مفاوضات على طاولة الحرب
يمانيون – متابعات
لم تمض ساعات قليلة من أجواء الفرح الذي ساد قطاع غزة، بشأن وقف إطلاق النار، وإنهاء الحرب على غزة التي وصلت شهرها الثامن، وذلك بعد إعلان حركة حماس الموافقة على مقترح التهدئة الذي قدمه الوسطاء. تلك المشاعر انتهت برعب مخيف، فقد استيقظت مدينة رفح على قصف هستيري على المدينة، واجتياح الدبابات الصهيونية لمعبر رفح، وإيقافها حركة المسافرين ودخول المساعدات إلى مناطق القطاع كافة من خلال معبري رفح وكرم أبو سالم.
كانت حركة حماس قد أعلنت في بيان مقتضب لها الإثنين 6 مايو/أيار 2024، أن رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية أبلغ هاتفيًا رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، ورئيس المخابرات العامة المصرية عباس كامل، موافقة الحركة على مقترحهما بشأن اتفاق وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى مع الجانب الصهيوني ، وهو الإعلان الذي قوبل بأفراح عارمة داخل غزة وترحيب شديد من الوسطاء وبعض القوى الإقليمية. بينما اعتبرت حكومة الاحتلال
بأن رد حماس لا يلبي مطالب “إسرائيل”، وكان ردها اجتياح معبر رفح صباح الثلاثاء 7 مايو الجاري. وفي البداية رفضت الحوار، ولكنها عادت وأرسلت وفدها للتفاوض إلى القاهرة في الوقت الذي أعلنت فيه حركة حماس إرسال وفدها إلى القاهرة لاستئناف المفاوضات بين الطرفين عبر الوسطاء القاهرة والدوحة برعاية واشنطن.
الاتفاق
بتلك الموافقة الجريئة والشجاعة، بعثرت حماس كل أوراق نتنياهو، وحشرت حكومته في زاوية ضيقة، بعدما ألقت الكرة في ملعب حكومة الاحتلال، لتعمق أزمتها، ومن المتوقع أن تتفاقم أيًا كان الرد على خطوة حماس، قبولًا أو رفضًا، وهو ما يفسر حالة “الارتباك” التي بدا عليها قادة الاحتلال بعد دقائق قليلة من إعلان حماس قبولها لمقترح الوسطاء.
تفاصيل الاتفاق الذي وافقت عليه حماس:
وفق ما نشرته بعض وسائل الإعلام، فإن الاتفاق الذي قدمه الوسيطان، المصري والقطري، ووافقت عليه حماس، ينطلق من المرتكزات التالية:
-وقف الحرب، وإنهاء الحصار وانسحاب القوات المحتلة من قطاع غزة.
-عودة الهدوء المستدام للقطاع، وإطلاق سراح جميع الأسرى “الإسرائيليين” لدى المقاومة، مدنيين وعسكريين، من هم على قيد الحياة ومن قُتل منهم، مقابل عدد من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، لم يتم الاتفاق بعد على عددهم وهويتهم.
ويتكون الاتفاق الإطاري من ثلاث مراحل متصلة ومترابطة، كل مرحلة (42 يومًا)، الأولى تتضمن وقفًا مؤقتًا للعمليات العسكرية بين الطرفين وانسحاب القوات الصهيونية شرقًا وبعيدًا عن المناطق المكتظة بالسكان إلى منطقة بمحاذاة الحدود في جميع مناطق قطاع غزة “بما في ذلك وادي غزة – محور نتساريم ودوار الكويت” على أن تُطلق حماس سراح 33 من الاسرى “الإسرائيليين” (أحياء أو أموات) من نساء (مدنيات ومجندات) وأطفال “دون سن 19 من غير الجنود” وكبار السن “فوق سن 50” والمرضى، مقابل عدد من الأسرى في السجون والمعتقلات الصهيونية .
أما المرحلة الثانية، تتضمن الإعلان عن عودة الهدوء المستدام، ووقف العمليات العسكرية والعدائية بشكل دائم، وبدء سريانه قبل تبادل المحتجزين والأسرى بين الطرفين، مقابل إطلاق سراح جميع من تبقى من الرجال “الإسرائيليين” الموجودين على قيد الحياة “المدنيين والجنود”، مقابل عدد يتفق عليه من الأسرى في السجون الصهيونية ومن المعتقلين في معسكرات الاعتقال الصهيونية، وانسحاب القوات الصهيونية بالكامل خارج قطاع غزة.
وتتضمن المرحلة الثالثة والأخيرة، تبادل جثامين ورفات الموتى لدى الجانبين بعد الوصول لهم والتعرف عليهم، ثم البدء في تنفيذ خطة إعادة إعمار قطاع غزة لمدة من ثلاث إلى خمس سنوات، يشمل البيوت والمنشآت المدنية والبنية التحتية، وتعويض كل المتضررين بإشراف عدد من الدول والمنظمات، على أن تكون قطر، مصر، الولايات المتحدة، والأمم المتحدة هي الجهات الضامنة لهذا الاتفاق.
