ثورة 14 أكتوبر المجيدة تبحث عن ثوارها
يمانيون – منابعات
بين 14 أكتوبر 1963، و14 أكتوبر 2023، 60 عاماً، وثورة تحرر وطني أنهت تراكمات 130 عاماً من الطغيان والعبث والإجرام والاستعباد والعربدة والوحشية الاستعمارية البريطانية، وقدّم شعبنا الحرّ في المناطق اليمنية الجنوبية والشرقية في سبيل نيل الحرية والاستقلال عشرات الألاف من الشهداء الأبرار.
60 عاماً مضت من عمر الثورة الأكتوبرية المجيدة، فما الذي تبقّى منها، وأين هي أهدافها؟.
الأهداف تبخّرت، وجنوبنا مُحتلّ من قِبَل أحذية بريطانيا، والثورة لم يتبقَّ منها سوى الاسم فقط، والصورة انقلبت رأساً على عقب، والمفاهيم تغيّرت، والأدوار تبدّلت، والمستعمِر لم يعد مستعمِراً بل مُحرِراً، ومقاومة الغُزاة والمحتلين لم تعد عملاً وطنياً بل عمالة وخيانة وإرهاباً، ويبقى المشترك بين الزمنين:
الخاصرة الجنوبية للجزيرة العربية، بما تتوافر عليه من موقع استراتيجي وثروات طبيعية بِكر، ساحة لعبث الغرباء، ومسرحاً لأطماع ونهب المهيمنين، القدماء والجدد.
وما بين الزمنين لا زالت ثورة 14 أكتوبر تبحث عن المناضل الحرّ الشيخ راجح غالب لبوزة ورفاقه من الثوار الأكتوبريين الأحرار، ليُعيدوا للثورة طُهرها وعفّتها ونقائها وألقها ووهجها، ويُعيدوا لأهدافها قُدسيّتها، ويُعيدوا لشعبنا اليمني الحرّ في الجنوب كرامته وعزته وحريته وأرضه وسيادته وقراره، ويُطهروا الجنوب وجُزره وسواحله ومياهه وبحاره من خبث ورجس ونجاسة تحالف العاصفة العبرية وأحذيتها المحلية، ويُوقفوا عبثهم وجرائمهم بحق أرض وإنسان تلك المناطق الطاهرة.
العملاء ورقة الاحتلال الرابحة:
منذ احتلال الانجليز لجزيرة “بريم” في العام 1799، ربطتهم علاقة صداقة ومودة بسلطان العبادلة، واستفادوا من تلك العلاقة في إكثار التردد على عدن تحت مبرر التزود بالماء والتزاور، وانتهى مطاف المغازلة كما يذكر الدكتور “أحمد فخري” بعقد معاهدة ودية وتجارية في 6 سبتمبر 1802 ميلادي بين أمير العبادلة بلحج السلطان “أحمد عبدالكريم” وممثل الشركة الهندية الشرقية الإنجليزية، تضمنت بنودها:
1 – فتح ميناء عدن للتجارة البريطانية.
2 – تأجير جزء من مدينة عدن للإنجليز.
أسهمت هذه المعاهدة في تعاظم النفوذ البريطاني، وتوجهه في 11 يناير 1839 ميلادي للبسط على عدن بالقوة، ومن يومها أصبحت مستعمرة بريطانية، وتذرّع الاحتلال بتحطم بعض سفنه في خليج عدن، ونهب سكان عدن محتوياتها.
وكان أمير العبادلة بلحج قد أعلن خروجه على إمام اليمن في العام 1732، وبدلاً من تعزيز استقلال بلاده وما جاورها قرر في 6 سبتمبر 1802 وضع الحجر الأولى في قبر ذلك الاستقلال بتوقيعه اللا واعي واللا مسؤول على تلك المعاهدة، والتي مثّلت صكّ غفران للاحتلال لتوسيع نفوذه وصولاً إلى البسط والسيطرة على عدن في العام 1839.
