جبهة الإسناد اللبنانية.. المتغيّر والثابت
لا شكّ أنّ حزب الله كان أمام واحد من أكثر التحديات صعوبة التي واجهها منذ بداية طوفان الأقصى، وهو اغتيال “إسرائيل” القائد العسكري في الحزب فؤاد شكر، ففيما كانت أيام “إسرائيل” ولياليها طويلة، من قلق الانتظار والاستنفار، نجحت المقاومة رغم ذلك في تنفيذ ردّها، نفّذ الحزب وعده بالردّ، فلا جاء متسرّعاً ولا أحبط الزمن عزيمته.
هذا في البعد السياسي تثبيت لمعنى الإسناد، إذ كان الحزب حريصاً على عدم الانجرار إلى حرب إقليمية أو إلى ضربة كبيرة، في خطوة عقلانية مدروسة حقّق الحزب حتمية الردّ، لكنه تمسّك بفطنة إدراك الحد، ومنع التدحرج إلى حرب شاملة يشتهيها نتنياهو ويسعى جاهداً لاستدعائها واستدراج البوارج الأميركية إلى سواحل المنطقة.
في عالم يعيش اليوم بلا صمامات أمان استطاع حزب الله أن يعيد صورة الردع كما يريد هو وليس كما يفرضها الإسرائيلي، امتلك جرأة الرد والردع، وحكمة الصبر والتأني، وزاوج بين الحماس والعقلانية، ولم يخرج الحزب عن قاعدته الأولى منذ مشاركته في إسناد غزة وهي عدم الانجرار إلى حرب ليست من اختياره توقيتاً وساحة وشكلاً ـــــ طالما يستطيع إلى ذلك سبيلا ـــــ ضابطاً إطار أهدافه بالعسكرية ومستبعداً المدنيين من دائرة الاستهداف.
قواعد جبهة الإسناد الثابتة
1- لا للحرب: العارف بأدبيّات حزب الله، يدرك ما تحاول أصوات كثيرة عبر التشويش والتضليل تركه من انطباع وكأنّ الحزب يريد الحرب، في حين أنّ أداءه يظهر العكس تماماً، فقد التزم منذ اليوم الأول بقواعد اشتباك محدّدة وواضحة، ولم يخرج عن الضوابط التي وضعها لنفسه منذ اليوم الأول، على عكس الجانب الإسرائيلي الذي حاول غير مرّة جرّه إلى الحرب، بالاستفزاز حيناً وتجاوز الخطوط الحمر حيناً آخر، ما قام به حزب الله كان منسجماً مع الاستراتيجية فهو لا يريد حرباً شاملة، وقرّر رسم إطار لدوره، رافضاً الانزلاق إلى أي كمين إسرائيلي سواء في لبنان أو في المنطقة.
2-لا ضربة قاضية: منذ اللحظات الأولى لطوفان الأقصى قرأ الحزب المشهد وأعلن مراراً أنّ الحرب مع الكيان لن تكون بالضربة القاضية والنهائية، شغّل جبهته وفق قاعدة تجميع النقاط، قاعدة تحتاج إلى الروية والهدوء والثبات فكان الردّ مدروساً مركّزاً مكثّفاً ودقيقاً، بعيداً من “الكمّ غير المجدي” أو “الاستعراض الدعائي”.
3-لا جمود في الردود: جاء التصعيد عبر الأشهر الماضية تدريجياً وتراكمياً وذكياً، لم يتوقّف التطوّر النوعي في عمليات المقاومة اللبنانية، فتخطّت المقاومة اللبنانية في إسنادها لقطاع غزة مجرّد إشغال “الجيش” المحتل وإلحاق الضرر ببناه التحتية ومستعمرات الشمال، أكثر من 2500 عملية ضد الكيان، عزّزت مفهوم “جبهة الإسناد” أي استنزاف للخصم، وبلورت قناعة إسرائيلية أنّ سرّ ثبات موقف حماس في المفاوضات يتصل بالتطورات النوعية التي تشهدها الجبهة الشمالية مع لبنان.
قواعد جبهة الإسناد المتغيّرة
هنا لا بدّ من أن نقف أمام مواجهة أخرى غير عسكرية إنها حرب السرديات وليس فقط الإمكانيات، فقد كشفت جبهة الإسناد في شمال الأراضي الفلسطينية المحتلة خللاً بنيوياً في “إسرائيل”، وتضارب روايات الاحتلال وضعفها في تقديم سردية لما حدث ويحدث ما ضاعف نقمة المستوطنين، إذ ظهر أنّ دم مستوطنات الشمال ودم “تل أبيب” ليس متشابهاً، هذه الفكرة عبّر عنها بوضوح محللون إسرائيليون قالوا إن ((الحكومة الإسرائيلية تركت مستوطني الشمال كالبط في حقل الرماية مقابل صواريخ حزب الله في الشمال المهمل، الغضب وصل بهم إلى اعتبار أنّ “إسرائيل” استخدمت سكان الشمال كبيادق بيد الحكومة و”الجيش” مقابل حزب الله، وفي النهاية عندما يستيقظون في الحكومة الإسرائيلية، فلن يتبقّى شيء من الشمال من أجل القتال عليه)).
هذا في الرواية الإسرائيلية المباشرة (ما يقال رسمياً، وما يقال شعبياً) أما ما يقال بلسان غير عبري فتظهر فيه عبارات التسخيف والتشكيك وإشاعة الإحباط، مع مساعٍ حثيثة ومحاولات مقصودة لإفراغ أفعال الحزب من مضمونها وتأثيرها.
لا يجوز بكلّ الأحوال أن تصنّف الأصوات المعترضة على حجم ردّ المقاومة ضمن فئة واحدة، فنحن نتحدّث عن موجة تتراوح فيها النوايا والخلفيّات وتتغيّر، لكنّ الثابت يبقى أنّ هذا جزء من معركة الوعي والثقافة والأخلاق، تحضر فيها كلّ أشكال التهويل والتخريف والتنجيم، أصوات تجدها خرساء عندما تنتهك “إسرائيل” يومياً سيادة لبنان، وتعربد بالتضليل والتشويش ضدّ الحزب إذا دافع عن أرضه وإخوته، وهو ما يشكّل أزمة أخلاقية بالدرجة الأولى، قبل أن تكون وطنية.
الأصل وبيت القصيد في قاعدة جبهة الإسناد رسالة عسكرية لـ “إسرائيل”.. لا لفكّ الارتباط بين المقاومتين الفلسطينية واللبنانية ولا سبيل لوقف نار الشمال إلّا بإخماد حريق الجنوب، فهدوء جبهة لبنان مرتبط بوقف إطلاق النار في غزة، أما الرسالة الأهم فهي وجدانية أخوية وفية لكلّ فلسطيني في غزة… أنت لست وحدك.