الالتحامُ المباشر
اعتمد قدامى المحاربين على استراتيجيةٍ قتاليةٍ في المعارك العسكرية، ولربما كانت استراتيجيةً قد لا تُغفَلُ كجزءٍ من المعركة مرحلي ومن أول الأوليات التأسيسية في توجيه سير المعركة لا يُستغنَى عنها، بل إن إغفالَها يُمَثِّلُ خللًا له تبعاتُه التي تغيِّرُ سَيْرَ مجرى المعركة.
وأمام هذه الاستراتيجية القتالية ذات الأهميات المتراكبة التي تشد الألباب للتعرف عليها إلا أنه يستدرك معلومة مركزية تخفف من وطأة إلحاح الفكر الطالب والمتعطش معرفيًّا والمتطلع نحو إثراء الاستراتيجيات التي تنحرف بسير مجرى المعارك عن الانحدار المتقهقر إلى الوراء.
أما المعلومة المركزية؛ فهي أن يؤخذ بعين الاعتبار أن تلك الاستراتيجية القتالية تعد عاملًا من عوامل النصر لا تحقّق النصر، ولا تحسم المعركة.
وبعد التمهيد الآنف سرده؛ بكونه لازمةً معياريةً وأرضية رصينة تخفقُ في ميدانها التخمينات الارتجالية؛ فالارتجالية مساحتها الصفرية العددية في إدارة المعارك؛ ولهذه من التمهيدات المرحلية كأولوية في إدارة المعركة هي: (رمي العدوّ بالسهام) وبكثافة عددية مركَّزة على نقاط الضعف لا نقاط القوة لدى العدوّ.
ولكن: ما مدى جدوائية استراتيجية قدامى المحاربين بوصفها عملية بسيطة عند قرنها في المعاصرة بالعمليات المركَّبة والمتناهية تعقيدًا جراءَ تقنيات الثورة الصناعية العسكرية؟
نعم؛ لقد اعتمدت الثورة التقنية المعاصرة على قفزات تطورية في العنصرَين العسكريَّينِ الأَسَاسيَّينِ:- الأول (العنصر التخطيطي) المعتمد على دراسات بحثية علمية في مراكز التطوير الحديث، والعنصر الآخر (العنصر التقني) المعتمد على (ضغطة زر) بالسبابة التي تحمل تداعيات قوة تدميرية قد تُهلِكُ مُدُنًا في فينة واحدة.
وعلى الرغم من تلك التقنيات العسكرية العصرية المعقَّدة؛ إلا أن تلك التقنيات تقف أمام قدامى المحاربين، كتلميذ نجيب متوقد الفكر يمج مَجًّا استراتيجيتهم القتالية، ويهضمها ثم يمزجها بعناصر معاصرته العسكرية لعيد إنتاجها؛ مواكبةً لتقنيات معاصرته، فقط وفقط.
ولا أدلَّ على ذلك ما يطلق عليه في الخطط العسكرية المعاصرة: (عملية الأرض المحروقة) فهي ذاتها: (عملية رمي السهام) وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [سُورَةُ الأَنفَالِ: ١٧- ١٨] فيتراءى في الآيتين أهميّة استراتيجية الرمي في كونها عاملًا مهمًّا يوهن ويضعف ما خطط له العدوّ في المعركة من ألفها إلى يائها؛ لكنها لا تحسم المعركة.
ولذا تستهل الجيوش المعاصرة عملياتها العسكرية في المعارك بالقصف على ميدان الخصم من الجو والبر والبحر وعن بُعد بالصواريخ والقذائف -كمرحلة تمهيدية أولية- تهيِّئُ ميدانَ المعركة، كعامل أَسَاسي مرحلي يضعف قدرات الآخر؛ لكن من المقطوع به عسكريًّا أن القصف عن بُعد مهما بلغت كثافة نيرانه لا يحسم سير مجرى المعركة؛ إنما يحسمها (الالتحام المباشر) بل هناك جيوش اعتمدت على سياسة: (الأرض المحروقة) وبكثافة نيرانية لربما تفوق ما قد يستعان به عند الالتحام المباشر لتتفاجَأَ فينةَ الالتحام المباشر بأن الالتحام المباشر غيَّرَ وجهَ المعركة نحو الضدية وبدرجة هندسية قد تبلغ (١٨٠ درجة) والعدوان السعوأمريكي على اليمن أنموذجًا لذلك.
يقول الله “سُبحانَه وتعالى”: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ} [سُورَةُ الأَنفَالِ: ١٢] ويقول جل شأنه وعظم: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [سُورَةُ مُحَمَّدٍ: ٤].
في الآيتين العظيمتين إشاراتٌ تشف عن آليات قتالية عند الالتحام المباشر بالعدو، ومسبوقة اقتضاء ضمنيًّا بتوجيه إلى طلب الالتحام المباشر، فضلًا عن كونه مسلَّمة عسكرية لا يحسم المعركة بسواه.
