أهداف خفية لإصرار محمد بن سلمان على التوسط في أزمة السودان
يمانيون – متابعات
أقحم ولي العهد محمد بن سلمان نفسه بدور التوسط في أزمة السودان منذ بدء الاقتتال الداخلي بين بين المجلس العسكري برئاسة عبدالفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”، منتصف أبريل/نيسان الماضي.
وترى أوساط سياسية أن محمد بن سلمان يريد تحقيق أهدافا خفية من وراء التوسط في أزمة السودان أبرزها غسيل السمعة ومنافسة الدور الإقليمي لدولة الإمارات فضلا عن المصالح الاقتصادية المرتبطة بمشروع نيوم.
غير أن “جلبة وجعجعة دون طحين”.. مثل يختصر تحركات ووساطات محمد بن سلمان وإعلامه في التعامل مع أزمة السودان حتى الآن.
فمع بداية تفاقم حدة الصراع في السودان، أعربت الخارجية السعودية عن قلقها البالغ جراء حالة التصعيد والاشتباكات العسكرية بين الطرفين، داعية المكون العسكري وجميع القيادات السياسية في السودان، إلى تغليب لغة الحوار وضبط النفس والحكمة، وتوحيد الصف بما يسهم في استكمال ما تم إحرازه من توافق -بحسب وكالة الأنباء السعودية-.
ومطلع مايو/أيار 2023، تصدرت مبادرة أميركية سعودية سباق مبادرات أخرى لمحاولة إنهاء الحرب في السودان، وحظيت بتجاوب أكثر قوة عن محاولات توسط أخرى، إذ أجرى زير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، اتصالات مباشرة مع البرهان وحميدتي، أعقبتها اتصالات مماثلة معهما من وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان.
وفي 6 مايو/أيار 2023، وفي ظل استمرار المعارك في العاصمة الخرطوم، أعلنت الحكومة السعودية بدء محادثات بين الفصائل العسكرية السودانية المتصارعة، وكانت بمثابة الاجتماعات الأولى من نوعها التي استضافتها جدة منذ اندلاع القتال بين الطرفين، على أمل التوصل إلى وقف فعال لإطلاق النار، واتفاق يسمح بدخول المساعدات الإنسانية.
ودفع ذلك الصراع المتصاعد بين الجيش وقوات الدعم السريع الدول إلى المسارعة بإجلاء الدبلوماسيين والرعايا جوا وبرا، وكان من بينهم المملكة التي بدأت ذلك مع بداية الصراع وأعلنت انتهائها من كافة عمليات الإجلاء في 12 مايو/أيار 2023.
وبحسب الخارجية السعودية، فإن عمليات الإجلاء شملت 8455 شخصا (404 مواطنين، و8051 شخصا ينتمون إلى 110 جنسيات)، تم إجلاؤهم بواسطة مجموعة من سفن القوات البحرية الملكية السعودية وطائرات القوات الجوية الملكية السعودية”، كما ساعدت المملكة دولا أخرى في عمليات إجلاء (11184) شخصا من رعاياها إلى المملكة ومن ثم إلى أوطانهم.
ورافق عمليات الإجلاء موجة إشادة وتطبيل غير مسبوقة من الجهات الإعلامية المحسوبة على النظام السعودي إلى جانب إعلاميين وكتاب سخروا أقلامهم للثناء على دور المملكة في إجلاء الرعايا وأن ما فعلته نموذج للأمن والأمان الذي يعيشه المواطن السعودي داخل وخارج المملكة.
ومزج ذلك “التطبيل” للسلطة السعودية بالثناء على القادة بأسمائهم، وشكرت وسائل إعلام عالمية المملكة على موقفها الذي وصفته بـ”الإنساني” في السودان، فيما جاءت الردود حاسمة ومستنكرة لهذا النوع من التملق للسلطة، بالتأكيد أن ما فعله النظام السعودي مجرد أداء لواجبه وليس منة أو فضل منها، فيما حصره البعض في إطار “غسيل السمعة”.
ونُظر للتدخل السعودي في الأزمة السودانية، على أنه مسعى من ولي العهد محمد بن سلمان، لغسيل سمعة المملكة وتعزيز موقفها على الساحة الدبلوماسية الدولية، ومحاولة لمحو ما اكتسبه محمد بن سلمان في السنوات الأخيرة كـ”صانع للمشاكل” في المنطقة بعد تدخله في اليمن واغتيال أحد صحفيها، بحسب ما أكدته صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية.
وأشارت في تقرير نشرته في 6 مايو/أيار 2023، إلى أن سعي المملكة السعودية للتدخل بين طرفي النزاع في الأزمة السودانية يأتي بعد فترة انعزال بسبب اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، في أكتوبر/تشرين الأول 2018، وهو الأمر الذي حول بن سلمان إلى شخصية غير مرغوب فيها في العواصم الغربية.
