مراحل التصعيد اليمني … نموذج مثالي في إدارة المعارك
رضوان العمري
إن الاستراتيجية التي اتخذها اليمن في التعامل مع العدو الصهيوني وداعميه في معركة البحار، من خلال التحكم بمسار المعركة و الإمساك بخيوطها ورسم حدودها، أثبتت فعاليتها ونجاحها ونجاعتها بصورة جعلت العالم كله في حالة من الدهشة والذهول، نظراً لفوارق القوة والإمكانات بين طرفي المعركة (اليمن من جهة والتحالف الأمريكي والغربي من جهة أخرى)، وما يثير الاندهاش أكثر أن نسبة النجاح لم تكن ضئيلة بل كانت مرتفعة لدرجة عدم استقبال ميناء أم الرشراش “إيلات” إلا قرابة سفينتين لأكثر من 8 أشهر، وبرغم أنه معروف أن الإسرائيلي يتكتم عن خسائره خلال المعارك سواءً كانت خسائر بشرية أو عسكرية أو اقتصادية، إلا أن مدة الحصار اليمني لميناء أم الرشراش “إيلات” والخسائر التي يتكبدها الميناء، جعلت إدارة الميناء تفقد صبرها وتعلن إفلاسه وتطلب الدعم من الحكومة الإسرائيلية، بل إن مدير الميناء جدعون غولبر قال في أحد تصريحاته بداية يونيو الماضي:” لا توجد حلول، لإعادة فتح الميناء، ومع ضعف دول التحالف في البحر الأحمر، نحن مستعدون أن ندفع فدية لـ”الحوثيين” مقابل العبور عبر باب المندب”.
إن الحصار اليمني الشامل الذي فرضته القوات المسلحة اليمنية على ميناء “أم الرشراش” جاء كنتيجة لسلسلة من النجاحات التي حققتها القوات المسلحة اليمنية في مسرح العمليات الممتد من البحر الأبيض المتوسط شمالاً مروراً بالبحرين الأحمر والعربي وصولاً إلى المحيط الهندي جنوباً، وهذه النجاحات لم تكن لتحقق في ظل غياب الاستراتيجية التي اعتمد عليها اليمن في التعامل مع المعركة بعد عون الله.
*مراحل التصعيد القائمة على عنصر المفاجأة
قبل دخول اليمن في معركة طوفان الأقصى، كان الجميع يتساءل عن إمكانيات وقدرات القوات المسلحة اليمنية التي تؤهلها لفتح جبهة ضد الكيان الإسرائيلي إسناداً لغزة، خصوصاً بعد التصريحات والتلميحات من القيادات الثورية والسياسية بأن صنعاء ستتدخل في حالة ما إذا قدّم الأمريكان دعماً للكيان الإسرائيلي، وكانت المفاجأة في 31 أكتوبر 2023، بإعلان القوات المسلحة اليمنية تدشين المرحلة الأولى ضد الكيان الإسرائيلي بتنفيذ عملية عسكرية _بعد عمليتين غير معلنتين_ تمثلت بإطلاق صواريخ باليستية ومجنحة وطائرات مسيرة على أهداف للعدو الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، وكان هذا الإعلان بمثابة صدمة للجميع، بحيث أن هذه المرحلة كشفت جزء من القدرات العسكرية للقوات المسلحة اليمنية.
ولم تقتصر المرحلة الأولى على إطلاق الصواريخ والمسيرات نحو الأراضي الفلسطيني المحتلة، بل إن القوات المسلحة اليمنية أعلنت في 19 نوفمبر 2023 عن توسيع العمليات لتشمل استهداف السفن التي تحمل علم الكيان الإسرائيلي، والسفن التي تقوم بتشغيلها شركات إسرائيلية، والسفن التي تعود ملكيتها لشركات إسرائيلية، وفي اليوم نفسه أعلنت القوات المسلحة اليمنية استيلاءها على السفينة الإسرائيلية “جلاكسي ليدر”، ومثلت هذه العملية تحول نوعي في مسار التصعيد اليمني، بحيث أنها أثبتت جرأة وجدية القوات المسلحة اليمنية وهو ماشكّل صدمةً أخرى للكيان الإسرائيلي.
