تآكل تمثال الحرية!
يمانيون// كتابات// وديع العبسي
سيكون من الغباء أن تتعامل أمريكا مع حدث الثورة الطلابية كأمر عارض، خصوصا وأن مظاهر الحدث تعددت، فلم يقتصر على الطلاب، لكنه شمل الدكاترة الأكاديميين، ولم يتوقف عند جامعة النخبة وقادة مستقبل أمريكا (كولومبيا) لكنه زحف إلى جامعات وولايات أخرى.
قبل ذلك كانت حالة الرفض الصريح للسياسة الأمريكية تجاه الإجرام الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني، حاضرة بقوة في الشوارع وساحات البيت الأبيض ومقرات بعض القادة، كما وفي عديد من المؤسسات السياسية والتشريعية، ولم يقف الرفض عند مستوى التعبير ولكنه ذهب إلى حد الاستقالات، كما حدث في خارجية البيت الأبيض الذي بلغ عدد المستقيلين لهذا السبب، ثلاثة من كبار موظفيه، وكذا استقالة رئيستي جامعة هارفرد وجامعة بنسلفانيا من منصبيهما.
لذلك جاء رد فعل السلطات الأمريكية بذلك الشكل العنيف غير المبرر ليكشف عن مستوى الانفصام الذي تعيشه الإدارة الأمريكية وساستها الذين يدوسون على كل ثوابتهم حد قتل أبنائهم إن استدعى الأمر ذلك عندما يمس الأمر بالكيان الصهيوني، فيما نزل البعض من كبار القادة الأمريكان إلى مستوى فعل البلاطجة فذهب يفرد عضلاته على الطلاب يهدد ويتوعد بالويل والثبور إن هم لم يعودوا عن مطالبهم بقطع الاستثمار مع الكيان، كما حدث مع رئيس مجلس النواب مايك جونسون الذي يُعرف بأنه «دمية بيد الديمقراطيين» رغم أنه جمهوري، ومجموعة من النواب، إذ نزل إلى طلاب جامعة كولومبيا وتوعدهم بتعبئة الحرس الوطني ضدهم، في تحلل مثير يُسقط بالهالة الأمريكية إلى مستوى الحضيض أن تستقوي على مواطنيها من الشباب بهذا الشكل غير الأخلاقي، ثم كان طبيعيا أن يبصق طلاب الجامعة في وجهه قائلين: أنت شخص مقزز.
وكذب جونسون حين ادعى بأنه جاء إلى الجامعة لأن هناك طلاباً يهوداً يتعرضون لمضايقة ممن اعتبرهم معادين للسامية، إذ أن بعض هؤلاء الطلاب كانوا يهوداً، إضافة إلى أن بعض النوادي الطلابية المنظمة لهذه الاحتجاجات تتبع ناشطين يهوداً من أجل السلام.
الاحتجاجات الطلابية المناهضة لهذا التواطؤ مع العدو الصهيوني شهدته عدد من الولايات الأمريكية، من لوس أنجلوس إلى نيويورك، مرورا بأوستن وبوسطن وشيكاغو وأتلانتا، وفي عدد من الجامعات المرموقة عالميا مثل هارفرد ويال وكولومبيا وبرينستن، هذا إلى جانب جامعة «إيمرسون كولدج» في بوسطن، وجامعة تكساس الواقعة في مدينة أوستن، وجامعة إيموري في أتلانتا جنوب الولايات المتحدة، على هذا النحو الملفت، تمددت الاحتجاجات التي تفجرت بفعل تلك المشاهد المأساوية القادمة من غزة لقتل وتشريد وتجويع الأطفال والنساء وكبار السن، وتلك المشاهد التي كشفت عن مقابر جماعية لجثث مئات الفلسطينيين تم دفن بعضهم أحياء.
الواضح جدا أن هناك شيئاً ما يتأسس لحقبة عالمية جديدة، عندما يجرف تيار التغيير الأنظمة المتصهينة أو المرتبطة بالصهاينة، فإلى جانب ما تشهده الجامعات الأمريكية، هل نما إلى مسامع الإدارة الأمريكية حديث البروفيسور ديفيد بالومبو ليو، أستاذ الأدب المقارن في جامعة ستانفورد الذي أوضح أن الشباب الأمريكيين يرون أن الدفاع عن فلسطين «اختبار أخلاقي حقيقي للعالم»، وهو ما كانت تنظر إليه أيضا الفيلسوفة والكاتبة والناشطة الحقوقية الأمريكية أنجيلا ديفيس؟ وهل بلغ الإدارة الأمريكية نبأ الناشط الأمريكي تيغي باري الذي أشهر إسلامه أثناء انضمامه لأسطول الحرية؟ وهل سمعت ما كانت تردده المظاهرات في شوارع ولاياتها، من شعارات مثل «فلسطين حرة» و”أوقفوا المجزرة”، “حرروا فلسطين”، “أوقفوا الاحتلال” و”أوقفوا إطلاق النار الآن”؟.
هذا الإصرار العجيب من الإدارة الأمريكية على حماية الكيان الصهيوني ومحاولة ترسيخ الوضعية الاستثنائية لهذا الكيان في السياسة الأمريكية لدى الأمريكيين، لا يبدو أنه ينجح مع هذه الأصوات الحرة وأصوات جيل الشباب الذي لم يتشبع بعد بثقافة الكراهية والعنصرية، لذلك فإن ما حدث وإن نجحت آلة القمع الأمريكية كتمها، أشعلت كما يبدو فتيلا لمرحلة أمريكية جديدة تتخلق فيه بشكل مختلف، وقد غادرت مربع الاستعلاء والغطرسة، واستغلت فيها إمكانياتها الهائلة لصالح نشر السلام والانتصار للمظلومين والتوقف عن الاعتماد على ثروات الشعوب المستضعفة، وسيتعزز لهيب الفتيل مع انتقال موجة الرفض إلى دول أوروبا، التي شهدت بعض أبرز جامعاتها احتجاجات مماثلة، فأقام طلاب جامعة «السوربون» في فرنسا، مخيمات التضامن دعماً لغزة، كما شهدت كلية «ساينس بو» للعلوم السياسية، احتجاجات معارضة للحرب على غزة، وفي أستراليا، أقام طلاب جامعة «سيدني» مخيمات مؤيدة لفلسطين، فيما نصب طلاب جامعة ملبورن، خياماً في الحديقة الجنوبية للحرم الجامعي الرئيسي، أما في إيطاليا، فنظم طلاب من جامعة سابينزا، مظاهرات واعتصامات وإضرابات عن الطعام يومي 17 و18 أبريل الجاري، وشواهد أخرى، ودائما كان تعامل الأمن عنيفا مع هذا الحق في التعبير عن رفض انتهاك الإنسانية.