ما تضمنه الاتفاق من بنود وتفاصيل، ليس بالأمر الجديد ولا المفاجئ، فمعظم تلك البنود، تم تضمينها في مقترحات سابقة، لكنها لم تسفر حينها عن قرارات جدية من الطرفين، وكانت وسائل إعلام عبرية قد سربت خلال الآونة الأخيرة تنازلات قدمتها حكومة نتنياهو بشأن شروطها المسبقة التي كانت تريد من خلالها صفقة مجانية مع حماس، في محاولة لتبرئة ساحتها أمام الرأي العام الداخلي والعالمي الضاغط عليها.
يرى محللون سياسيون إن المقترح المقدم للحركة من الوسطاء، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن لا يكون قد عُرض ابتداء على الولايات المتحدة، وحصل على موافقتها، لاسيما وأن مدير وكالات المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز متواجد القاهرة، وعلى إطلاع بتفاصيل الأمور مع الوسيطين القطري والمصري.
ومن المستبعد أيضًا أن لا تكون حكومة الاحتلال على اطلاع على مسودة المقترح التي وافقت عليها حماس. فالجانب الإسرائيلي على رؤية، وتصور كامل عن هذا المقترح وبنوده تفصيلًا، فمن الصعب أن يخفي الأمريكي عن حليفه مسألة كهذه.
وكان نائب رئيس حركة حماس، خليل الحية، قد أكد هذا الأمر، خلال مقابلة له مع قناة الجزيرة أشار خلالها إلى أن الوسطاء، مصر وقطر، أبلغا الحركة بأن الرئيس الأمريكي جو بايدن “يلتزم التزامًا واضحًا بضمان تنفيذ الاتفاق”، ما يعني أنه قد اطلع ووافق عليه وأقر عرضه على الحركة، ومن ثم فإن أي حديث يتردد حول عدم معرفة تل أبيب أو واشنطن بتفاصيل هذا المقترح، وأنهم بحاجة لدراسته وإجراء مناقشات بشأنه لتقييم محتواه وبعض بنوده، أو أنه لا يلبي طموحات وطلبات إسرائيل، هو حديث يفتقد للموضوعية، بل هو رفض للتفاوض، وفق استراتيجية المراوغة والتملص التي يتبناها الكيان وحليفه.
مراوغة نتنياهو
على مدار الأشهر الماضية على مسار الحرب يخسر نتنياهو أوراقه بالفشل والانكسار، أمام صمود المقاومة، وإصرار الشعب الفلسطيني على نيل استحقاقه في استقلاله الناجز، وبناء دولته على ترابه الوطني الفلسطيني، وهو يقدم التضحيات الجسيمة على مذبح الحرية، أمام أمواج الاحتجاجات العنيفة ضد حكومة نتنياهو وإدارة بايدن، بالتضامن والدعم والمساندة مع قضية الشعب الفلسطيني، ووقف الحرب الهمجية والمجازر الجماعية على قطاع غزة.
كانت الرواية التي يرددها قادة الحكومتين للخروج من هذا المأزق، وتخفيف حدة هذا الهجوم، تتمحور حول تحميل حماس مسؤولية عرقلة أي اتفاق تهدئة، فأكثر من مرة قال نتنياهو وبايدن إن الكرة في ملعب الحركة وأن بيدها تهدئة الأمور إذا أرادت.. تلك الرواية أعطت الضوء الأخضر، لجيش الاحتلال لمواصلة عملياته الإجرامية، بحجة أنها السبيل الوحيد للضغط على حماس لإرغامها قبول الشروط الصهيونية ، ما يعرض عليها من مقترحات، وهي الرواية ذاتها التي استندت إليها إدارة بايدن لتقديم كل أوجه الدعم للاحتلال رغم الاحتقان الشعبي ومعارضة التورط في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد أطفال ونساء غزة.
هذا الخطاب السمج، وغير الحصيف، يتناغم ومع رغبة نتنياهو وحكومته الدينية اليمينية المتطرفة الرافضة لأي اتفاق تهدئة، والباحثة عن مزيد من التصعيد، عبر توسيع جبهات الصراع ليشمل إيران ولبنان وسوريا والعراق واليمن. ومزيد من التنكيل والإجرام والتدمير، يؤجل به حسم مصيره السياسي المتيقن أنه مربوط بنهاية تلك الحرب والتوصل لاتفاق.
أهداف اجتياح معبر رفح
الإعداد لعملية اجتياح رفح، التي يراهن عليها نتنياهو، للضغط على حماس وارغامها على تقديم تنازلات تمنحه النصر المطلق، بما يجمل صورته ويحمي مستقبله السياسي، والجانب الآخر يشعل بها الموقف، فيقضي نهائيًا على الحل السياسي كخيار على طاولة الحرب، لتبقى الأوضاع على مستوياتها الملتهبة إلى ما لا نهاية.
