إخفاقُ الإرادَة الجماعية في منع الإبادة الجماعية
الدكتور عبدالرحمن المختار
تُمَثِّلُ منظمةُ الأمم المتحدة الإرادَةَ الجماعيةَ للمجتمع الدولي، الذي يتكوَّنُ من الدول الأعضاء في المنظَّمة الدولية، وجميع دول العالم أعضاء في هذه المنظمة.
ولم يعد هناك من دولٍ كاملةِ السيادة خارجَ عضويتها، والأصلُ -وفقاً لذلك- أن المنظَّمةَ الدوليةَ المعبِّرةَ والممثِّلةَ للإرادَة الجماعية للدول الأعضاء فيها، أن تكونَ على درجة عالية من النُّضج والرُّشد في إدارتها لشؤون المجتمع الدولي، وفقاً لأحكام ميثاقها، الذي تأسَّست استناداً إليه قبل ما يقرُبُ من ثمانين سنة، ومن غير المعقول ومن غير المنطقي ومن غير المقبول، أن لا تفقهَ المنظمة الدولية واجباتِها بعد مرور كُـلّ هذا الزمن، الذي يجعل عمرَها في مرحلة الشيخوخة، وهي في الواقع لم تصلْ سِنَّ الرشدِ بعدُ!
وكان يمكن تقبُّلُ أيِّ قُصور أَو فشل أَو إخفاق في فهم المنظمة الدولية لواجباتها، إذَا لم تكن هذه الواجبات محدّدة بنصوص صريحة وواضحة، ويمكن كذلك تقبل عدم فهمها لواجباتها المنصوص عليها في ميثاقها في السنة الأولى أَو الثانية أَو الثالثة لتأسيسها، لكن يستحيل تقبل ذلك بعد مرور تسعة وسبعين عاماً على تأسيسها، ويمكن كذلك تفهُّمُ فشل أَو إخفاق المنظمة الدولية، إذَا لم يكن لديها من الأدوات والوسائل المادية والقانونية؛ ما يمكِّنُها فعلًا من تجسيد أحكام ميثاقها على أرض الواقع!
ويمكنُ كذلك تفهُّمُ فشل أَو إخفاق المنظمة الدولية في فهم واجباتها، إذَا كانت تصرفاتها في مواجهة ما يطرأ من مشاكلَ على أرض الواقع، بنمط واحد موحَّدٍ لا يتغيَّرُ ولا يتبدَّل، لكن أن تتصرفَ بشكل حازم وقوي في مواجهة وقائعَ محدّدة، ولا تتصرف كذلك في مواجهة وقائعَ أُخرى؛ بمعنى أنها لا تكيلَ بمكيال واحد، بل بمكيالين!
وإذا ما كان الأمر كذلك، فَــإنَّه يصح القول بشكل مطلق: إن المنظمة الدولية لا تمثل إرادَة المجتمع الدولي؛ بمعنى أنها لا تمثل جميع الدول الأعضاء فيها، وأنها مُجَـرّد غطاء لمصالحَ خَاصَّة لبعض الدول الأعضاء فيها، ولا يتعدَّى وجود الدول الأُخرى وعضويتها في المنظمة الدولية الجانب الشكلي، تستخدمُها الدولُ المتسلطة على هذه المنظمة لتغطيةِ جرائمها بحق شعوب الدول الأُخرى!
وإذا ما رجعنا إلى الميثاق المنشِئِ للمنظمة الدولية، ونصوصِه الحاكمة لأدائها، والمحدَّدةِ لواجباتها والتزاماتها، بوصفها شخصيةً قانونيةً موضوعيةً دوليةً مستقلة في حقوقها وواجباتها عن حقوق وواجبات جميع الدول الأعضاء فيها، لوجدنا فعلاً ومن خلال تقييم أولي لأداء هذه المنظمة أنها مخلةٌ بواجباتها، ومنتهِكةٌ لأحكام ميثاقها، ولقواعد القانون الدولي الأُخرى، وأنها بذلك لا يمكنُ بحال من الأحوال أن تكونَ ممثِّلةً ومعبِّرةً لإرادَة الدول الأعضاء فيها، وأنها -وفقاً لذلك- لا تمثل سوى المصالح الخَاصَّة للدول المتسلطة عليها، توظِّفُها لتحقيقها، وتكون المنظمة بشخصيتها القانونية المستقلة -وفقاً لهذا التكييف- شريكةً في كُـلّ ما يلحق بالشعوب من أضرارٍ؛ نتيجةَ توظيف القوى المتسلطة للمنظمة وإمْكَانياتها ومكانتها في خدمة مصالحها الخَاصَّة، وشريكةً في ما تقترفه تلك القوى من جرائمَ بحق الشعوب المستضعَفة.
