بايدن وخريطته الملتبسة لإنقاذ “إسرائيل” من نفسها
يمانيون/ تقارير
بايدن بدأ يشعر شخصياً بقلق شديد تجاه احتمال خسارته أصوات الناخبين الأميركيين العرب والمسلمين، وربما أصوات الجناحين الليبرالي واليساري في الحزب الديمقراطي أيضاً، ويرغب بالتالي في أن تجري الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة في أجواء أكثر هدوءاً.
في حديث أدلى به من أمام البيت الأبيض، يوم الجمعة الماضي (31/5/2024)، طرح الرئيس الأميركي مبادرة تتضمن “خريطة طريق” لإنهاء الحرب المشتعلة حالياً في قطاع غزة”، تشتمل على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: تمتد إلى ستة أسابيع، وتتضمن: وقفاً شاملاً لإطلاق النار، وانسحاب القوات الإسرائيلية من كل المناطق الآهلة في قطاع غزة، وإطلاق سراح عدد من الأسرى لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، وخصوصاً النساء والشيوخ والجرحى، وإعادة رفات بعض من قُتل منهم إلى ذويهم، في مقابل الإفراج عن مئات الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية، وعودة المدنيين الفلسطينيين إلى منازلهم وأحيائهم في جميع مناطق القطاع، وزيادة كمية المساعدات الإنسانية إلى 660 شاحنة يومياً.
وخلال هذه المرحلة، يُفترض أن تبدأ مفاوضات غير مباشرة بين “إسرائيل” وحماس من أجل الاتفاق على الترتيبات اللازمة للوصول إلى المرحلة الثانية. وإذا تطلّبت هذه المفاوضات فترة أطول من ستة أسابيع، فسوف تلتزم كلّ الأطراف المعنية المحافَظةَ على وقف إطلاق النار طوال الفترة التي تستغرقها المفاوضات، كما تلتزم كل من الولايات المتحدة ومصر وقطر العملَ على ضمان استمرارها إلى حين التوصل إلى اتفاق يشأن كل الترتيبات اللازمة لبدء تنفيذ المرحلة التالية.
المرحلة الثانية: هدفها الرئيس التوصل إلى “وقف دائم للعمليات العسكرية ما أوفت حماس بالتزاماتها”. وتتضمّن هذه المرحلة التزاماً بشأن الإفراج عن كل الأسرى الأحياء المتبقّين، بمن فيهم الجنود الرجال، وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع ككل.
المرحلة الثالثة: هدفها إنهاء الصراع وبدء تنفيذ خطة كبرى لإعادة إعمار القطاع. وسيتم خلالها إعادة رفات من تبقى من المحتجزين الذين لقوا حتفهم في الحرب. عند هذه النقطة، حرص بايدن على التأكيد، في خطته، أن “الدول العربية والمجتمع الدولي والقادة الفلسطينيون والإسرائيليون سيقومون بتنفيذ خطة الإعمار بطريقة لا تتيح إعادة تسليح حركة حماس”.
كان أكثر ما لفت أنظار المراقبين، وأثار حيرتهم واستغرابهم، في الوقت نفسه، إقدام بايدن على تخصيص فقرات مطولة من حديثه في مخاطبة المستوطنين الإسرائيليين مباشرة، وحثهم على قبول خطة يُفترض أنها تمت بالتنسيق مع الحكومة الإسرائيلية، ومحاولة إقناع الرأي العام الإسرائيلي بما ستجنيه “إسرائيل” من وراء موافقتها على هذه الخطة، وتحذير “الشعب الإسرائيلي” من الانسياق وراء بعض المتطرفين، بمن فيهم أعضاء من الحكومة الإسرائيلية نفسها.
فكيف توصف مبادرة كهذه بأنها إسرائيلية، ومع من تشاورت إدارة بايدن قبل أن يُقْدِم بايدن، بنفسه، على إطلاقها. وهل شمل هذا التشاور رئيس الحكومة، أم أنه اقتصر على أعضاء بعينهم في مجلس الحرب الإسرائيلي، ممن يعلم مسبّقاً بأن الأولوية، بالنسبة إليهم، هي الإفراج عن الأسرى.
وقال بايدن في حديثه: “يجب أن يعرف الشعب الإسرائيلي أنه يتقدم بهذا العرض من دون أي مخاطر إضافية على أمنه، لأن إسرائيل نجحت في تدمير البنية الأساسية لحركة حماس على مدى الأشهر الثمانية الأخيرة. وبالتالي، عليه أن يكون على ثقة بأن حماس لم تعد قادرة على شن هجوم مماثل للهجوم الذي قامت به في الـ7 من أكتوبر، وهو الهدف الأسمى الذي سعت له إسرائيل في هذه الحرب ومعها كل الحق”.