أخذ نفوذ الاحتلال بالتوسع والتغلغل داخل اليمن، انطلاقا من عدن، والتي مثّلت مُرتكزاً للانطلاق، وأصبحت سلطنة لحج نفسها محمية من بين عشرات المحميات بموجب معاهدة 5 مايو 1881، وأخطر ما ورد في هذه المعاهدة، تعهد السلطان “فضل بن علي محسن العبدلي” بـ:
1 – تحمّل المسؤولية عن أي تعدٍّ يحدث من رجال القبائل على المحتلين، بمعنى حماية المحتلين من غضب الشعب اليمني الحر.
2 – عدم عقد أي معاهدة مع الدول الأخرى دون إذن حاكم عدن الإنجليزي.
3 – عدم تعمير القلاع والعمارات على ساحل البحر دون إذن حاكم عدن الإنجليزي.
4 – ربط استيراد أو تصدير السلاح والذخائر والعبيد وكل أنواع التجارة والمكسرات والمكيفات من السواحل اليمنية بتصريح خطي من الحاكم الإنجليزي في عدن.
ولذا لا نستغرب من حال الحكومة اليمنية الكومبارسية الموالية للعدوان السعودي الإماراتي اليوم، فالمشهد يُعيد نفسه، وعبادلة اليوم أكثر قذارة وانبطاح وعمالة من عبادلة الأمس، على الأقل عبادلة الأمس كان لهم بعض المواقف الداعمة للانتفاضات الشعبية ضد الاحتلال وإن على استحياء، بينما هم اليوم كالأنعام السائمة همّها علفها وليذهب الشعب والوطن إلى الجحيم.
وثمن بيع القرار والسيادة اليمنية بخس ومُخزي، حيث تعهد الاحتلال بدفع راتب شهري للسلطان وإطلاق الحامية البريطانية في عدن 21 قذيفة مدفعية عند زيارته لها، وعش رجباً ترى عجباً.
المثير في الأمر أن الإنجليز كان لديهم فرَمان من الاحتلال العثماني يُتيح لأسطولهم استخدام ميناء عدن متى أراد، لكنهم فضّلوا عقد معاهدة مع سلطان لحج وبقية السراطين من أجل منح وجودهم الشرعية، ليعبثوا كيفما شاءوا.
أعطت المعاهدة الاحتلال الضوء الأخضر لتنفيذ سياسته الاستعمارية التوسعية، وبسط نفوذه على كامل الساحل الجنوبي لجزيرة العرب ومدخل البحر الأحمر، وتوافرت عدة عوامل ساعدته على التمدد السريع وطول فترة الاحتلال، منها:
1 – حالة الضعف والوهن والتشظي في المناطق الجنوبية والشرقية.
2 – كثرة الصراعات بين مشائخ وسلاطين تلك المناطق على السلطة والزعامة والنفوذ.
3 – انتشار الأمية والجهل في أوساط السكان.
في ظل هذا الوضع المحلي المزري لم يجد الاحتلال صعوبة في السيطرة والتمدد والإبقاء على أسباب التنازع بين القبائل اليمنية وتغذيتها ليضمن لنفسه البقاء والسيادة والاستمرارية.
أنشأ الاحتلال عدة محميات في جنوب اليمن، وجعل من عدن مركزاً لإدارتها، وقسّم المناطق اليمنية الجنوبية والشرقية إلى كانتونات صغيرة، وجعل عليها أمراء ومشائخ، وأجرى لهم المرتبات ومخصصات الضيافة، وكل أمير بحسب حجمه ووزنه وقُربه من الاحتلال، وكبّل ذلك الكمّ الهائل من الغثاء السلاطيني والأميري والمشيخي بمعاهدات خاصة، أعطته الشرعية والأريحية للتحرك دون رقيب أو حسيب.
جرائم الاحتلال في جنوبنا الغالي:
تفنن الإنجليز خلال عقود احتلالهم البغيض للمناطق اليمنية الجنوبية والشرقية في الإجرام والعربدة، متجاوزين كل المحرمات والمقدسات والأعراف والنواميس.