وأولُ واجب ألقاه الميثاقُ على عاتق المنظمة الدولية، هو منعُ المآسي والويلات التي تلحقُ بالشعوب؛ نتيجةً للحروب التي تشعلها القوى المتسلطة، فقد نص أولُ مبدأ في مقدمة الميثاق على (أن ننقذَ الأجيالَ المقبلة من ويلات الحرب التي خلال جيل واحـد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجزُ عنها الوصف)، فهذا واجب والتزام واضح ومحدّد، يقع على عاتق المنظَّمة الدولية الاضطلاعُ به؛ بما يحقّقُ الأمنَ والسلامَ لكافة شعوب الأرض، وعدمُ تحقُّقِه يعني فشلَ هذه المنظمة وإخفاقَها، ومن ثَمَّ لا يصُحُّ أن تستمرَّ قائمةً شكلاً، وهي واقعاً في حالة انهيار، أما إذَا تحقّق الأمن والسلام لشعوب، وفقدته شعوبٌ أُخرى؛ فذلك يعني أن المنظمةَ الدوليةَ لا تمثل إلا مجموعة متسلطة من الدول، وفي هذه الحالة، لا يصح أَيْـضاً أن تظل هذه المنظمة قائمةً، تستغلها القوى المتسلطة في إبادة الشعوب الأُخرى، وتدمير مقومات حياتها، ونهب مواردها وثرواتها.
وثاني واجب ورد في ديباجة ميثاق المنظمة الدولية ملقى على عاتقها، المساواة في الحقوق بين جميع الأمم، وحماية حقوق الإنسان وكرامته، وحول ذلك ورد النص على (وأن نؤكّـدَ مـن جديـدٍ إيمانَنـا بـالحقوق الأَسَاسـية للإنسان وبكرامـة الفـرد وقَـدْره وبمـا للرجـال والنـساء والأمم كبيرهـا وصـغيرها مـن حقوق متساوية) وهذا الالتزام معنيٌّ بتحقيقِه المنظمةُ الدولية، لكافة الأمم والشعوب صغيرها وكبيرها، لكن الواضح أنه لا مساواة واقعاً في الحقوق، ولا كرامة لا للأفراد ولا للأمم ولا للشعوب، بل إن أسمى الحقوق، وهو الحقُّ في الحياة مهدَر، فكم أبادت القوى المتسلطةُ من ملايين البشر، منذ تأسيس المنظمة الدولية سنة 1945 وحتى اليوم.
والتزامٌ ثالثٌ ورد في ديباجة ميثاق المنظمة الدولية مُلقى على عاتقها، يتعلَّقُ بتحقيق العدالة، وتحقيق احترام الدول لالتزاماتها الناشئة على المعاهدات الدولية ومصادر القانون الدولي الأُخرى ونصه (وأن نبــيِّنَ الأحوالَ الــتي يمكــن في ظلــها تحقيــق العدالــة واحترام الالتزامــات الناشــئة عــن المعاهــدات وغيرهــا مــن مــصادر القــانون الدولي) ورغم وضوح ما تضمنه هذه المبدأ من التزامات، إلَّا أنه لا يمكنُ الحديثُ عن أسس عدالة أقامت بنيانها المنظمة الدولية، بين الدول الأعضاء فيها، ولا يمكن الحديث عن احترام القوى المتسلطة لالتزاماتها، الناشئة عن المعاهدات الدولية وعن غيرها من مصادر القانون الدولي؛ فجميع الالتزامات أياً كان مصدرها منتهكة تماماً، وقوة الدول أَو ضعفها معيار أَسَاسي لمدى الالتزام، فإذا ما كانت الدولة قوية عسكريًّا، فَــإنَّ هذه القوة هي التي تفرض على الدول الأُخرى خُصُوصاً المتسلطة احترام الالتزامات الدولية، أما إذَا كانت الدولة ضعيفة عسكريًّا، فَــإنَّ القوة الغاشمة للدولة المتسلطة، لا تقيم أي اعتبار للالتزامات الدولية.