الأغرب من ذلك أن بايدن أضاف قائلاً: “أعرف أن بعض الأطراف في إسرائيل لن يتفق مع هذه الخطة، وسيدعو إلى مواصلة الحرب إلى أجَل غير مسمّى، كما أعرف أنه سبق لبعض الأطراف، المُشارِكة في الائتلاف الحاكم في “إسرائيل”، أن أفصح عن رغبته في احتلال غزة ومواصلة القتال أعواماً، الأمر الذي يعني أن الأسرى لا يمثلون أولوية بالنسبة إلى هؤلاء.
لذلك، أحث القيادة الإسرائيلية على دعم هذه الصفقة على الرغم من أي ضغوط”. وفي عبارات بدت كأنها تستجدي موافقة “الشعب” الإسرائيلي على خريطة الطريق، التي تتضمنها خطته، قال بايدن: “كوني شخصاً معروفاً بالتزامي الأبدي تجاه إسرائيل، وكوني الرئيس الأميركي الوحيد الذي زار “إسرائيل” في وقت الحرب، وكوني الرئيس الذي أرسل القوات الأميركية مؤخراً للدفاع عنها بصورة مباشرة عندما تعرضت للهجوم من جانب إيران، أطلب إلى الجميع أن يتريث، وأن يفكر فيما يمكن أن يحدث إذا ضاعت هذه الفرصة”.
ومن أجل تفنيد حجج الجناح المتطرف في “إسرائيل”، ذهب بايدن إلى حد القول إن “الحرب إلى أجَل غير مسمى، سعياً وراء فكرة النصر الكامل، لن تؤدي إلا إلى تعثر “إسرائيل” في رمال غزة، وإلى استنزاف مواردها الاقتصادية والعسكرية والبشرية، وإلى تعزيز عزلتها عن العالم، فضلاً عن أنها لن تعيد الأسرى إلى منازلهم، ولن تحقق الهزيمة الدائمة لحماس، أو الأمن المستدام لإسرائيل. أمّا النهج المتكامل، والذي تمثله هذه الصفقة، فسيؤدي إلى عودة الأسرى إلى منازلهم، وإلى تحقيق مزيد من الأمن لإسرائيل”.
ومن أجل حثّ “الشعب” الإسرائيلي على دعم خطته، حرص بايدن على التلويح ببعض الحوافز، حين قال إن “إبرام هذه الصفقة سيمكّن إسرائيل من تحقيق مزيد من التكامل في المنطقة، وخصوصاً من خلال اتفاق تاريخي محتمل لتطبيع العلاقة بالمملكة العربية السعودية، ومن أن تصبح جزءا لا يتجزأ من شبكة أمنية إقليمية لمواجهة التهديد الذي تشكله إيران. لقد حان الوقت لهذه الحرب أن تنتهي، وأن تبدأ مرحلة ما بعد الحرب”.
ليس من المفيد أن نتوقف هنا طويلاً للبحث عن الصاحب الحقيقي لهذه المبادرة، وخصوصاً أنها أصبحت الآن مبادرة أميركية خالصة بعد أن تكفّل رئيس الولايات المتحدة تبنيَها وطَرْحَها بنفسه على الرأي العام.
صحيح أن مجرد تبنيها أميركياً يعكس حجم المأزق الذي وصلت إليه إدارة بايدن، وخصوصاً بعد أن بدأت تدرك أن الهوة بين سياستها المنحازة إلى “إسرائيل”، بصورة مطلقة، وبين ما طرأ من تحولات على موقف الرأي العام العالمي الداعم للقضية الفلسطينية، والرافض لسياسة الإبادة الجماعية التي تمارسها أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ “إسرائيل”، بدأت تتسع كثيراً، لكن ذلك لا يجب أن يحول دون محاولة الاستفادة من طرحها في هذا التوقيت بالذات.
فبايدن بدأ يشعر شخصياً بقلق شديد تجاه احتمال خسارته أصوات الناخبين الأميركيين العرب والمسلمين، وربما أصوات الجناحين الليبرالي واليساري في الحزب الديمقراطي أيضاً، ويرغب بالتالي في أن تجري الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة في أجواء أكثر هدوءاً، الأمر الذي دفعه إلى تبني سياسة أكثر توازناً، والإقدام على خطوة مهمة، لكنها محفوفة بالمخاطر، في الوقت نفسه.
