“إسرائيل” من التوسع إلى الانحسار
طالب الحسني
خلال ثلاثة أسابيع من القتال على الحافة على الحدود الفلسطينية اللبنانية، يتكبد العدو الإسرائيلي خسائر صادمة لم يتمكن من إخفائها رغم الرقابة العسكرية المشددة.
لم يكن هذا مستبعدا بالنسبة لجبهة حزب الله، لا يزال الحزب يملك اقتدار أكبر، ولكن بهذا المستوى من المواجهة وجد نتنياهو ومعه الكيان في مأزق حقيقي لا يتعلق فقط بالفشل والخسائر وإنما بما سيبدأ لاحقا منعكسا عن ذلك وبما يدفع إليه الحزب، إفراغ المستوطنات شمال الأراضي الفلسطينية.
في كل مرة كان يذهب كيان الاحتلال الإسرائيلي إلى حرب أو مذبحة أو استفزاز ما، كان يعود إلى مساحة معينة يجد فيها زمانا ومكانا ونسبة من الاستقرار لترتيب نفسه إلى أن يعود لجولة جديدة وهكذا وبغض النظر إن كان قد ربح أو خسر، ساعده في ذلك أنه فضل الحروب الخاطفة.
بإجماع داخلي “إسرائيلي” وخارجي إقليمي ودولي، وبالضرورة يدخل في هذا محور المقاومة، لم يعد هناك أي مساحة مكانية وزمانية صالحة لعودة كيان العدو الاسرائيلي لمعالجة ما احدثته هذه الحرب المستمرة بينما تدخل عامها الثاني بأفق مفتوح على كل الاحتمالات، وهذه النتيجة مسندة إلى ما سيحصل عقب الحرب التي ستنتهي حتما وهذا يعني أن اليوم التالي غير واضح بالنسبة لكيان العدو الإسرائيلي وفي أفضل الأحوال فهو غير إيجابي ويحمل تداعيات وخيمة تتعلق هذه المرة بمصير الاحتلال ككيان ووجود وليس فقط مصير نتنياهو واليمين المتطرف مثلما يعتقد البعض.
التصريحات الإسرائيلية التي تؤكد أن ما يجري حرب وجودية كثيرة وقد تبلغ الاجماع وسواء اقترنت بمقولات “موروثة” على غرار “لعنة العقد الثامن” وغيرها أو كانت مقرونة بطبيعة الحرب الحالية واختلافها عن جميع جولات الحروب السابقة فهي إقرار قطعي بأن خسارتها ستعني أن انهيار الكيان وزواله يحدث الآن وفي هذه المعركة وليس هناك معركة أخرى جديدة حتى إن حدث توقف واستئناف فهي امتداد لهذه وليست ولن تكون منفصلة.
يمكن رؤية أنها وجودية ببساطة شديدة عندما يتم التدقيق في نتائجها حتى اللحظة وما يمكن أن يتراكم عليها خاصة مع توسعها وانتقال العدو الإسرائيلي من غزة إلى لبنان وحتما إسرائيليا ستتوقف هنا لأن توسعها أكثر سواء كانت مع الجمهورية الإسلامية في إيران أو سوريا فإنها ستنتقل لتصبح أمريكية وبريطانية وربما أوسع، على أن ذلك لا يعني عدم وجود الدور الأمريكي البريطاني في المعركة بنطاقها الحالي فهو واضح ولا تنكره واشنطن ولندن.
يتكرر الحديث عن خارطة “إسرائيل الكبرى” كمشروع صهيوني قائم على التوسع، يتم استدعاء ذلك من بوابة أن قادة كيان العدو الإسرائيلي ومرجعياته “الدينية” والسياسية يأملون في تحقيقه، لكنه في الحقيقة تحول من مشروع إلى “حلم” توقف الكثير من مفكري وسياسيي الكيان المنتمين إلى الوسط واليسار كالعلمانيين عن ترديده وتركوا ذلك لليمين المتطرف، فعلوا ذلك ليس لأنهم لا يريدون ولكن لأنهم يرون أن ذلك أصبح كلاما يستدعي التندر باعتباره غير واقعي وبعيد المنال، وحتى حين يذكر على ألسنة بعض المتطرفين أمثال سيموتريتش وبن غفير فهم يقولون ذلك مع شعور كبير “بالخجل”.
لقد تعزز اليقين بأن “إسرائيل” غير قادرة على تحقيق ذلك منذ زمن طويل قد يمتد إلى 40 عاما، وهو يقين بالعجز لم يكن موجودا من مطلع خمسينيات القرن الماضي حتى أواخر سبعينياته.