ورابع مبدأ ورد في مقدمة ميثاق منظمة الأمم المتحدة ملقياً التزاماً مهماً على عاتقها ونصه (وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قُدماً، وأن نرفع مستوى الحيـاة في جـوٍ من الحرية أفسح) والواقع يؤكّـد أن المنظمة الدولية، لم ترفع مستوى حياة الشعوب، ولم تدفع قدماً بأي مظهر من مظاهر الرقي الاجتماعي، بل جرّت الشعوب إلى الخلف، حين تركت للقوى الاستعمارية المتسلطة تنهب ثرواتها، وتركتها تواجه مصيرها تقتلها المجاعات، والأوبئة الفتاكة، التي تنشر أغلبها القوى المتسلطة، التي جعلت من تلك الشعوب حقول تجارب، لاختبار أسلحتها البيولوجية، ناهيك عن إبادتها للشعوب بالأسلحة التقليدية، فخفّضت بذلك مستوى حياة الشعوب، بل أحلت الموتَ والخرابَ والدمار بدلاً عن الحياة والإعمار، ولوثت بسمومها الأجواء بدلاً عن جو الحرية الأفسح، الذي ورد في هذا المبدأ النظري الفلسفي الراقي!
وقد يقول البعض إن المنظمة الدولية تتكون من الدول، وَإذَا لم تعمل الدول على تحقيق مصالحها فما عسى المنظمة الدولية أن تعمل؟ والحقيقة أن الدول الموقعة على ميثاق الأمم المتحدة عند تأسيسها أَو المنضمَّة إليها لاحقاً، قد خوّلت المنظمة الدولية التصرف باسمها ونيابة عنها، بوصف هذه المنظمة الأدَاة التنفيذية المعبرة عن إرادَة الدول الأعضاء، وهو ما ورد التأكيد عليه ضمن مبادئ الميثاق ونصه (وأن نـــــستخدم الأدَاة الدوليـــــة في ترقيـــــة الـــــشؤون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعها) وهذا النص واضح تماماً في أن منظمة الأمم المتحدة هي الأدَاة الدولية المناط بها النهوض بجميع شعوب العالم في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية.
والواقع أن القوى المتسلطة على المنظمة الدولية، لم تترك لأغلب شعوب العالم فرصة للاستفادة من ثرواتها الاقتصادية، وموارها الطبيعية، للنهوض الاقتصادي والاجتماعي من خلال توظيف عائدات تلك الثروات والموارد في خدمة التنمية في مختلف المجالات، فقد استحوذت القوى الاستعمارية المتسلطة على المنظمة الدولية، على ثروات الشعوب ومواردها، وتسخيرها لخدمة مصالحها وأهدافها الاستعمارية، وتكون بذلك المنظمة الدولية قد أخلت بالتزاماتها، وتنصلت عن واجباتها، في ترقية الشؤون الاقتصادية والاجتماعية لجميع الشعوب، بل إن هذه المنظمة قد فعلت ما هو أسوأ من مُجَـرّد التنصل عن واجباتها، حين تركت للقوى المتسلطة حريةَ نهب ثروات وموارد الشعوب، وحرمانها منها.