ومع الامتداد الزمكاني لمعركة (طوفان الأقصى) يتراءى اتساعُ المساحة الزمنية التي طالما يتحاشاه العدوّ الإسرائيلي في حروبه؛ إذ يعتمد على عمليات عسكرية بمساحات زمنية قصيرة؛ كلما كانت أضيق كان تحقيق أهدافها أنجع، ثم يتراءى اتساعُ المساحة الجغرافية للمواجهة التي طالما سعت خطط العدوّ الإسرائيلي إلى تحييدها؛ ولذا هدّد العدوّ الأمريكي دول المنطقة فينة عملية (طُوفَان الأقصى) بعدم التدخل على كُـلّ المستويات حتى على المستوى الإنسان؛ فخضع لتلك الإملاءات المطبوعون، وإن لم يكن يستدعي تهديدهم، فهم صهاينة الهوى، إسرائيليو الولاء.
وانبرى محور الجهاد والمقاومة بشكل مباشر في خضم المعركة، وكان الرد اليماني على تهديدات العدوّ الأمريكي رَدًّا مشرِّفًا يليق بشعب الإيمان والحكمة، يمن الأنصار؛ ومفاده: نحن من لا يخضع لإملاءاتكم، فافعلوا ما بدا لكم.
وبالعودة لمصطلح: (الالتحام المباشر) نعم؛ لقد كانت جبهات المساندة للشعب الفلسطيني في معركة (طُوفَان الأقصى) فاعلة جِـدًّا سواء بالصواريخ أو المسيّرات التي قصفت عقر دار المغتصب، منها قطع الطرق البحرية للعدو، وليس المقام الاسترسال في تلك الثمار؛ فالآفاق تدعو الناظرين لتكتحل أنظارهم بها.
إن لم يكن من تلك العمليات المساندة إلا عبارة سيد الفعل قبل القول السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي -يحفظه الله-: “لستم وحدكم، الله معكم، ونحن معكم” فلها دلالات واسعة، وترتب عليها الفعل القوي والمؤثر لمحور الجهاد والمقاومة، وما تم تحقيقه إسناديًّا هي عمليات تمهيدية توهن جِـدًّا كيان العدو، ولكنها لا تحسم المعركة، وهذا ما أشار إليه السيد القائد فالخلاص من الغدة السرطانية ليس بسوى الالتحام المباشر بالعدو، حَيثُ قال -يحفظه الله-: لو فُتِحَ طريقٌ آمن لتحَرّك المجاهدون اليمانيون بمئات الآلاف إلى فلسطين.
ويشفع هذه الرؤية إطلاق السيد القائد على المعركة مصطلح: (الفتح الموعود والجهاد المقدَّس)؛ فمما يشيرُ إليه المصطلحُ أَلَّا فتح إلا بالالتحام المباشر، ويؤكّـد الشفع لهذه الرؤية قوله -يحفظه الله-: “وسيتفاجأ العدوّ في البر بما تفاجؤوا به في البحر” وللمستقرئين التحليليين التوسع في ذلك.
وليس ما قدمه السيد القائد من رؤية ناجعة للحل الجذري بالالتحام المباشر لم يكن ببعيد عن الرؤية القرآنية؛ إذ قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ليَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [سُورَةُ الإِسرَاءِ: ٧] وهو الالتحام المباشر الذي طالما خشية العدوّ ويخشاه؛ فقال تعالى: {لَا يُقَـاتِلُونَكُم جَميعًا إِلَّا فِي قُرى مُّحَصَّنَةٍ أَو مِن وَرَاءِ جُدُرِ} [سُورَةُ الحَشرِ: ١٤].
وقال تعالى: {لَن يَضُرُّوكُم إِلَّا أَذى، وَإِن يُقَـٰتِلُوكُم يُوَلُّوكُمُ الأَدبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ وضُرِبَت عَلَيهِمُ الذِّلَّةُ أَينَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبل مِّنَ اللَّهِ وَحَبل مِّنَ النَّاسِ وَبَاۤءُوا بِغَضَب مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَت عَلَيهِمُ المَسكَنَةُ، ذَ لِكَ بِأَنَّهُم كَانُوا يَكفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقتُلُونَ الأنْبياءَ بغيرِ حَقٍّ، ذَ لِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعتَدُونَ} [سُورَةُ آلِ عِمرَانَ: ١١١ – ١١٢].
وليست التعبئة العسكرية بمئات الآلاف من اليمانيين إلا في سياق الإعداد لمعركة الالتحام المباشر، وذلك ذاته في مناورات الجيش اليمني في محاكاة لبيئة تحصينات العدوّ الإسرائيلي.
وأخيرًا: نعم؛ الالتحام المباشر المجتَثُّ للعدو الإسرائيلي حتميةٌ إلهية؛ لكن متى؟
قال تعالى: {وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا، نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [سُورَةُ الصَّفِّ: ١٣].
وعملياتُ جبهات الإسناد والتعبئة العامة هما تمهيداتٌ متصلةٌ لا تنفصلُ عن معركة: (الفتح الموعود).