ولا عجب مما نراه اليوم في فلسطين المحتلة من عربدة وإجرام صهيوني، وما رأيناه خلال سنوات عدوان تحالف العاصفة العبرية على اليمن، فأم أولاد الأفاعي واحدة، إنها مملكة الشر التي لا تغرب عنها الشمس، فهي من زرعت الغدة السرطانية الصهيونية في قلب المشرق العربي “فلسطين المحتلة”، وهي من زرعت السعودية الوهابية الهنفمرية في قلب الجزيرة العربية “نجد والحجاز”، وهي من لقنتهما دروس الإجرام والإرهاب، وهي أيضاً من قسمت جزيرة العرب إلى دويلات متناحرة، ونكتفي هنا بذكر بعضاً من عناوين جرائمها في جنوبنا الغالي خلال فترة الاحتلال، وما تلى الاستقلال الملغوم، وتفاصيلها مبسوطة في كتب المؤرخين لمن أراد الاستفاضة والاستفادة:
1 – تدمير المدن والقرى، وتشريد السكان المدنيين الآمنين، وإحراق ردفان بعملية عسكرية دانها حتى قائد الاستعمار البريطاني آنذاك، وما أشبه حال غزة هاشم اليوم بحال جنوب اليمن في تلك الحقبة المظلمة.
2 – ممارسة كل أساليب التعذيب الوحشي والمخيف ضد الأسرى والمعتقلين اليمنيين، وقتل وأسر الحكام والمشائخ المحليين، ودعم من يؤيدهم حتى يسهل القضاء عليه بعد انتهاء تاريخ صلاحيته كما هو حال “عبد ربه منصور هادي” اليوم.
3 – جعل اللغة الانجليزية اللغة الرسمية في جميع المعاملات الرسمية، وتعيين رؤساء الإدارات ونوابهم من الانجليز، وبقية الكوادر والكُتّاب من أبناء الجاليات الأجنبية الذين يجيدون الإنجليزية، واستبدال القضاء الشرعي الاسلامي بقضاء وضعي علماني باللغة الإنجليزية في جميع المجالات، وبناء الكنائس في مناطق مرتفعة عن المساجد.
4 – نشر المحرمات من خمور ودعارة وقمار وسِباب وأخلاق منحطة، وعدم الاهتمام بالتعليم في مسعى للتغريب الأخلاقي والإعلامي والثقافي، والتجهيل التعليمي، والتسطيح الديني، والإلهاء الاجتماعي.
5 – تحويل عدن إلى سوق للعمالة الرخيصة، ووكر للتآمر والدسائس على شمال اليمن، وفتح أبواب الهجرة الأجنبية إليها، ومحاربة العنصر الوطني، بغرض التهيئة لهندسة مشاريع سياسية مستقبلية للمنطقة مرتبطة بالاستعمار البريطاني، مثل: الحكم الذاتي لعدن، اتحاد الجنوب العربي، الحكومة الانتقالية.
6 – تشجيع نمو “برجوازية كمبرادورية” طفيلية مرتبطة بالمصالح البريطانية.
7 – إقامة مشاريع اقتصادية هامشية تلبي احتياجات القوات البريطانية في عدن، دون اكتراث لحال الشعب اليمني في بقية المناطق الجنوبية المحتلة.
8 – مضاعفة واقع التخلف والتفكك والانقسام، وإثارة الشقاق، وزرع الفتن، وتعزيز التعصب القبلي، وتفريخ العشائر والمشائخ والمشيخات، وتشجيع الأنساب القبائلية، وإثار نعراتها من أجل تعزيز الشعور بالانعزالية، وخلق حركات وطنية وسياسية متناهشة ومتخاصمة وهشّة، وبرامج وعقائد غربية علمانية متضادة ومتصادمة، بما يضمن ديمومة وتناسل عوامل التفرقة والتجزئة والفتن والاختلاف والتشاحن، بما لذلك من تبعات كارثية لا زلنا نكتوي بنيرانها إلى اليوم.
9 – تمزيق الوحدة اليمنية والنسيج الاجتماعي اليمني، وتعميق اليأس في أوساط اليمنيين من عودة التحام جسدهم الواحد.
10 – سلخ هوية الأجزاء الجنوبية والشرقية عن هويتها التاريخية والجغرافية عبر تغليب الثقافات والهويات المحلية، وتغذية النزعات الانفصالية، وتعميق هوّة الخلافات والصراعات البينية، بهدف طمس الثقافة والهوية الوطنية اليمنية، وتكبيل ووأد أي هبّة شعبية تحررية، وتفخيخ مستقبل الأجيال بألغام العنصرية المناطقية والعشائرية والفئوية.