والمنظمة الدولية بفعلها ذلك تكون شريكة للقوى الاستعمارية المتسلطة في المآسي، التي سبَّبتها للشعوب، وَإذَا كانت القوى المتسلطة قد تسببت -بنهبها لثروات وموارد الشعوب- في فقر وتخلف تلك الشعوب، وتعريض عدد كبير من أفرادها للموت؛ بسَببِ المجاعات، والأمراض الفتاكة؛ نتيجةً لعدم توافر الموارد المالية الكافية لتوفير الغذاء والدواء اللازمَينِ لمواجهة المجاعة والأوبئة، فَــإنَّ فعل النهب له صورتان إيجابية وسلبية، وهما في الحكم سواء، فغض المنظمة الدولية الطرف عن نهب ثروات وموارد الشعوب، يمثل عملاً سلبياً من جانبها شاركت به القوى المتسلطة في نهب موارد وثروات تلك الشعوب.
وبعد أن حدّدت المبادئ العامة للميثاق المهامَّ الأَسَاسية للمنظمة الدولية بوصفها تمثل الأدَاة المعبرة عن الإرادَة الجماعية للدول الأعضاء فيها، حدّدت مواد الميثاق الأُخرى اختصاصات هذه المنظمة في ظروف الإخلال بالسلم والأمن الدولي من جانب أعضاء فيها، حَيثُ نصت الفقرة الأولى من المادة (1) على أن (حفظ السلم والأمـن الـدولي، وتحقيقـاً لهـذه الغايـة تتخـذ الهيئـة التدابيـر المشتركـة الفعَّالـة لمنـع الأسباب التي تهدّد السلـم ولإزالتهـا، وتقمع أعمــال العــدوان وغيرهــا مــن وجــوه الإخــلال بالـسلم، وتتـذرع بالوسـائل الـسلمية، وفقــاً لمبــادئ العــدل والقــانون الــدولي، لحــل المنازعــات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أَو لتسويتها).
وقد حدّد هذه النص للمنظمة الدولية ثلاثة أنواع من الإجراءات، التي تمكّنها من حفظ السلم والأمن الدولي، تلجأ إليها حسب الظروف والأحوال؛ فإذا ما تبين لها وجود أسباب من شأنها أن تمثل خطراً يهدّد السلم والأمن الدولي، فَــإنَّها تعمل على إزالتها، من خلال ما حدّده لها الميثاق من وسائل لمعالجة تلك الأسباب، وَإذَا ما تبين لها أن السلم والأمن الدولي، قد تعرض فعلاً لخطر التهديد بحصول عمل من أعمال العدوان المسلح، فَــإنَّ المنظمة الدولية تختصُّ في هذه الحالة بقمع الدولة أَو الدول المعتدية، من خلال الوسائل المخولة لها سياسيةً واقتصاديةً وعسكريةً، وفقاً لأحكام الميثاق، وقواعد القانون الدولي.
ويعد تنصل المنظمة الدولية عن واجبها في قمع الدولة أَو الدول المعتدية، المخلة بالسلم والأمن الدولي، شراكةً مع تلك الدولة أَو الدول المنتهكة والمخلة، بعدوانها على غيرها من الدول، وتتجسد شراكة المنظمة الدولية مع الدولة أَو الدول المعتدية في عدوانها على غيرها، في الفعل السلبي المتمثل في امتناع هذه المنظمة عن قمع العدوان، أَو الأعمال التي تمثل جرائمَ وفقاً لأحكام القانون الدولي؛ فالمنظمة الدولية -بحكم ما خوّله لها الميثاق والقانون الدولي من اختصاصات، وما وفَّره لها من وسائلَ- معنية أَسَاساً بالحيلولة دون وقوع العدوان، وقمعه حال وقوعه فعلاً، وليس للمنظمة الدولية من مجال للتنصل من واجباتها، والتذرع بأي حال من الأحوال بصعوبات واقعية، أياً كانت قوة الدولة أَو الدول المعتدية، وأياً كانت مكانتها سواء عضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة أَو عضو عادي أَو دائم في مجلس الأمن الدولي.
فإذا ما كانت العضوية الدائمة للدولة أَو للدول المعتدية، تعيق واجبات المنظمة الدولية عن طريق جهازها التنفيذي، المتمثل في مجلس الأمن الدولي؛ فَــإنَّ الأمر ينتقل إلى الجمعية العامة، بوصفها صاحبة الاختصاص الأصيل، وما مجلس الأمن إلَّا جهاز تنفيذي ممثل لها، ويمكنها تجاوز أية عوائقَ تضعها الدولة أَو الدول دائمة العضوية في المجلس، عن طريق اتِّخاذ القرارات المناسبة من الجمعية العامة مباشرة، فليس لأية دولة أَو دول -مهما كان وضعها في مجلس الأمن- أن تعطل اختصاصات منظمة الأمم المتحدة وواجباتها، في قمع الدولة أَو الدول المعتدية المخلة بالسلم والأمن الدولي.