وذّكرت الصحيفة البريطانية، بأن السعودية اتبعت طوال سنوات عدة نهجا يقوم على “استعراض العضلات”، برز في عهد بن سلمان حين كان وزيرا للدفاع، والذي أصبح وليا للعهد لاحقا، مذكرة بتجسد ذلك في انخراطها بحرب اليمن وحصار قطر، واغتيال خاشقجي، والذي كان سببا في تدهور سمعة المملكة عالميا وانعزالها.
وبالعودة إلى مسار الأزمة السودانية، فقد مرت مفاوضات جدة بعدة مسارات من الفشل في إحراز أي تقدم، حتى أعلن فجر 12 مايو/أيار 2023، أن المحادثات أسفرت عن إعلان أول اتفاق بين الطرفين، في إطار ما عرف بـ”إعلان جدة”، وشمل التزامات إنسانية، ولاقى الاتفاق ترحيبا دوليا وأمميا وإفريقيا واسعا رغم الفشل في التواصل لوقف دائم لإطلاق النار.
وكان على رأس الالتزامات المعلنة التمييز في جميع الأوقات بين المدنيين والمقاتلين وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، والامتناع عن أي هجوم من شأنه أن يتسبب في أضرار مدنية، واتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب وتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين وعدم استخدامهم دروعا بشرية.
كما شملت الالتزامات، ضمان عدم استخدام نقاط التفتيش في انتهاك مبدأ حرية تنقل المدنيين والجهات الإنسانية، والسماح لجميع المدنيين بمغادرة مناطق الأعمال العدائية وأي مناطق محاصرة طوعًا وبأمان، والالتزام بحماية الاحتياجات والضروريات التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، وحظر النهب والسلب والإتلاف.
ورأى مراقبون أن ما يُفهّم من بنود إعلان جدة الذي ترعاه قوتان أحدهما إقليمي والآخر دولي أنّ الطرفين لم يلتزِما بوقف إطلاق النار وإنّما على تنظيم العمليات القتالية والعدائية، بما يُقلِل الخسائر المدنية والإنسانية، بمعنى أن الاقتتال مُستمِر، ولكن ضمن ضوابِط لا تُحمِل أي طرف مسؤولية دولية.
وسرعان ما بدأت ملامح فشل إعلان جدة تتوالى بعد أيام من الحفاوة به، وتضمين محمد بن سلمان له في البيان الختامي للقمة العربية التي عقدت بجدة في 19 مايو/أيار 2023، بالتأكيد على اعتبار اجتماعات الفرقاء السودانيين بجدة، خطوة يمكن البناء عليها لإنهاء الأزمة، ورفض أي تدخل خارجي في الشأن السوداني، لتفادي تأجيج الصراع، والتأكيد على ضرورة التهدئة.
وكل ذلك تم اختراقه بعد أقل من أسبوع من توقيع إعلان جدة، وانتهك طرفي النزاع ما وقعا عليه في إعلان جدة، واستأنفوا القتال، وتعرض أطباء ونشطاء يحاولون توثيق الحرب الدائرة في البلاد للاستهداف، وذلك بالمخالفة لما جاء في إعلان جدة حول ضرورة حماية المدنيين والمنشآت الصحية -بحسب ما نشرته صحيفة واشنطن بوست.
واتهم طرفا النزاع كل منهما الآخر بالاعتداء على المدنيين، إذ قالت قوات الدعم السريع إن الجيش يقصف المناطق المدنية بالطائرات، في حين يؤكد الجيش أنه يستهدف “القوات المتمردة” فقط واتهمها بالتمركز داخل المنشآت الصحية والخدمية ومناطق المدنيين، فيما واجه الطرفين اتهامات بارتكاب جرائم ضد المرافق الصحية والبعثات الدبلوماسية.
وبرزت الانتهاكات الواسعة، ورصدت حالات اغتصاب في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع بينهم أجنبيات وقاصرات وأطفال، وخرجت 70 في المئة من المستشفيات والمراكز الصحية في البلاد عن الخدمة بسبب المعارك، حيث تعرضت مبانيها للقصف والإخلاء القسري فضلا عن استخدامها كمناطق عسكرية.
وبدورها، أعلنت نقابة أطباء السودان (غير الحكومية)، في 25 مايو/أيار 2023، ارتفاع عدد القتلى بين المدنيين إلى 865، فيما بلغ عدد الإصابات إلى 3634، جراء الاشتباكات الجارية، مؤكدة أن عدد كبير من الإصابات والوفيات غير مشمولة في الحصر، لعدم تمكنها من الوصول إلى جميع المستشفيات جراء صعوبة التنقل في ظل الوضع الأمني الراهن.
وأكد الهلال الأحمر السوداني في 2 يونيو/حزيران 2023، أن القتال المستمر في السودان أرغم المتطوعين على دفن 180 قتيلا انتُشلت جثثهم من مناطق القتال، من دون التعرف على هوياتهم، موضحا أن المتطوعين دفنوا 102 جثة مجهولة الهوية في مقبرة الشقيلاب بالعاصمة و78 جثة أخرى في مقابر بدارفور.
