حيّ الشجاعية بقطاع غزة.. تاريخٌ من البطولة يحول أهداف الاحتلال الصهيوني إلى أوهام
يمانيون – متابعات
دون سابق إنذارٍ بدأ جيش الاحتلال الصهيوني بشن عدوان مكثّف على حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، لينهال على سكانها بوابلٍ من القصف خلال اليومين الماضيين، وذلك تحت مزاعم أن عدوانه يأتي بعد معلومات استخباراتية تفيد بنشاط لحركات المقاومة داخل الحي.
العدوان الصهيوني على الشجاعية لم يكن الأول من نوعه؛ حيث سبق وأن شن عليه اجتياحًا بريًّا مصحوبًا بقصف عنيف على سكانه المدنيين مرتين خلال الحرب المستمرة منذ السابع من أكتوبر الماضي؛ إلا أن اللافت في الأمر هو خروج الجيش الإسرائيلي في كل مرة حاملاً معه عار الهزيمة بين ركام آلياته العسكرية وفوق توابيت جنوده القتلى على أيدي أبطال الجهاد والمقاومة البواسل، ليحاول في هذه المرة استعادة بعض مما فقد من كرامته العسكرية المسحوقة آنفًا.
وككل مرة، لم تنتظر المقاومة كثيرًا حتى وافته بالرد العاجل على عدوانه؛ فمع الساعات الأولى للاجتياح، فوجئ جيش الاحتلال بأكثر من 10 عمليات متنوعة خسر فيها العديد من آلياته وجنوده الذين سقطوا بالعشرات بين قتيل وجريح، ولا تزال البيانات العسكرية الإسرائيلية تعلن كل عدة ساعات عن أسماء جنود وضباط قُتلوا في معارك الشجاعية، بينما يعلن الإعلام العبري عما يطلق عليه “حدث أمني صعب”، منذ بدء الاجتياح وحتى كتابة هذا التقرير، في إشارةٍ إلى وقوع قوات إسرائيلية في كمائن المقاومة.
أهمية تاريخية وعسكرية:
يُعد “حي الشجاعية” من أكبر أحياء مدينة غزة، يقطنه حوالي 100 ألف نسمة، ويعود سبب تسميته بهذا الاسم إلى المحارب البطل “شجاع الدين عثمان الكردي”، الذي استشهد في إحدى المعارك بين الأيوبيين والصليبيين سنة 637هـ /1239م، والتي كانت بعد معركة حطين وانتصر فيها المسلمون.
ويحتل الحي مكانة استراتيجية من الناحية العسكرية للمنطقة؛ حيث تقع فيه تلة “المنطار” والتي ترتفع بنحو 85 مترًا فوق مستوى سطح البحر، وهذا ما جعلها مفتاحًا لمدينة غـزة، وقديمًا عسكرت عليه جنود “نابليون بونابرت”، وقُتل فيها الآلاف من جنود الحلفاء في الحرب العالمية الأولى أمام تصدي القوات العثمانية.
غصة في حلق الاحتلال:
استطاعت الشجاعية في أتون الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي أن تشكل علامة بارزة في إيلام العدو من خلال تكبيده أثمانًا باهظة من دماء جنوده وحطام آلياته؛ حيث مثّلت معركة الشجاعية في عام 2014م, العامل الأكثر حسمًا بين المقاومة الفلسطينية والقوات الإسرائيلية في هذه الحرب؛ فيما اعترف جيش الاحتلال آنذاك بمقتل 16 جنديًّا، بينما أعلنت كتائب القسام، في حينها أن عدد الجنود الإسرائيليين الذين لقوا حتفهم في 3 كمائن متتالية بالشجاعية، يتجاوز بعيدًا عدد الإصابات التي أعلنتها “تل أبيب”.
وشهدت الشجاعية في الحرب الجارية – في ديسمبر الماضي- أولى العمليات البرية الإسرائيلية عندما حاصر لواء “غولاني” الحي وحاول اختراقه لتقع قوة تابعة له في كمين نفذته القسام على مراحل، قتل فيه 10 من جنود لواء يوصف بأنه من قوات النخبة.
وفي المكان عينه، قتلت القوات الإسرائيلية 3 من الأسرى المحتجزين لدى فصائل المقاومة، بإطلاق نار مباشر عليهم، كانوا يتحدثون العبرية، ويحملون أعلاماً بيضاء، وقتلوا بنيران صديقة، بحسب المصطلح العسكري.
وقد أجرى جيش الاحتلال تحقيقًا حول معركة حي الشجاعية بين المقاومة الفلسطينية ولواء “غولاني”، أسفرت نتائجه على أنه من غير الممكن هزيمة المقاومة في حي الشجاعية بالقصف الجوي وحده، وأنه يجب أن يتم ذلك على الأرض، لكن في قتال من هذا النوع عندما ينتقل جنود الاحتلال من موقع إلى آخر ومن مبنى إلى مبنى فإنهم “لا يعرفون أنهم في مواجهة إلا بعد أن يكونوا في مواجهة” كما يقول قادة الاحتلال.