وبلغة أخرى تدجين الهوية الوطنية لصالح الهويات المحلية المُصطنعة، وتعميق الهوة بين علاقات أبناء هذه المناطق وهويتهم الوطنية الأم، وتعميق النزعة الانفصالية التي وجدت في الجمعية العدنية ورابطة أبناء الجنوب العربي ضالتها المنشودة على أمل الحلول مكان الاستعمار بعد رحيله لتنفيذ مخططاته، كما هو حال الانتقالي الجنوبي اليوم ومجلس وحكومة العليمي ومن لفّ لفهم من العملاء والمرتزقة.
11 – شق المناطق الجنوبية إلى شرقية وغربية، فكوّن إدارة لمحميات عدن الشرقية – حضرموت والمهرة، وإدارة لمحميات عدن الغربية – لحج وأبين وشبوة، وجعل بينهما قطيعة سياسية وإدارية واقتصادية، ومنع الوفاق بين مختلف الأطراف اليمنية، وعمل على إنشاء كيانات سياسية هزيلة ومقسمة، ودق إسفين الشقاق بينها، وعمل على إغراقها في مستنقع الصراعات البينية، حيث بلغ عدد السلطنات والإمارات في الجنوب نحو 21 – 32 إمارة وسلطنة ومشيخية، مستقلة عن بعضها ومتناحرة فيما بينها، وصار الاستعمار الرابط الوحيد الذي يجمعها بدلاً عن الروابط الوطنية والدينية والثقافية، كما هو حال السعودية والإمارات اليوم مع مواليهم المحليين.
12 – إنشاء جيوش وقوات أمن محلية على أسس قبلية وعشائرية ومناطقية، وإغراقها في العصبيات الحزبية والسياسية، بنفس الطريقة التي يعمل بها الاحتلال الاماراتي والسعودي اليوم في المناطق المحتلة.
13 – زرع بذور الشقاق والخلاف بين شركاء النضال المسلّح، وكان لهذه الخطوة الشيطانية آثار كارثية في ضمان استمرار الصراع بين أطياف الفعل الثوري بعد رحيل الاستعمار، وهو ما بدى واضحاً في تباين وجهات نظر رفاق الكفاح المسلح واختلاف صفوفهم ووصولهم إلى مرحلة الصِدام الدامي في أكثر من مرة، خلال مرحلة النضال لنيل الحرية والاستقلال، وما بعد نيل الحرية والاستقلال للأسف الشديد، وما نراه اليوم بالمحافظات الجنوبية والشرقية مجرد صدى واجترار شائِه وممجوج لآثار تلك الحقبة المظلمة من تاريخ اليمن.
السفينة تغرق، بهذه العبارة احتلت بريطانيا عدن عام 1839، وبدأ معها تقسيم جنوب جزيرة العرب، ومعها بدأ تاريخ الوصاية والإقصاء والألم والصراعات، ولا تزال ألغامها تكوي الجنوب اليمني إلى يوم الناس.
تفخيخ الحراك الثوري:
جعل الاحتلال مدينة عدن قاعدة لتأمين المواصلات إلى مستعمراته في الهند، ومحطة ترانزيت لتزويد سفنه بالوقود، وحرص منذ البداية على إعطائها وضعاً متميزاً كما يذكر الدكتور “أحمد الصايدي”، فأوجد سياجاً منيعاً من السلطنات والمشيخات، وربطها بسلسلة من معاهدات الحماية، لتُشكل عازلاً بين مستعمرة عدن ومملكة الإمام في شمال وغرب اليمن.
