الجيل الذي يخيف كيان العدو
زهراء الحسيني*
كل جيل جديد كان على الدوام – بكلّ ما فيه من توق للحداثة وشعبة جنون لم تقيدها الخيبات والإسقاطات بعد – عرضة لأحكام سلبية من الأجيال التي سبقته، بحكم أسباب متعددة أبرزها الفجوة التي تنشأ بين الأجيال على مستوى الخصائص الشخصية من جهة وعلى مستوى المستجدات التي يواكبها الجيل الجديد باندفاع فيما ينظر إليها من هو أقدم بتوجس وريبة.
هكذا حكم الكثيرون من الراشدين على أبناء جيل الألفية، “جيل التيك توك” كما سموه؛ بحيث لم يقتصر الأمر لدى هذا الجيل على تصرفات متحررة أو رغبة بالتغيير أو خطاب يُلقى في اعتصام يسمعه في أحسن الأحوال رفاق في الجامعة أو في الحي، ويا له من مقدام ومحظوظ من كانت تسنح له هكذا فرصة.
ونحن لسنا في 2011 العام الذي اتُهمت فيه وسائل التواصل بأنها أشعلت ما يسمّى بـ “الربيع العربي” ولا في العام 2018 الذي اتّهمت فيه وسائل التواصل وفيسبوك تحديدًا – ووراءه كامبريدج أناليتيكا – أنها وجهت آراء الملايين حول العالم ليتخّذوا خيارات انتخابية معينة، وما بينهما من أعوام وأحداث؛ ولا في عام 2020 وأزمة كورونا وطفرة استخدام الانترنت والتكنولوجيا الرقمية إلى حد اتهام مديريها بأنهم جزء من “المؤامرة”.
ولسنا في بداية ظهور تيك توك والصدمة التي أحدثها نتيجة طبيعته التي تضم الغث والسمين. ومن هنا أطلق على جيل ما بعد الألفية الأكثر استخدامًا لهذا التطبيق مصطلح جيل التيك توك، من قبل فئة تم إشغالها بالصراعات المختلفة عن إحياء قضية فلسطين في الأجيال الجديدة، إلا من رحم ربي.
مرحبًا بكم في العام 2024؛ طفرة العالم الرقمي، زمن الذكاء الاصطناعي؛ هنا لكل واحد منبر واستوديو إنتاج متكامل في جهاز صغير بحجم الكف، حيث يمكن لشاب مغمور لم يسمع به ولم يبالِ به أحد أن يُسمع صوته للعالم ويشاهد محتواه الملايين، وأن يؤثر فيهم، ويتأثر بهم؛ مع تدفق هائل للمعلومات والأخبار التي لم تعد محصورة ومحتكرة ومضبوطة.
لقد كبر الصغار، ثمّ استيقظوا ذات صباح من شهر تشرين، على مقطع فيديو من فلسطين ليروا الصهاينة يفرون كالمجانين، مَا فلسطين؟ ومَا غزّة؟ راحوا يفتشون، لم تقنعهم الروايات المسقطة؛ وهنا أتحدّث عن الشباب عمومًا والغربيين منهم خصوصًا.
فما الذي حدث؟
مع اللحظات الأولى لطوفان الأقصى كانت وسائل التواصل بيد الجميع بطبيعة الحال بمن فيهم كبار السن حتّى، ولكن أبناء الجيل الجديد كانوا أكثر من يفهمها ويجيد استخدام أدواتها؛ ما حولهم إلى رأس حربة، وضباط الصف الأول في معركة الرأي العام.
وينبغي هنا أن يُشهد أنه وفي خضم التعميم السلبي تجاه أبناء جيل ما بعد الألفية؛ رأى قائدَان باكرًا أملًا فيهم لم يره كثيرون، وحين عبر كلّ منهما عن الأمر بطريقته ترافق ذلك حينها مع موجة استخفاف لم تنحصر بالأبواق المناهضة فقط.
وأعني بالقائدين سماحة الإمام السيد علي الخامنئي، الذي وصف هؤلاء الشباب بضباط الحرب الناعمة منذ عام 2013 واستشرف أهمية الحضور الفاعل والذكي للشباب على وسائل التواصل الاجتماعي، وشجع عليه مرارًا. والقائد الثاني هو سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الذي أضاء على ذلك مرارًا؛ واعتبره جيل النصر الكبير، وقد دعا بعد إعلان القدس عاصمة لـ”إسرائيل” عام 2017 إلى الحضور الكثيف على وسائل التواصل لا سيما تويتر قائلًا: “مئات ملايين المواقف على مواقع التواصل الاجتماعي وخلال أيام وخلال أسابيع هذا عندما ينعكس على الإدارة الأمريكية وعلى الكيان الصهيوني سيحول الفرحة إلى غم وسيدركون أنهم يواجهون رأيًا عامًا كبيرًا وعظيمًا جدًا، وهنا نحن ما الذي نفعله؟ لا نزلنا تحت المطر ولا فتحنا صدرنا للرصاص، وهذا، من أضعف الإيمان ومن أقل الواجب. هذه واحدة من الفرص التي توفرها اليوم مواقع التواصل ولا تستطيع إدارة المواقع أن تغلق حسابات عندما تجد مئات الملايين، عشرات الملايين بالحد الأدنى، نعم هذا الأمر متاح.”