كابوس “كمائن الموت” يطارد الاحتلال:
وبحسب رواية الاحتلال، في الاجتياح الأول في ديسمبر الماضي، فإن فريقًا قتاليًّا إسرائيليًّا تابعًا للكتيبة 53 عمل على مسح المباني في قصبة الشجاعية، فدخلت قوة من 4 جنود يترأسها رائد ونقيب إلى مبنى من جهتين لمسحه، لكن المقاومة كانت قد وضعت عبوة ناسفة داخل المبنى وألقت عليهم قنابل يدوية وأعيرة نارية، فأصيب الجنود الإسرائيليون الأربعة وهم قائد السرية الرائد “موشيه أبراهام بار أون” وقائد الفصيلة النقيب “ليل هايو” والمقاتلان “عيران ألوني” وشقيقه “داسكل”.
كما تعرضت القوات الإضافية من الجيش الإسرائيلي التي كانت خارج المبنى لإطلاق نار وخاضت معركة ضد المقاومة، ما أدى إلى انقطاع الاتصال بين القوات والجنود الأربعة داخل المبنى.
عند هذه النقطة أصيب جيش الاحتلال بالرعب من أن يكون عناصر المقاومة قد اختطفوا الجنود الأربعة عبر فتحة نفق في المبنى، فأرسل لواء “غولاني” جميع قادته الكبار إلى موقع المعركة، بما في ذلك القطاعات المجاورة، مع تعزيزات لمحاصرة المجمع من اتجاهات عدة، فحاصرت قوة من جيش الاحتلال بقيادة اللواء “تومر غرينبيرغ” المجمع من جهة الشمال، في حين سحب اللواء “53” قواته التي تكبدت جرحى، واستمرت معركة عنيفة مع المقاومة لنحو 3 ساعات.
في الأثناء، وصلت ما تسمى قوة الإنقاذ الخاصة “669” إلى المجمع وحاولت كسر الباب، لكن المقاومة تمكنت من إصابة جنديين بجروح في كمين آخر في المباني القريبة وأضرمت النار في منطقة مدخل المجمع بالكامل، فأصيب أيضًا من جيش الاحتلال الرائد “بن شيلي” والعقيد “روم هيشت”.
الخوف يربك العدو:
بعد فشل تلك المحاولات أرسل العميد “يائير بلاي” – الذي يقع مقر قيادته بالقرب من مكان المعركة- العقيد “إسحق بن باشيت” قائد كتيبة “غولاني” في لواء “غولاني” ومعه نائب قائد اللواء إلى مكان المعركة كي يتوليا زمام المعركة ويعملا على تقسيم الفرق القتالية الموجودة في الميدان، ومع تزايد عدد القوات الإسرائيلية في المنطقة كان يسود الخوف في صفوفها من أن تتعرض لإطلاق نار من الجانبين.
كانت الخطة الإسرائيلية تقتضي الوصول بسرعة إلى الجنود الأربعة الذين اختفوا داخل المبنى ومنع اختطافهم وهروب مسلحي المقاومة، وكذلك منع وصول قوات إضافية من المقاومة من اتجاهات أخرى، وإنقاذ الجرحى الإسرائيليين عند مدخل المجمع.
ووصلت القوة من دورية “غولاني” إلى مدخل المبنى لإنقاذ المصابين من قوة الإنقاذ “669”، لكنها تعرضت لمواجهة عنيفة من أبطال المقاومة الفلسطينية الذين كانوا يطلقون النار على جنود الاحتلال من كل جانب، وقُتل في هذه المرحلة من المعركة العقيد “بن باشيت”، في حين تمكن جنود الدورية من إنقاذ المصابين ودخول المبنى وانتشال جثث أربعة جنود، حيث تبين أنهم قتلى ولم يُختطفوا.
ولم ينته الأمر عند هذا الحد؛ حيث خاضت قوة إسرائيلية أخرى بقيادة “مجد تومر” كانت تتمركز على مبنى مجاور يطل على المنطقة معركة شرسة مع مسلحين فلسطينيين كانوا في مبان أخرى بالمجمع ذاته، وأطلقت المقاومة صاروخًا من مبنى مجاور، ما تسبب بانهيار المبنى الذي تمركزت فيه قوات الاحتلال، فقتل أيضًا اللواء “تومر” مع قائد فرقته الرائد “روي ملداسي”.
في هذه اللحظة استخدم الاحتلال النيران الجوية لدعم معركته مع فصائل المقاومة من الشمال والغرب، لمنع المقاتلين الفلسطينيين من الاقتراب من بقية قوات جيش الاحتلال.
“غولاني” لم يعد لواءً
في الإطار؛ أعلن جيش الاحتلال عقب ذلك أن كتيبة “غولاني” لم تعد تعمل ككتيبة، بل كوحدات متفرقة بسبب المعاركة الشرسة في الشجاعية، ويقدر أنه يحتاج من يومين إلى 3 أيام, لتطهير “القصبة” والسيطرة العملياتية عليها، إلا أن الواقع أثبت أنه لم يحصل على شيء مما يريد؛ حيث عاود الكرة مرتين لدخول الشجاعية بحثًا عمن زعم أنه قضى عليهم سابقًا.
كان ولا يزال حي الشجاعية عصياً على عمليات الاحتلال البرية وكبده خسائر فادحة في الأرواح لم يكن أكثر المتشائمين من قادة جيش الاحتلال يتصورها، وهذا ربما ما يربك حساباته في كل مرة، ويظن أنه بمخطط جديد يمكن أن يحسم المعركة بمزيد من قتل الأبرياء وقصف البيوت على ساكنيها، بينما تستمر المقاومة بجعل أهدافه أمرًا بعيد المنال، حتى يدرك أن الشجاعية لا تسقط في أيام ولا حتى في أعوام.