وليس مبرّراً اليوم موقف منظمة الأمم المتحدة من جريمة الإبادة الجماعية، التي تقترفها القوى الاستعمارية الصهيوغربية، وعلى رأسها دول ذات عضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي، وليس مقبولاً استمرار تعطيل هذه الدول للجهاز التنفيذي للمنظمة الدولية، مجلس الأمن الدولي؛ بفعل استخدامها لحق النقض (الفيتو)، فإذا لم تتمكّن المنظمة الدولة من منع جريمة الإبادة، وقمع الدول المقترفة لها عن طريق مجلس أمنها، فعن طريق جمعيتها العامة، وَإذَا استحال ذلك فعلى الدول الإسلامية والعربية إعلانُ انسحابها من المنظمة الدولية، بالتنسيق مع غيرها من الدول، التي لديها مواقفُ إنسانية رافضة للسلوك الإجرامي للقوى الصهيوغربية.
وتمتلك الدول العربية والإسلامية، والدول التي تشاركها ذات الموقف، كافةَ الأسانيد القانونية لموقفها؛ فالمادة الأولى من اتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها تنص على أن (تصادق الأطراف المتعاقدة على منع الإبادة الجماعية، سواء ارتكبت في أَيَّـام السلم أَو أثناء الحرب؛ فهي جريمة بمقتضى القانون الدولي، وتتعهد بمنعها والمعاقبة عليها) وجميع الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة مصادقة على هذه الاتّفاقية وملتزمة بأحكامها، ودولة الكيان الصهيوني التي تعد اليوم المباشر لأفعال جريمة الإبادة الجماعية، بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، تعد الدول رقم (16) بين الدول المصادقة على هذه الاتّفاقية، وكذلك الدول الاستعمارية الغربية الشريكة لها في اقتراف أفعال هذه الجريمة.
وما يندرج من الأفعال ضمن جريمة الإبادة الجماعية، محدّدة بشكل واضح لا لبس فيه ولا غموض، وليس هناك من مبرّر لمنظمة الأمم المتحدة، سواء جمعيتها العامة، أَو الأجهزة التابعة لها، تنفيذية (مجلس الأمن الدولي) أَو قضائية (محكمة العدل الدولية) أن تتجاهل ما هو واضح من أفعال قوى الإجرام الصهيوغربية، المقترفة بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ما لم فَــإنَّها تعد شريكة للقوى الإجرامية في أفعال جريمة الإبادة الجماعية بصورتها السلبية.
وقد حدّدت المادة الثانية من الاتّفاقية ما يندرج من الأفعال ضمن جريمة الإبادة الجماعية، حَيثُ نصت على أن (في هذه الاتّفاقية، تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أَو الجزئي لجماعة قومية أَو إثنية أَو عُنصرية أَو دينية، بصفتها هذه:
(أ) قتل أعضاء من الجماعة.
(ب) إلحاق أذى جسدي أَو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
(ج) إخضاع الجماعة عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًّا أَو جزئيًّا.
(د) فرض تدابيرَ تستهدفُ الحؤولَ دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أُخرى.
ومعلوم أن اتّفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها ليست وليدة اللحظة، حتى يمكن القول إن نصوصها قد تمت صياغتها لتناسب الظروف الراهنة، ولكن هذه الاتّفاقية أقرت وعرضت للتوقيع وللتصديق أَو للانضمام بقرار الجمعية العامة (260أ) (د-3) بتاريخ 9 كانون الأول / ديسمبر 1948م، ويبدو أن صياغتها وتبني إقرارها والتصديق عليها في ذلك التاريخ، لم يكن مِن أجلِ حماية الفلسطينيين أَو غيرهم، بل لحماية اليهود من العرب!
