديمة. وعندما اجتاحت الحروب العالم؛ كان المراسلون الحربيون الأوائل جنودًا يرسلون الأخبار من المواقع العسكرية والخطوط الأمامية. وشهد القرن التاسع عشر تسلّم أول مراسلين حربيين لهذا العمل، وهما هنري كراب روبنسون من صحيفة “لندن تايمز”، وتشارلز لويس غرينسون من صحيفة “لندن مورنينغ بوست”، وبعد ذلك لم يعد يسمح للجنود بالعمل مقاتلين ومراسلين في الوقت نفسه. وكانت حرب فيتنام هي الحرب الأولى التي تبث تلفزيونيًا في وقتها الفعلي تقريبًا. منذ تلك الحرب أصبح الفيديو والتلفزيون أدوات أساسية للمراسلين.. ومع استقلال مهنة المراسل الحربي احتاج المراسلون، رجالاً ونساءً، إلى المعرفة والسرعة نفسها.
لا يفوتنا أن نذكر أن هناك أدباء وكتّابًا قد مارسوا مهنة المراسل الحربي: أندريه مالرو، أرنست همنغوي، محمد حسنين هيكل، جمال الغيطاني، وغيرهم. هؤلاء واجهوا مخاطر الموت ونقلوا للعالم أخبار الحرب في حينها، ثم كتبوا فظائعها في روايات عالمية أو أعمال أدبية كما فعل همنغوي في رائعتيه “لمن تقرع الاجراس” و”عبر النهر ونحو الأشجار”، وفعل ذلك مالرو في روايتيه “الأمل” و”الغزاة”. هؤلاء تركت تقاريرهم تأثيرًا مباشرًا في الجمهور والمتلقين؛ وما يزال التاريخ يذكر مذكرات الصحفي والكاتب المصري الراحل محمد حسنين هيكل وكتبه العديدة ودوره السياسي البارز إلى جانب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
إن هؤلاء المراسلين يؤدون دورًا لا يقلّ أهمية عن دور المحارب أو الجندي أو المقاوم؛ فهم الصوت الثاني في المعركة الذي لا يعلو عليه صوت آخر. لذلك؛ من الخطورة، ونحن نمرّ في أعظم حرب تخاض ضد العدو الصهيوني على الإطلاق، أن ينأى المراسل الحربي في بلادنا بنفسه عن إنجازات رجال المقاومة في الميدان، والأخطر أن يكون متبنيًا لسردية العدو، سواء عرف قصدًا أم لم يعرف..!
إن هؤلاء المراسلين هم بحد ذاتهم مؤرخون لميدان الحرب لاحقًا؛ نذكر على سبيل المثال كتاب “على الخط الأمامي: التغطيات الصحفية”؛ هو مجلد ضخم يضمّ نحو 100 تغطية صحفية كتبتها “ماري كولفين” الصحفية الأميركية من صحيفة “صنداي تايمز” البريطانية لمدة 27 عامًا. وهو أقرب لمرجع عن القصص الإنسانية.. أما أهمّ المراسلين الغربيين “روبرت فيسك” الذي كتب “الحرب العظمى من أجل الحضارة.. غزو الشرق الأوسط”. لقد امتلك “فيسك” خبرة كبيرة في منطقتنا وموهبة كتابة أدبية، مع أسلوب باحث تاريخي متميز، بصرف النظر عن رأينا بانحيازه إلى الاحتلال “الإسرائيلي”. أما كتاب “صحفيون على خط النار: حرب المعلومات والممارسات الصحفية” فهو واحد من أفضل الكتب التي تناولت تغطية الصراعات في عصرنا الحالي من ناحية صحفية. أدى مؤلفانه “هوارد تمبر” و”فرانك ويبستر” دورًا رئيسًا في حرب المعلومات، فقد نقلوا لكل العالم معلوماتهم عن تلك الصراعات التي كانوا على تماس معها في خط النار.
كذلك كتاب “المراسِلات: ست كاتبات في الخطوط الأمامية للحرب العالمية الثانية”. تروي “جوديث ماكريل” صفحات الكتاب التاريخ المثير غير المروي لمجموعة من المراسلات البطلات اللواتي أحدثن ثورة في نقل أحداث الحرب العالمية الثانية. وفي عالمنا العربي تجارب مماثلة، يعرفنا إليها كتاب “نساؤنا في الأرض” للصحفية اللبنانية الأصل “زهرة حنكير”، والذي يوثق قصص صحفيات عربيات أثبتن تميزًا وشجاعة في مناطق الصراع الأكثر خطورة في العالم. يجمع الكتاب حكايات 19 صحفية من عالمنا العربي حققن نجاحًا في مجال الصحافة، ومنهن السورية “زينة رحيّم” والفلسطينية “جاين عراف” والصحفية واليمنية “أميرة الشريف” الشهيرة بعملها في توثيق حياة النساء اليمنيات.
جميع هؤلاء المراسلين وغيرهم، ممن لا يتسع المجال لذكرهم، انحازوا إلى الطرف الذي كانوا ينتمون إليه، سواء من الناحية الإنسانية والعسكرية والاجتماعية..ونحن هنا في لبنان، كم ندفع أثمانًا كبيرة بسبب نظرتنا إلى هذه الحرب الوجودية إلى أنها مجرد وجهة نظر ..!!