وأبقى هذه المحميات على حالها من التخلف والفقر والجهل والتناحر والصراع البيني، ووجّه اهتمامه إلى عدن بسبب تواجد قواته وقيادته، فأنشأ فيها بعض الطرق والمشافي والمدارس البدائية، ونشطت فيها الحركة التجارية، وبدأت تظهر فيها طبقة من العمال والمستخدمين، تُنظم نفسها بالتدرج حتى صارت ذات وزن مؤثر في الحركة الوطنية التحررية، خصوصاً بعد إنشاء مصفاة عدن في عقد الخمسينيات من القرن العشرين، مقابل طبقتين من البرجوازية التجارية المحلية والأجنبية بالتوازي مع نمو الحس الوطني وتبلوره في تنظيمات وطنية أخذت تتطور حتى أصبحت حركة وطنية ذات تأثير تجاوز حدود مستعمرة عدن إلى محمياتها، ومعها بدأت قضايا التحرر من الاحتلال تطرح نفسها بقوة.
وما نريد التأكيد عليه هنا هو انحياز التنظيمات ذات النفَس المناطقي العنصري كالجمعية العدنية وتفرعاتها ورابطة أبناء الجنوب العربي وتحالفاتها إلى مجرد بيادق بيد الاحتلال، تماماً كما هو حال العبدلي وهادي والعليمي ومن سار على دربهم.
تشكلت الجمعية العدنية في العام 1950 تحت شعار “عدن للعدنيين”، واقتصر نشاطها الجغرافي على مدينة عدن عكس رابطة الجنوب العربي – نشأت في العام 1951 – فقد نشطت في الأرياف متجاوزة عقدة الجغرافيا، ما أعطاها أريحية أكبر للتحرك، لكن كليهما مجرد صدى للطبقة الأرستقراطية وأثرياء القوم والبيوت التجارية الأجنبية والمشيخات والسلاطين، وهذه الفئات مصلحتها مرتبطة بالاحتلال وبقائها مرتبط ببقائه.
عملت الجمعية على إقامة حكم ذاتي في عدن في إطار الكومنولث البريطاني، وضمت في صفوفها الأسر الأرستقراطية العدنية بما فيها المهجنة من أصول هندية وباكستانية وكبار الموظفين الإداريين والتجار، وفي العام 1954 حل مكانها “حزب المؤتمر الشعبي”، وبنفس النفَس المناطقي العنصري، ومن رحم حزب المؤتمر خرج الحزب الوطني الاتحادي، وكان هدفه إقامة دولة تشمل كامل الجنوب مرتبطة ببريطانيا تحت اسم “اتحاد الجنوب العربي”، لكن هذا المشروع سرعان ما تلاشى بريقه وخفت.
“رابطة أبناء الجنوب”، هي الأخرى أتت لتمثل مصالح أغنياء الريف والأسر المشيخية والسلاطينية، ولتعبّر عن ردة فعلهم على استمرار الأرستقراطية العدنية والبيوت التجارية الأجنبية في التمتع بالامتيازات والمصالح الاقتصادية، وكذا تجاه السياسة البريطانية الخاصة بالمحميات، وهي سياسة اتسمت بالإهمال، رغم إمساك الاحتلال بالقرار في تلك المحميات بموجب معاهدات الحماية ومعاهدات التشاور التي منحت الاحتلال حق تعيين موظفين ومستشارين انجليز لحكام المحميات.
ضمت الرابطة شخصيات من مختلف المحميات ومستعمرة عدن، وكان هدفها وحدة الجنوب واستقلاله، غير أن تماهيها مع سياسة الاحتلال في حرمان أبناء شمال اليمن القاطنين عدن من المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي عام 1955 أحدث فرزاً داخلها، فقررت الشخصيات الوطنية النازعة للاستقلال والتحرر من الاحتلال مغادرتها.
في الاتجاه المقابل شهد العام 1952 ظهور النقابات العمالية في مستعمرة عدن، وكان للجبهة الوطنية المتحدة دور محوري في توحيدها تحت اسم المؤتمر العمالي عام 1956، والذي مثّل حجر الأساس لتبلور الحركة الوطنية اليمنية، والممثل الأول لها، والمُنشّط لظهور الأحزاب القومية والوطنية الجديدة التي ساهمت في عملية التحرير.