وعلى منظمة الأمم المتحدة -إن رغبت في إثبات عكس هذه الحقيقة- أن تستخدم صلاحياتها المخولة لها بموجب ميثاقها، ونصوص هذه الاتّفاقية، وقواعد القانون الدولي، وأن تعمل فورًا على وقف أفعال جريمة الإبادة الجماعية، المُستمرّة والمتتابعة منذ عشرة أشهر ضد أبناء الشعب الفلسطيني من جانب القوى الاستعمارية الإجرامية الصهيوغربية، وتعاقب مقترفيها، وإن لم تفعل ذلك فَــإنَّها متلبسة -من رأسها حتى أخمص قدمَيها- بالشراكة في اقتراف هذه الجريمة، ولن يشفع لها، ولا أمينها العام أبداً، توصيف ما يجري في غزة بأنه مروع، أَو بأنه مأساة إنسانيه، وما شابه ذلك من الأوصاف التي نسمعها بين الحين والآخر، من باب المشاركة الرمزية في التعبير عن موقف المنظمة الدولية.
وذلك الموقف هو في حقيقته موقفٌ مخزٍ، يرقى إلى مستوى سلوك الفاعل المباشر للجريمة والشركاء معه في اقترافها، وَإذَا كانت هذه الاتّفاقية التي أقرتها منظمة الأمم المتحدة قبل ما يقرب من ثمانية عقود من الزمن، قد حدّدت في المادة الثانية منها ما يندرج من الأفعال ضمن جريمة الإبادة الجماعية، فَــإنَّها قد حدّدت في المادة (الثالثة) منها من يعد مقترفاً لأفعال الإبادة الجماعية، ويستحق العقوبة على اقترافها، وذلك بنصها على أن يعاقب على الأفعال التالية:
(أ) الإبادة الجماعية.
(ب) التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية.
(ج) التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية.
(د) محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية.
(هـ) الاشتراك في الإبادة الجماعية.
ووفقاً لنص هذه المادة يعد مقترفاً لجريمة الإبادة الجماعية المباشر لأفعالها، وكذلك المتآمر مع الفاعل المباشر، وينطبق وصف التآمر -ويأخذ حكمه حكم الفاعل المباشر- على عدد من الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، على رأسها الإدارة الأمريكية، والحكومة البريطانية، وغيرهما من القوى الاستعمارية الغربية، وينطق كذلك هذا الوصف على عدد من الدول العربية، منها مملكةُ البحرية، ومملكة آل سعود، ومشيخةُ آل زايد، ومملكة الأردن، وإمارتا الكويت وقطر، وجمهوريتا مصر والسودان، وحكومة العملاء في بلادنا الموصوفة زيفًا وتضليلًا بـ (الشرعية).
وينطبق وصف التحريض –ويأخذ حكمه حكم الفاعل المباشر- على عدد من الحكومات الغربية، خُصُوصاً تلك التي تقاطر كبار المسؤولين فيها بالزيارات للكيان الصهيوني، وإعلان مواقف التأييد لما أسموه الحق في الدفاع عن النفس، وحق الكيان المجرم في القضاء على حركة حماس، وعلى رأس هذه الحكومات الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية، والحكومة الألمانية والحكومة الفرنسية والحكومة الإيطالية، وغيرها من الحكومات الغربية، وينطبق كذلك هذا الوصف على عدد من الحكومات العربية، منها الحكومة السعوديّة، والحكومة الإماراتية، والحكومة البحرينية، والحكومة المصرية والحكومة السودانية، وحكومة العملاء المسمَّاة حكومة (الشرعية).
وينطبق وصفُ التحريض العلني على جريمة الإبادة الجماعية –ويأخذ حكمه حكم فاعلها الأصلي- على كُـلّ الحكومات الغربية التي أعلنت وقوفَها ودعمها ومساندتها للكيان الصهيوني في ما سُمِّيَ بحربه ضد حماس، وينطبق ذات الحكم على الحكومات العربية التي أعلنت صراحةً موقفًا مؤيِّدًا للكيان الصهيوني في القضاء على حماس، وغيرها من حركات المقاومة.