هذا المدخل ضروري لرؤية انهيار “إسرائيل” من الخارج مثلما يراها الكثير من الإسرائيليين من الداخل.
سيطول السرد ا إذا أخذنا ذلك على مسار كيف حدث ذلك؟ ويكفي أن نرى كيف تنهار “إسرائيل” اليوم، ولماذا؟ والأهم من الأطراف التي قادتها إلى هذا المصير؟
من المفارقات التاريخية التي لا يمكن لكيان الاحتلال الإسرائيلي أن ينساها أن “فرحته” بعزل مصر عبر توقيع كامب ديفيد كدولة محورية في الصراع معه، لم تدم سوى بضعة أشهر، وتحديدا من 17 سبتمبر 1978 حيث وقع الرئيس المصري أنور السادات ورئيس وزراء كيان العدو الإسرائيلي مناحيم بيغن كامب ديفيد، وحتى 11 فبراير 1979 عندما أعلن عن انتصار الثورة الإسلامية في إيران وسقوط الشاه كأحد أكبر حلفاء الكيان في الشرق الأوسط. وقد كان ذلك واحد من أهم التحولات الإقليمية وربما الدولية إذا نظرنا إلى الحدث من مسافة أبعد، وعلى الفور سجل ذلك نقطة لصالح القضية الفلسطينية.
عزلت مصر من الصراع مع كيان العدو الإسرائيلي ودخلت إيران كداعم رئيسي بسقف مرتفع وبلا حدود للقضية الفلسطينية، لقد ولد محور المقاومة منذ ذلك التاريخ، وتوقف التمدد الإسرائيلي منذ ذلك التاريخ أيضا.
سنتجاوز نحو 4 عقود حيث نقف الآن 2024 بينما تقوم حرب وجودية بالنسبة لكيان العدو الإسرائيلي وحرب تحرير بالنسبة للمقاومة الفلسطينية وكذلك المقاومة الإسلامية في لبنان حزب الله مرورا بسوريا والعراق ووصولا إلى اليمن وانتهاءً بالجمهورية الإسلامية في إيران الحليف الأكبر والداعم الرئيس لمشروع التحرر.
لقد تكون هذا المحور بالصيرورة العقائدية وضمنها مركزية فلسطين وقضيتها وبالموقف من الاحتلال الإسرائيلي، فمثلما تكونت المقاومة الفلسطينية حماس والجهاد وحملت البندقية مطلع ثمانينات القرن الماضي تكونت المقاومة الإسلامية في لبنان حزب الله في الفترة نفسها، وخاضوا معارك منفصلة وغير منفصلة في آن واحد بالطريقة نفسها وبقدر متقارب من الايمان والتضحية والشهداء.
إن أول انحسار لكيان العدو الاسرائيلي بقوة المقاومة صنعه حزب الله والشهيد السيد حسن نصر الله حين طرد الاحتلال من جنوب لبنان في العام 2000، كان ذلك انتصار حاسم وهزيمة كبيرة للعدو الإسرائيلي بعد قرابة عقدين من عدم القدرة على التوسع.
بعد 5 سنوات فقط حدث انحسار آخر وهزيمة أخرى عندما انسحب المجرم ارييل شارون من غزة عام 2005 وهو أول تخل إسرائيلي بفعل قوة المقاومة عن أراض فلسطينية محتلة، وطوال نحو عقدين آخرين لم يربح العدو أي حرب مع المقاومات الإسلامية في فلسطين ولبنان.
وبالتوالي فقد العدو الإسرائيلي القدرة على التوسع ثم خسر حروب مع المقاومات وبالضرورة خسر القدرة على التحكم في تطور المقاومات وتنامي قدراتها العسكرية والتسليحية وهو الآن وسط حرب توقيتها ويعتبرها مصيرية ووجودية لكنه غير قادر على الانتصار بعيدا عما يقوم به من جرائم إبادة.
قبل أسابيع قليلة أظهرت استطلاعات رأي إسرائيلية أن 86% من المستوطنين الذين غادروا مستوطنات غلاف غزة لا يرغبون في العودة إليها، وبالقياس بأرقام مضاعفة ينسحب الأمر على المستوطنات المحاذية للحدود اللبنانية شمال فلسطين.
إن هذا التخلي عن الاستيطان وإفراغ المستوطنات بفعل المقاومة، لبنانية فلسطينية وعدم قدرة العدو الإسرائيلي تحقيق العكس من خلال هزيمة المقاومة يعني انحسار قسري جديد وذلك يحدث مرة أخرى بعد انحسار 2000- 2005، يضاف إلى ذلك الكثير من الدلائل المتعلقة بالهجرة العكسية وهو مسار طويل.