ورأى المساعد أول بمركز أفريقيا للدراسات التابع للمجلس الأطلسي كاميرون هدسون، أن التقارير الواردة عن قصف القوات المسلحة السودانية لمناطق المدنيين واغتصاب قوات الدعم السريع للنساء بعد أقل من أسبوع على توقيع الجانبين إعلان جدة، تعني أن الوقت حان لإعلان أن “الاتفاقية” باطلة ولاغية.
ونتيجة لتلك الانتهاكات الجسيمة والمتكررة، أعلنت الرياض وواشنطن، مطلع يونيو/حزيران الجاري، تعليق محادثات جدة بين أطراف الصراع، وقالوا إن الانتهاكات أعاقت إيصال المساعدات الإنسانية واستعادة الخدمات الأساسية التي هي هدف وقف إطلاق النار قصير الأمد، مؤكدين الاستعداد لإعادة عقد المحادثات بمجرد أن يتخذ الطرفان الخطوات اللازمة.
وجدد رعاة إعلان جدة في بيان مشترك أصدراه في 4 يونيو/حزيران 2023، تمسكهما والتزامهما تجاه شعب السودان، داعيان طرفي النزاع إلى اتفاق جديد لوقف إطلاق النار، مشيرين إلى أن وفدي الطرفين لا يزالا موجودين في جدة رغم تعليق المحادثات.
وتجدر الإشارة إلى أن كل الهدن والتعهدات بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ اندلاع الصراع الدامي بالسودان، شهدت انتهاكات لم تصمد إلا سويعات، وبلع عددها 12 هدنة خرقت جميعها.
ورأى الكاتب والمحلل السياسي ياسين التميمي، أن السعودية تحاول بإصرارها على الانخراط في الأزمة السودانية، أن تجد لنفسها موقع متميز عن المحور الإماراتي في المنطقة، خاصة أن السودان ذو أهمية بالغة بالنسبة لها، مع الأخذ بالاعتبار أن حرب اليمن التي دامت 10 سنوات، كان أهم معالمها أن أصحاب المحور الواحد “الرياض وأبو ظبي” يتقاتلان.
ولفت التميمي، إلى أن السودان ومنطقة شرق أفريقيا بشكل عام في حال أصبحت ضمن المظلة الإماراتية أو خاضعة لمصالح الإمارات، فهذا ربما يؤثر على السعودية تأثير بالغ خاصة عند باب المندب والمنطقة الجنوب غربية من المملكة، مؤكدا أن المسألة هي مسألة الوجود السعودي ودور الرياض في المنطقة أكثر من كونه متعلق بالساحة السودانية.
وأوضح أن الإمارات وحلفائها في المشهد السوداني وعلى رأسهم قوات فاغنز الروسية واللواء الليبي خليفة حفتر، ومن خلفهم إسرائيل يمثلون نوعا من التحالف الاستراتيجي الخطير بالنسبة للسعودية، التي ترى أن لهذا تأثيرات كارثية على المنطقة برمتها.
وتوقع التميمي، ألا تسفر الوساطة السعودية في نهاية المطاف عن نتائج إيجابية، وأن يكون مؤداها إطالة أمد المعركة خاصة وأن بعض الأسلحة النوعية تصل إلى قوات الدعم السريع من خلال ليبيا وغيرها، قائلا إن السعودية تدخلت في الأزمة السودانية منعا لهذا.
وعما إذا كان جمع الجيش والدعم السريع على طاولة مفاوضات واحدة يعطي الأخيرة قوة وشرعية، قال إن الدعم السريع مدعوم من قبل قوى إقليمية ودولية لا بأس بها، وليست السعودية هي من تضفي عليها شرعية القوة أو الوجود، لكنها تفكر في أنها ينبغي عليها التدخل من البداية لأجل تحديد صلاحيات وهيمنة وسيطرة الدعم السريع على المشهد.
في السياق أكد تحليل لجيمس دورسي، كبير الباحثين في كلية إس راجاراتنام للدراسات الدولية التابعة لجامعة “نانيانغ” التكنولوجية بسنغافورة، أن دول الخليج تخشى أن يستمر القتال بين الجيش والدعم السريع؛ مما قد يشعل حربا أوسع في البحر الأحمر تهدد مصالحها الاستراتيجية.
ونقل موقع ميدل إيست أي البريطاني عن خبراء، قولهم إن توقيت الصراع في السودان سيئ بالنسبة للسعودية بشكل خاص، لأن خطط بن سلمان لتنويع اقتصاده المعتمد على الوقود الأحفوري تتعلق بساحل البحر الأحمر بشكل كبير، لافتة إلى أنه من المقرر أن يكون ساحل السعودية الشمالي موطنًا مستقبليًا لمدينة نيوم المستقبلية بقيمة 500 مليار دولار.
وأشار إلى أن الرياض كانت قد أعلنت قبل أيام قليلة من اندلاع القتال في السودان، عن خطط لإقامة منطقتين اقتصاديتين خاصتين على البحر الأحمر، مؤكدة أن السعودية تريد الاستقرار في السودان، لأن عدم استقراره يهدد مشاريعها على البحر الأحمر، وهذا يقلق المملكة الآن.