عن عملية الوعد الصادق الايرانية “رؤية “
عبدالرحمن مراد
منذ السابع من أكتوبر 2023م الى اليوم مضت سبعة أشهر أو تزيد، وخلال هذه الفترة خفت صوت الحرب في أوكرانيا ليرتفع صوت المعركة في غزة، ثم خفت صوت المعركة في غزة لينتقل الضوء الى البحر الأحمر، وبعد أن خفت ضجيج البحر الأحمر انتقلت دائرة الضوء الى عملية الوعد الصادق الإيرانية، هذا التبدل والانتقال من دائرة الى أخرى ليس اعتياديا ولكنه اشتغال مدروس على الرأي العام العالمي وتحريكه وفق قضايا ومصالح وأهداف يشتغل عليها النظام الدولي القديم حتى يحافظ على قدراته اللوجستية في صناعة الأزمات وإدارتها .
إسرائيل تقصف القنصلية في دمشق في سابقة غير معهودة تخترق القانون الدولي فيسكت المجتمع الدولي عن الجريمة , بحجة عدم وضوح الرؤية للحدث، وتصمت إسرائيل دون أن تعلن مسؤوليتها عن الحادث حتى لا تضع مجلس الأمن في موقف محرج ,وعلى إثر ذلك يتعثر قرار إدانة تبنته روسيا في مجلس الأمن , وتعمل ايران على الثأر لكرامتها السياسية فترد بعدد كبير من المسيرات والصواريخ الباليستية وتقوم بإبلاغ أمريكا قائلة أنها لا تريد تصعيدا في المنطقة ولكنها مضطرة للثأر لنفسها مما قامت به إسرائيل التي استهدفت أحد عناصر المقاومة في قنصلية ايران بدمشق , ومثل ذلك الاستهداف الذي حدث في قنصلية ايران في دمشق نهج قديم في السياسة الإسرائيلية فهي تحاول اغتيال كل القادة الذين تكون أدوارهم مؤثرة على وجودهم الاستيطاني في فلسطين ,وغالب أولئك من ايران أو من محور المقاومة على وجه العموم , بلغت إسرائيل غايتها من العملية العسكرية للقنصلية من خلال الاغتيال لأحد عناصر المقاومة مع عدد آخر من الجنود , وجاء الرد الإيراني في عملية الوعد الصادق دون أن يترك ندوبا ذات أهمية في وجه إسرائيل القبيح – وفق كل التقارير والتصريحات المتداولة – لكنه كشف الغلالة عن الترسانة العسكرية التي بحوزة ايران وتقنيتها والمدى الذي تصل اليه وقدراتها .
في تقديري أمريكا استدرجت ايران الى هذه العملية استدراجا مدروسا وواعيا بدليل أنها كانت على علم بموعد الرد وشاركت في عملية صد الهجمة مع بعض قواعدها وعملاءها في المنطقة ,ومنعت إسرائيل من الرد – المنع لن يكون إلا ظاهرا لكنها باطنا سوف توجه إسرائيل بالرد حتى تكتشف القدرات الدفاعية الإيرانية – وليس كما يشاع خفضا للتصعيد بل لغايات تقييم الوضع العسكري في المنطقة ثم تعمل على خفض التصعيد ومعرفة الموقف منه , وجمع معلومات ربما عجزت عن الوصول اليها عبر أجهزتها الاستخبارية فكانت العملية العسكرية هي المحك الذي تدرس من خلاله الموقف وتقيمه .
اليوم كاد الحديث في الرأي العام ينحصر في الرد الإيراني الذي كان مشروعا وفق كل القوانين الدولية , وبه ومن خلاله تم الانتقال من موضوع البحر الأحمر إليه ,حتى تمارس إسرائيل أو تستمر في ممارسة غواية القتل والتشريد والتهجير لسكان غزة لبلوغ الغاية من ذلك وهي بسط النفوذ على قطاع غزة – وقد ورد ذلك في غالب التصريحات للمسؤولين الإسرائيليين – وصولا للحلم الذي يتجدد في دولة إسرائيل الكبرى وقناة ابن غوريون .
وقناة ابن غوريون ترتبط بمشروع دولة إسرائيل الكبرى ارتباطا عضويا ففي جل التقديرات أنها تتحكم بالملاحة البحرية وحركة التجارة العالمية وقد تدر دخلا قوميا كبيرا للدولة /الحلم التي ترغب إسرائيل في الوصول اليها وفق مرجعياتهم الثقافية والعقدية التي يجدونها في كتبهم .
سيناريو الرد الإسرائيلي والضغط الأمريكي على إسرائيل واستعداد إسرائيل للرد وتراجعها في اللحظة الأخيرة كان معدا بطريقة ذكية جدا حتى يصدق الرأي العام العالمي ذلك ولو ارادت الشروع في الرد لما رضخت كما تفعل بكل التصريحات المتعلقة بحرب الإبادة في غزة , فالمتعارف عليه وفق كل المعطيات أن أمريكا هي من تدير الحرب في غزة ولكنها تحاول أن تقف موقفا يقنع المتابع بقدر وافر من الحيادية في التعاطي مع ما يحدث .
نحن اليوم معنيون بدراسة الاحداث بكل تواترها وتتابعها وتقييمها وفق قياسات ومعايير منطقية تراعي المصالح المرسلة للأمة وبما يحفظ لها التوازن النفسي والثقافي والحضاري والاجتماعي , فالقضايا الكبرى تتطلب معرفة ووعيا واستراتيجيات كبرى , فالمعرفة هي من تدير المعركة اليوم ولذلك يستخدمون كل المعارف والعلوم الانسانية في المعركة من حيث التدبير وصناعة المقدمات والوصول للنتائج بأيسر جهد وبأقل التكاليف .
وبعيدا عن تمجيد الرد الإيراني من عدمه إلا ان الضرورة كانت تفرضه حتى يحدث التوازن السياسي والعسكري في المنطقة من حيث الردع ومن حيث الحد من الكثير من الطموحات للعدو الأمريكي والإسرائيلي، وربما ترك الرد ظلالا على الكثير من القضايا العالقة وشكل نفطة تحول في قابل الأيام في مسار القضية والاحداث .