فالمبادرة تنطوي، ضمناً على الأقل، على اقتناع إدارته بأن “انتصار إسرائيل المطلق على حماس” أصبح وهماً غير قابل للتحقيق، الأمر الذي يفسّر سعيه لإقناع الحكومة والرأي العام الإسرائيليين بأن حركة حماس ضعفت كثيراً، ولم يعد في مقدورها شن هجوم عسكري يماثل ما وقع يوم الـ7 من أكتوبر. وبالتالي، حان الوقت للتفكير جدياً في مرحلة “ما بعد حماس”.
في تقديري أن بايدن كان يدرك بوضوح أن طرحه مبادرةً من هذا النوع سيثير تفاعلات حادة داخل “إسرائيل”، من المتوقع أن تتفاقم كثيراً خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وهو ما حدث فعلاً.
لقد صرح جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، بأن خريطة الطريق، التي طرحها الرئيس بايدن، جاءت تعبيراً عن تشاور جرى بين واشنطن و”تل أبيب” على مدى عدة أسابيع، وهو ما أنكره نتنياهو، حين صرح بأن المبادرة لا تعكس إلا جانباً فقط مما تم التوافق عليه بين البلدين، وحين أعاد تأكيد موقفه القائل إن الوقف الدائم لإطلاق النار الآن يعني الاستسلام للعدو والاعتراف بالهزيمة، ثم ما زال يصر على مواصلة الحرب إلى أن يتحقق “النصر المطلق لإسرائيل”.
أمّا الجناح المتطرف في الحكومة الإسرائيلية فلم يتردد لحظة واحدة في رفض خطة بايدن صراحة، بل إن بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي، ذهب إلى حد التهديد بمغادرة الحكومة على الفور إذا وافقت الحكومة الإسرائيلية رسمياً على خطة بايدن.
ولأن نتنياهو يخشى انفراط عِقد حكومته وانهيارها، ولا يثق كثيراً، في الوقت نفسه، بشبكة أمان يعرضها عليه بعض فصائل المعارضة في حال موافقته على صفقة تُفضي إلى إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين، فالأرجح أن يستمر في مناوراته الرامية إلى كسب الوقت من اجل استمرار الحرب.
وفي تقديري أن نتنياهو يشعر بأنه ما زال يتمتع بهامش يتيح له الاستمرار في مناوراته المعروفة تجاه كل الأطراف، وخصوصاً بعد أن قام رئيس مجلس النواب الأميركي بتوجيه دعوة إليه من أجل إلقاء خطاب في جلسة مشتركة للكونغرس، بمجلسيه، قبلها على الفور، ثم يعتقد أن في إمكانه تحدي بايدن، مثلما تحدى أوباما من قبلُ، الأمر الذي قد يدفعه إلى رفض خطة بايدن، صراحة أو ضمناً، ومحاولة إقناع أعضاء الكونغرس، الجمهوريين والديمقراطيين، بالأسباب التي تدعوه إلى رفض هذه الخطوة ومحاولة تصويرها على أنها ستُلحق ضرراً كبيراً بأمن “إسرائيل”.
تحتوي مبادرة بايدن على نقاط إيجابية كثيرة، لكنها مليئة بالألغام في الوقت نفسه، وخصوصاً ما يتعلق منها بالربط بين المراحل المتعددة، وبجدية الضمانات المطلوبة من الولايات المتحدة، ومن غيرها للتأكد من أنها ستفضي في نهاية المطاف إلى وقف دائم لإطلاق النار.
فمن الواضح أن الولايات المتحدة تسعى، من خلال هذه المبادرة، لتحقيق أربعة أهداف: تطبيع العلاقة بين السعودية و”إسرائيل”؛ التمهيد لقيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح ومرتبطة أمنيا بـ “إسرائيل”؛ إقامة تحالف إقليمي موجَّه ضد إيران، تقوده بنفسها؛ إنشاء ممر اقتصادي يعوّق خطط الصين لتوسيع نفوذها في المنطقة.
وكلها أهداف تسعى لإنقاذ “إسرائيل” من نفسها، واستعادة النفوذ الأميركي في المنطقة. وبالتالي، لا يصبّ أي منها في مصلحة الشعوب العربية والإسلامية. لذا، أعتقد أن من مصلحة فصائل المقاومة عدم إعلان رفضها صراحة هذه المبادرة، مع الحرص، في الوقت نفسه، على عدم التوقيع على أي ورقة لا تتضمن وقفاً نهائياً لإطلاق النار، والتركيز، في الوقت الحاضر، على الصمود في الميدان. فهذا الصمود هو وحده الكفيل بفتح الطريق أمام الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه التي تم التنكر لها طويلاً.