ومع مرور الوقت ومع اعتقاد سلطات الكيان أن بإمكانها امتصاص عمليات هذه المرحلة من خلال التصدي للصواريخ والمسيرات المتجهة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة من جهة، واستخدام التمويه والتلاعب بالمعلومات على السفن المتجهة لموانئهم أثناء عبورها في البحر الأحمر، اتجهت القوات المسلحة اليمنية لتدشين المرحلة الثانية من التصعيد.
وعندما أدرك اليمن بأن الكيان الإسرائيلي أصبح شبه قادر على استيعاب المرحلة الأولى قفز إلى الأمام وأعلن مرحلة جديدة من التصعيد، حيث أعلنت القوات المسلحة في 9 ديسمبر 2023م، عن منعِ مرورِ السُّفُنِ المتجهةِ إلى الكيانِ الصهيونيِّ من أيَّةِ جنسيةٍ كانتْ في البحر الأحمر، إذَا لم يدخلْ لقطاعٍ غزةَ حاجتُهُ من الغذاءِ والدواءٍ، وذلك في إطار توسيع الحصار على موانئ الكيان وقطع أحد الشرايين الاقتصادية للكيان.
وفي هذه المرحلة فقد الكيان الإسرائيلي صبره وتوازنه واستعان بالأمريكي لممارسة الضغوط السياسية والعسكرية ضد اليمن، وبعد مرور حوالي أسبوع من هذه المرحلة أعلن وزير الدفاع الأمريكي عن تشكيل تحالف ماسمي ب”حارس الازدهار” في 18 ديسمبر 2023 بغرض حماية السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر وتحييد الجبهة اليمنية المساندة لغزة، وكانت الولايات المتحدة تعتقد أنه بمجرد الإعلان فإن اليمن سيتوقف عن الهجمات، وإذا لم يكن يتوقف اليمن فإن سفنها وسفن حلفائها الحربية ستقوم بمهمة مرافقة السفن الإسرائيلية وحمايتها، إلا أن التقييم الأمريكي لواقع المعركة في البحر الأحمر لم يكن دقيقاً خصوصاً مع فشل السفن الحربية من تحقيق الحماية للسفن الإسرائيلية في البحر الأحمر.
وبعد مرور قرابة 20 يوم من الإعلان عن تشكيل تحالف “حارس الازدهار” وفشل السفن الحربية للتحالف من حماية السفن الإسرائيلية، اتجهت الولايات المتحدة لاتخاذ خطوة جديدة متهورة تتمثل بالعدوان على اليمن واستهدف الطيران الأمريكي والبريطاني عدد من المواقع في عدة محافظات في محاولة لاستعادة صورة الردع بعد فشل المهمة في البحر الأحمر ومن ناحية ثانية اعتقد التحالف أنه بشن غاراته على بعض المواقع سيدمر مخازن ومنصات إطلاق الصواريخ والمسيرات التابعة للجيش اليمني، إلا أن هذه الخطوة المتهورة فشلت هي الأخرى مع مرور الوقت خصوصاً مع استمرار القوات المسلحة بتكثيف هجماتها ضد السفن المتجهة إلى موانئ الكيان بل إنها وسّعت من عملياتها لتستهدف السفن الأمريكية والبريطانية رداً على العدوان على اليمن.
وبرغم تكثيف الغارات الأمريكية البريطانية على اليمن استمرت الهجمات اليمنية في هذه المرحلة ضد السفن الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية بشكل تصاعدي وصولاً إلى إغراق السفينة البريطانية “روبيمار” في البحر الأحمر في بداية مارس الماضي، وبعملية الإغراق هذه أكدت القوات المسلحة بأنه لا خطوط حمراء ولا قواعد اشتباك في هذه المعركة وأنها ذاهبة إلى أبعد مدى من التصعيد، كما أن هذه العملية عززت من فشل تحالف “حارس الإزدهار”، ولتعزيز فشل التحالف فإن القوات المسلحة اتجهت لاستهداف السفن الحربية نفسها التي انسحبت بعضها من مسرح العمليات وبعضها الآخر واجهت معارك ضارية لم تشهدها البحرية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، بحسب اعترافات ضباط وقادة السفن والفرقاطات الأمريكية والبريطانية.