على صعيد المقاومة الشعبية، خلقت سياسات الاستعمار منذ اليوم الأول لدخول مدينة عدن موجة غضب شعبية، قابلها المحتل بعنف مُفرط، وبقية العلاقة بين الاستعمار والمقاومة الوطنية في حالة مدٍّ وجذب، تبعاً لشخصية قادة النضال الوطني وقوة حضورهم وتأثيرهم، ومدى استقلال قرارهم وبُعدهم عن جوقة المطبلين، بالتوازي مع تفنّن الاستعمار في تخليق سياسات التركيع والتطويع.
ومع إطلالة العقد الثالث من القرن العشرين بدأت المقاومة الشعبية تأخذ طابعها التنظيمي تحت مظلة حركة وطنية جامعة تُسيِّر وتُنظّم الفعل الثوري التحرري.
مرّت الحركة الوطنية التحررية في المناطق الجنوبية والشرقية، بأربع مراحل، هي:
1 – مرحلة العمل السياسي والإعلامي السري في الثلاثينيات من القرن العشرين.
2 – مرحلة الإيقاظ والتيقّظ في الأربعينيات.
3 – مرحلة الاحتجاجات والإضرابات في الخمسينيات.
4 – مرحلة التمرد والثورة في الستينيات.
على امتداد سنوات الخمسينيات وبداية الستينيات، كان الشعب اليمني في المناطق الجنوبية والشرقية قد تمرّس على أساليب النضال الوطني، وخاض مختلف طُرق النضال السلمي، من أجل تحرره الوطني، كما يذكر “عبدالفتاح إسماعيل”.
وفي البداية الأولى للستينيات بدأت تغزو بعض التنظيمات السياسية، أفكار الكفاح المسلح، وكانت في الواقع تجسيداً لجوهر رفضها للوجود الاستعماري في البلاد، بالتوازي مع عمل الاحتلال على احتواء بعضها وإبقائها في حالة من الصراع والشقاق.
في 14 أكتوبر 1963 انفجرت الثورة من جبال ردفان الشماء بعد أن تم الاعداد لها تنظيمياً وعسكرياً في تعز وإب وصنعاء، وكان لعودة بعض رجال القبائل من شمال اليمن وعلى رأسهم الشيخ راجح غالب لبوزة قصب السبق في إشعاله، حيث حاول الاحتلال أن يطبّق عليهم قانون يُجرِّم المشاركين في جيش أجنبي، في إشارة لمشاركتهم في ثورة شمال اليمن، ويقضي القانون بدفع كل واحد من رجال القبائل 10000 شلن والسجن 3 سنوات، وكان للعائدين علاقة بالجبهة القومية العربية، ما ساعد على تعجيل إشعال فتيل الثورة.
رفض لبوزة ورفاقه الخضوع لذلك القرار الظالم، فأرسل الاحتلال قوة لإجبارهم على تنفيذه، استشهد في المواجهات لبوزة، وباستشهاده أعلنت الجبهة القومية انطلاق ثورة 14 أكتوبر لتشمل كامل المحميات الشرقية والغربية، ووصلت شرارتها إلى مدينة عدن.
نجحت الجبهة لأول مرة في إيصال مظلمة الشعب اليمني في المناطق الجنوبية والشرقية إلى العالم، وإسماع العالم بأن هناك شعب جاد في النضال من أجل انتزاع حريته واستقلاله، وتطهير أرضه من دنس المحتل، ووصل إلى مستوى من القوة والتنظيم بصورة تجعله قادراً على المواجهة، وبذلك استطاعت نقل القضية إلى المجال السياسي العربي والدولي لأول مرة.
وفي 19 مايو 1965 حددت 5 أهداف للنضال المقدس:
1 – التحرر التام من الاستعمار سياسياً واقتصادياً لكل مناطق الجنوب والجزر التابعة.
2 – تصفية القواعد العسكرية للاستعمار البريطاني.
3 – إسقاط الحكم السلاطيني الرجعي العميل.
4 – استرجاع الأراضي والثروات اليمنية المسلوبة.
5 – تحقيق وحدة الشعب العربي في إقليم اليمن.
اعتبر الاحتلال الثورة مجرد تمرّد قبلي سرعان ما يتم قمعه، لكنه واجه مقاومة شعبية ضارية بقيادة الجبهة، واتسعت المواجهات في نهاية العام 1965 إلى 12 جبهة.