وينطبق وصف الاشتراك في أفعال جريمة الإبادة الجماعية -ويأخذ حكمه حكم فاعلها المباشر- على الحكومات الغربية التي أعلنت تقديم شحنات متنوعة من الأسلحة الفتاكة (قنابل وصواريخ) وغيرها من المعدات العسكرية، وكذلك الحكومات التي خصصت أموالاً محدّدة دعماً لمالية الكيان الصهيوني؛ لحماية عُملته واقتصاده من الانهيار، وينطبق وصف الاشتراك في جريمة الإبادة على الدول العربية والإسلامية، التي أمدَّت الكيانَ الصهيوني بمختلف أنواع السلع والمواد الخام لاستدامة دوران عجلة اقتصاده الداخلي وحمايةً له من الانهيار؛ نتيجةً لنقص المواد التموينية في الداخل الصهيوني، والتي يمكن أن تشكل ضغطاً كَبيراً عليه للحد من استمرار وتتابع أفعال جريمة الإبادة الجماعية، ولو كانت تلك الإمدَادات وتحت عناوينَ ومسميات تبادلات تجارية، وتسليم شحنات متفق عليها سابقًا؛ باعتبَار أن واجبَ الدول عُمُـومًا اتِّخاذ إجراءات ضاغطة سياسية واقتصادية وعسكرية، لإجبارِ دولة الكيان على وقف أفعال الإبادة الجماعية.
وإذا كان ذلك كذلك، بالنسبة للدول عُمُـومًا، فَــإنَّه أوجب في حق الدول العربية والإسلامية؛ فإمدَاد الكيان الصهيوني بالاحتياجات والمواد الغذائية والمواد الخام يساعدُ بشكل كبير على استقرار وضعه الداخلي؛ وهو ما يؤدي إلى تركيز كُـلّ جهوده على الاستمرار في اقتراف أفعال جريمته، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى يتكون لديه انطباع عن مواقف الدول العربية والإسلامية، المُستمرّة في إمدَاده بمختلف أنواع الاحتياجات، مضمون هذا الانطباع أنه لا اعتراض لدى هذه الدول على استمراره في ارتكاب جريمته، خُصُوصاً أنها تواكب بشكل مُستمرّ وعلى مدار الساعة، ما تبثه وسائل الإعلام العربية والأجنبية من مشاهد القتل الجماعي والدمار الشامل.
وبذلك تتفوق الدول العربية والإسلامية في جرمها وشراكتها للكيان الصهيوني، على جرم وشراكة الدول الغربية في اقتراف جريمة الإبادة الجماعية؛ باعتبَار أن الدولَ العربية والإسلامية يقع على عاتقها واجبُ نُصرة أبناء الشعب الفلسطيني المسلم، ومُجَـرّد تخاذلها وتنصلها عن نصرته، يمثل معصيةً عظيمة لله “سبحانه وتعالى”، ناهيك عن اشتراكها بصور وأشكال مختلفة في إسناد الكيان الصهيوني في اقترافه لجريمة الإبادة بحق إخْـوَانهم في الدين والعروبة، ومن يرتبطون معهم بروابط الجغرافيا والتاريخ والمصير المشترك.
والمتوقَّعُ أن المآسيَ والأحزان، التي شملت كُـلَّ بيت وكلَّ أسرة من أبناء الشعب الفلسطيني، لن تنجوَ منها البلدان العربية التي التزمت حكوماتُها مواقفَ الصمت والخِذلان تجاه مأساة الشعب الفلسطيني؛ عقوبةً لها على معصية الله “سبحانه وتعالى” ومخالفةِ صريحِ أمره بنُصرةِ المستضعَفين، وإخْـوَانهم في الدين، وستكون المأساةُ والأحزانُ أعمَّ وأشملَ بالنسبة لتلك البلدان، التي لم تكتفِ بمُجَـرّد مواقف الصمت والخِذلان، بل اتخذت مواقفَ صريحة ومعلَنةً إما مشاركة أَو محرضة، أَو متآمرة، بأي شكل من الأشكال وبأية صورة من الصور، مع قوى الإجرام على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.