وبينما كان يستعد للعملية فعليًا، وبعدما أرسل جيشه منشورات ورسائل تحذير لسكان رفح بالنزوح إلى ما أسماها “المنطقة الإنسانية” بالمواصي شرق القطاع، وخانيونس، إذ بحماس ترد على مقترح الوسطاء بالموافقة، لتبعثر بهذا الرد كل أوراقه، وتربك كل حساباته، وتضعه في مأزق لم يتعرض له من قبل.
ويبدو أن حكومة الاحتلال لا تريد التهدئة، ولا تضع ملف الأسرى في حساباتها، كما تزعم وتردد في خطابها لعائلات المحتجزين، وهو ما عبرت عنه الحركة صراحة بتصريحها الصادر صباح يوم الاقتحام، والذي قالت فيه إن “اقتحام المعبر بعد موافقتنا على مقترح الوسطاء يؤكد نية الاحتلال تعطيل جهود الوساطة لوقف إطلاق النار من أجل مصالح شخصية لنتنياهو وحكومته المتطرفة”.
أزمة حكومة الاحتلال
بداية لا بد من الإشارة إلى أن صدمة الاحتلال ليست بسبب بنود الاتفاق قدر ما هي بسبب موافقة حماس من الأساس، والتي كانت مستبعدة بالنسبة للمفاوض الصهيوني ، هذا بخلاف التوقيت الحساس، قبيل بدء عملية رفح التي يراهن عليها نتنياهو في إشعال الموقف وإرباك المشهد.
ومن ثم فإن موافقة حماس على المقترح تعمق من مأزق حكومة الاحتلال ويضعها في زاوية ضيقة، وأيًا كانت سيناريوهات الرد، إيجابًا أو سلبًا، يصطدم نتنياهو إما باليمين المتطرف في حكومته مما يهدد تماسكها ويسرع من انهيارها، وإما يجد نفسه في مواجهة العالم والمجتمع الدولي، وفي النهاية لن يجد سبيلًا من الرضوخ مهما طال أمد العناد.
وأخيرًا فإن اجتياح معبر رفح قد تكون خطوة لعملية عسكرية كبرى لاجتياح مدينة رفح بشكل كامل، وهو ما سيضع حكومة الاحتلال في مواجهة المجتمع الدولي بأكمله، خاصة بعد إعلان أعضاء مجلس الحرب بالإجماع المضي قدمًا في عملية رفح بصرف النظر عن رد حماس.
ويبدو أن مغادرة الوفد الصهيوني القاهرة، لعدم تخويل له الصلاحيات الكاملة باتخاذ القرار، وأن مقترح الهدنة واتفاق وقف إطلاق النار يضع حكومات الاحتلال في حرج سياسي وأخلاقي أمام شعبها، والرأي العام العالمي من جانب آخر، خاصة بعدما أسقطت حماس بقبولها للمقترح حجج الأنظمة الداعمة والمساندة لـ”إسرائيل” وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ويبدو عدم رضا الجانب الصهيوني على مقترح التفاوض هو ما عطل هذه الجولة من المباحثات، وفي ذات الوقت غادر وفد حماس القاهرة إلى الدوحة.
وإلى ذلك يواجه بايدن وإدارته انتقادات حادة من الشارع الأمريكي بسبب دعمه اللا محدود لـ”إسرائيل” في حربها ضد غزة، فبجانب انتفاضة الجامعات والمدارس الأمريكية والتي تجاوز حدود البلاد إلى جيرانها الأوروبيين. ومؤخرًا بعث 100 موظف بالكونغرس دعوة للرئيس وأعضاء الكونغرس للمطالبة بوقف فوري للهجوم الصهيوني على رفح قبل فوات الأوان، حسبما قال موقع “أكسيوس” الأمريكي.
كما شدد مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، على ضرورة إنهاء القتال، وحذر من اجتياح رفح قائلًا: “نحن على مشارف أزمة إنسانية كبرى”، وهو ما حذر منه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي قال إن العملية البرية التي تلوح بها “إسرائيل” جنوب غزة أمرًا “لا يُحتمل بسبب عواقبه الإنسانية المدمّرة وتأثيره المزعزع للاستقرار في المنطقة”.
“إسرائيل” تلعب بأوراق خطيرة، لجر الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي لحرب إقليمية واسعة النطاق، وهو ما تدرك أبعادها هذه الأطراف.. فهل “إسرائيل” ستغامر بارتكاب مجزرة أخرى، في رفح تضاعف بها الحالة المأساوية الكارثية للشعب الفلسطيني للوصول لتحقيق أهدافها، أم أنها وصلت لطريق مسدود، وهو ما يستدعي إخراجها من هذا المستنقع بالحوار مع حركة حماس، وترتيب أوضاع البيت الفلسطيني؟ ذلك هو المشهد القادم الأكثر إثارة، يرى مراقبون ومحللون سياسيون، أن التوازن في المعادلة تميل في مجملها لصالح المقاومة بعد فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه، وبات مرغمًا – أمام الضغوط الداخلية والخارجية والفشل الميداني على الرضوخ لاتفاق يراه اعترافًا صريحًا بهزيمته في تلك المعركة الطويلة.
* المصدر: موقع عرب جورنال