واجه الاحتلال هذا التصعيد بإخفاء الحقائق والتعتيم الإعلامي حول ما يجري في الأرياف من قتال، والخسائر في الأرواح، وأساليب التنكيل بالمواطنين، وإحراق مزارعهم، وتدمير قراهم.
وأمام تزايد جرائم الاحتلال اتجهت الجبهة القومية لفتح جبهة عدن، ونقل المواجهات إليها كي يصل صداها الإعلامي إلى العالم، وكسر التعتيم المفروض على ما يجري في الأرياف من حراك ثوري وقمع بريطاني.
الاحتلال بدوره دفع بالقوى المحلية العميلة لتشكيل تحالف يعمل على احتواء الثورة من الداخل، وإعاقة تطور الفعل الثوري، ولهذه المهمة القذرة تشكلت في مايو 1965 منظمة تحرير الجنوب المحتل، وضمّت تحت مظلتها: بعض السلاطين والشخصيات الإقطاعية والثرية وحزب الشعب الاشتراكي ورابطة أبناء الجنوب العربي.
وفي 13 يناير 1966 نجح هذا التحالف الشيطاني في فرض الاندماج القسري مع الجبهة القومية، تحت مسمى جبهة التحرير، وأصبح عملاء الاحتلال أمثال الأصنج والمكاوي والسلاطين أمثال جعبل والفضلي من قادة الثورة، لكن مخططهم فشل بسبب وجود قاعدة عريضة من جيش التحرير والفدائيين والمنظمات الجماهيرية.
ورغم إيقاف الدعم العسكري عن الجبهة القومية من قبل القيادة العربية في تعز والحصار الإعلامي، فقد واصلت قطاعات الفدائيين وجيش التحرير نشاطها الثوري التحرري تحت مسمى “الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل”، مُعلنة بذلك العمل المستقل عن جبهة التحرير المهجنة.
وفي المؤتمر الثالث للجبهة القومية في حمر قعطبة “29 نوفمبر – 2 ديسمبر 1966″، أعلنت الاستقلال النهائي والرسمي عن جبهة التحرير، وبذلك استطاعت الارتقاء بالعمل الفدائي إلى المجابهة اليومية والمباشِرة مع قوات الاحتلال اعتباراً من مطلع العام 1967، وصولاً إلى انتزاع الاستقلال وجلاء آخر جندي بريطاني غازي في 30 نوفمبر 1967.
المراجع:
1 – الدكتور أحمد فخري، اليمن ماضيها وحاضرها، معهد الدراسات العربية العالية، جامعة الدول العربية، مطبعة الرسالة – مصر، طبعة 1957.
2 – خليل كوثراني، عودة الإنكليز: العين على القواعد والجزر، الأخبار اللبنانية، 14 أكتوبر 2017.
3 – رفيق الشرماني، عدن .. تاريخ من الإقصاء والوصاية، الجزيرة نت، 10 مايو 2017.
4 – زيد المحبشي، 30 نوفمبر عيد الجلاء للاستعمار البريطاني من عدن، مركز البحوث والمعلومات، 28 نوفمبر 2019.
وكذا: ثورة 14 أكتوبر المجيدة والمستعمرون الجدد، مركز البحوث والمعلومات، 12 أكتوبر 2022.
الصندوق الأسود للاحتلال البريطاني في اليمن، مركز البحوث والمعلومات، 30 نوفمبر 2022.
5 – سلطان ناجي، التاريخ العسكري لليمن، دار العودة – بيروت، الطبعة الثانية، 1988.
6 – عامر الدميني، كيف تشكلت جبهة التحرير بصنعاء وكيف استشهد لبوزة بردفان؟، الموقع بوست، 13 أكتوبر 2018.
7 – محمد سعيد عبدالله “محسن”، عدن كفاح شعب وهزيمة إمبراطورية، دار بن خلدون – بيروت، الطبعة الثانية 1989.
8 – اليمن عشية الثورة، تقرير البعثة الطبية الألمانية عام 1958، ترجمة الدكتور أحمد قايد الصايدي، طبع مكتبة خالد بن الوليد، الطبعة الأولى 2018.
وكالة سبأ / زيد المحبشي