وفي الوقت الذي لم يتمكن الأمريكي وحلفائه من ابتلاع الصدمات والضربات اليمنية، قفز اليمن للأمام مجدداً ليعلن مرحلة جديدة من التصعيد وهي المرحلة الثالثة التي تم إعلانها على لسان قائد أنصار الله السيد عبدالملك الحوثي في 14 مارس 2024 ، وتمثلت هذه المرحلة بتوسيع العمليات ضد السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى موانئ الكيان الإسرائيلي لتشمل خط عبورها في المحيط الهندي، وبهذه الخطوة أكد اليمن بأن مسرح العمليات في البحرين الأحمر والعربي بات تحت السيطرة، بالإضافة إلى أن هذه الخطوة عززت من فشل تحالف “حارس الازدهار” الذي كان يعتقد أن غاراته على اليمن ستضعف القدرات العسكرية للجيش إلا أنه فوجئ بتوسيع مسرح العمليات، ليتأكد للجميع بأن اليمن هو من يتحكم بصيرورة المعركة ويحدد قواعدها ويرسم حدودها.
بعد المرحلة الثالثة من التصعيد كان الكل يعتقد أنها المرحلة الأخيرة خصوصاً وأن العمليات قد حققت هدفها بفرض حصار شامل على ميناء أم الرشراش “إيلات”، فماذا تبقى من أوراق يمكن لليمن تفعيلها ضد الكيان الإسرائيلي؟!
وبعد يوم من كلمة قائد أنصار الله السيد عبدالملك الحوثي التي قال فيها بأن اليمن يحضر لجولة رابعة من التصعيد، أعلنت القوات المسلحة اليمنية في 3 مايو 2024 تفاصيل المرحلة وبدء تنفيذها وجاءت على قسمين ،القسم الأول يشمل “استهدافُ كافةِ السُّفُنِ المخترِقةِ لقرارِ حظرِ الملاحةِ الاسرائيليةِ والمتجهةِ إلى موانئِ فلسطينَ المحتلةِ من البحرِ الأبيضِ المتوسطِ في أيِّ منطقةٍ تطالُها القوات المسلحة”، والقسم الثاني يتمثل ب” بفرضِ عقوباتٍ شاملةٍ على جميعِ سُفُنِ الشركاتِ التي لها علاقةٌ بالإمدادِ والدخولِ للموانئِ الفلسطينيةِ المحتلةِ من أيِّ جنسيةٍ كانتْ ومنعُ جميعَ سُفُنِ هذه الشركاتِ من المرورِ في منطقةِ عملياتِ القواتِ المسلحةِ وبغضِّ النظرِ عنْ وجهتِها”.
وكانت هذه المرحلة أشد وطأة على الكيان الإسرائيلي وداعميه سواءً من ناحية كثافة الهجمات والخسائر، أو من ناحية توسيع النطاق، من خلال استهداف السفن المتجهة إلى موانئ الكيان في البحر الأبيض المتوسط.
أما المرحلة الخامسة التي تم تدشينها في 19 يوليو الماضي باستهداف يافا المحتلة “تل أبيب” بطائرة “يافا” فقد كانت بمثابة صاعقة حلّت على الكيان وقد وصفتها صحيفة كالكاليست العبرية بالقول:” إن كل براءة اختراع تمكن الرأس اليهودي من اختراعها والجيب اليهودي من شرائها اخترقتها طائرة يمنية بعملية ذكية”.
وبالنظر إلى المراحل التصعيدية الخمس نجد أنها ارتكزت على عنصر المفاجأة للأعداء وعدم التردد في توسيع حلقات التصعيد والثبات في وجه الضغوط الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية وعدم الانسياق وراء قواعد الاشتباك التي يحددها العدو، بل إن اليمن هو من حدد القواعد ويحددها، واعتماد سياسة الهجوم بدلاً عن الدفاع، ولاننسى أهم العناصر التي فعّلها اليمن في هذه المعركة، والمتمثل بالإسناد الشعبي غير المسبوق لكل المراحل والعمليات التي تقوم بها القوات المسلحة اليمنية.
وفي كل المراحل كانت القوات المسلحة تعمل على تغييرات في تكتيكاتها العسكرية في الدفاع والهجوم، وتحرص على استخدام أسلحة جديدة بين فينةً وأخرى، ومنذ بداية العمليات كان هناك تطوير مستمر للقدرات العسكرية، حيث تم الإعلان خلال هذه المرحلة عن أسلحة جديدة أهمها صاروخ “حاطم2” فرط الصوتي، ما يعني أن القوات المسلحة استفادت من هذه المعركة كثيراً في إنتاج أسلحة نوعية قادرة على فرض معادلات جديدة في أي معركة قادمة.