ولم يكذب الشباب من ظن فيهم خيرًا، ومنذ اللحظات الأولى لمعركة طوفان الأقصى تطوّرت مراحل الحضور كالتالي:
* تصدي الشباب الفلسطيني للنقل اللحظي للحدث وإيمانهم بأهمية نقل المشاهد للعالم لا سيما باللغة الأجنبية.
* تصدي الشباب العربي لصناعة المحتوى الداعم لفلسطين بلغات مختلفة.
* تشكيل عامل ضغط دفع بعض المؤثرين للحديث عن القضية (التي كانت شبه غائبة لا سيما في الترند الغربي).
* ليخرج المزيد من المؤثرين عن صمتهم خصوصًا مع مجزرة مستشفى المعمداني حيث تصدرت الوسوم ذات العلاقة بالحادثة الترند لتشكّل محطة مفصلية خصوصًا على مستوى العالم الغربي.
* ومع انقضاء شهرين من الحرب كانت الرواية الصهيونية تلفظ أنفاسها، مع غياب الأدلة المقنعة والدخول في أكاذيب متتالية في ما يشبه التهريج، ووقوع مؤسسات الهسبارة (الدعاية الصهيونية) تحت الصدمة والتخبط. ترافق الأمر مع شبه انكفاء الناشطين الإسرائيليين واليهود حول العالم عن الدعم والتصدي بالمستوى المطلوب، هذا عدا عن تراجع التضامن الأجنبي والفضائح التي لاحقت من تضامن منهم مع رواية الاحتلال ووضعتهم في مواقف مخجلة.
* ونتيجة مهاراتهم في البحث عن المعلومات عبر النت؛ سعى الشباب للبحث عن أجوبة على أسئلتهم ولم يكتفوا بالروايات الموروثة. ومن أهم الشواهد والمحطات على هذا الصعيد كان عثور الناشطة الأمريكية الشابة لينيت أدكينز على رسالة أسامة بن لادن التي كان وجهها للأمريكيين بعد أحداث 11 أيلول 2001 منشورة على موقع صحيفة غارديان البريطانية معلنًا أن السبب الرئيسي في الهجمات هو دعم الولايات المتحدة لـ “إسرائيل” ومع حديثها حول الأمر عبر حسابها على تيك توك انتشر المقطع كالنار في الهشيم وتصدر وسم بن لادن الترند عالميًا وفي الولايات المتحدة والكيان المؤقت خصوصًا، واضطرّت الغارديان لمحو الرسالة من الموقع.
* وبالتوازي مع هذه المستجدات تصاعدت المظاهرات الشبابية في الشوارع والجامعات وخرجت استطلاعات الرأي بنتائجها الصادمة لكثيرين، كاستطلاع معهد هاريس الأمريكي بالتعاون مع باحثين من جامعة هارفرد والذي أظهر أن من بين كلّ 10 شباب أميركيين هناك 5 بالحد الأدنى يعتبرون أن “إسرائيل” يجب أن تنتهي. لتتراكم الأمور ككرة الثلج، اعتصامات وإضرابات عن الطعام، مما أدى إلى قطع العديد من الجامعات علاقاتها مع “إسرائيل” وسحب استثماراتها.
وفي غلاسكو – بريطانيا، تم انتخاب الطبيب الفلسطيني غسان أبو ستة رئيسًا للجامعة في سابقة هي الأولى من نوعها. هذه التحركات دفعت السلطات الأمريكية للتدخل بشكل مكثف، مستعينة بخبراء سيبرانيين لتحديد هويات الطلاب والأساتذة المشاركين في الأنشطة المناهضة لـ”إسرائيل”، مما أثمر عن قمع متعدد الأوجه.
وقد مُنعت الطالبة أسنا تبسم من إلقاء خطاب التخرج في جامعة كاليفورنيا بسبب دعمها لغزّة، وتم استجواب مديرتي جامعتي هارفارد وبنسلفانيا، مما أجبرهما على تقديم الاستقالة. هذا الوضع وضعَ الحكومة الأمريكية في موقف محرج أمام العالم ومواطنيها، خاصة في ما يتعلق بمبادئ حرية التعبير.
وما الأمر الذي أثار الجدل مؤخرًا في جامعة كولومبيا إلا جزء من سياق امتد لأشهر وتدحرج ليتفاقم وينفجر، وستشهد الأيام القادمة أن الجامعة – المعروف عنها أنها لطبقة الميسورين ماليًا -وضيق أفق رئيستها نعمت شفيق التي كانت ملكًا أكثر من الملك في إجراءاتها القمعية، سيكونان بمثابة دفعة اشتعال كبرى جديدة قد تهدّد الأمن القوميّ للولايات المتحدة. أجل، إنه عام 2024 عام انتفاضة الشباب الأمريكي.
* موقع العهد الاخباري