كما عاد الأسرى .. سيعود المسرى
د. أسماء عبدالوهاب الشهاري
لم تكن ليلة قدر لكنه كان يوم قدر وفخر وعز ونصر. أعني ذلك الصباح من آخر جمعة في شهر رمضان المبارك للعام ١٤٤٤هجرية. فقد كانت الأجواء فيه خرافية، حيث أذن الله في صباحه الباكر أن تهطل أمطار مباركة لتلطف الجو وتريح النفوس وتهيء ليومٍ عظيم خرج فيه ملايين من أبناء الشعب اليمني ليجددوا الولاء والوفاء للقضية، تلك البوصلة التي لم تفتأ أرواح اليمنيين وقلوبهم أن تفارقها للحظة رغم الرياح العاتية والظروف العصيّة.
كعادتهم يتصدرون المشهد في كل مرة بصرخات مدوية وقبضات عالية حيدرية.
لكنهم في ذلك النهار بالذات كانوا على موعد مع مشهد آخر من مشاهد النصر، ورغم مشاعر الكبرياء الجامحة والعزة الشامخة والاحتفاء والاستقبال الرسمي والشعبي المهيب. بيد أن العاطفة كانت حاضرةً بقوة وتصدرت هي الأخرى المشهد حتى كادت أن تطغى عليه أو أنها كذلك.!
ما يصعب وصفه وما تعجز معاجم الكون عن ترجمته؛ عندما تشعر أن روحك قد فارقت جسدك وتجزأت إلى أرواح لدرجة أنك أصبحت عاجزاً عن لملمتها ورد شملها إليك، فقد كان كل جزء يطير منها في اتجاه، ويحلق بأجنحة الشوق في مكانٍ آخر.، فها هي هناك تطير مع فرحة ذلك الأسير وسجود الآخر ليلثم ثرى وطن هو أشدُّ شوقاً منه إليه.!
روحي أو أجزائها التي حلقت مع دموع الأم الحرّى التي لم تفتأ تفارقها منذ لحظات الفراق وهتافها وهي تشق الجموع لتسكن روعتها أخيراً في صدرٍ كان لقائها به أشبه بالحلم.!
أم مع عناق الإبنة ونظراتها الوالهة التي تسبح بحمد الله في وجهٍ أشرقت فيه الحرية والكرامة وهامة تفجرت من بين جنباتها معاني الرجولة وعنفوان المجد والكرامة.
بل عساني أراها هناك تسارع مع خفقان قلب الأخ ورعشة يد الأب وهرولة الابن ولهفة الصديق.!
نعم إن روحي كانت حاضرةً مع كل مشهد ومع كل أسير وأهل كل أسير؛ حتى لم أكد أدرِ أهي روح أم أرواح وما الذي كان يصير!
لست وحدي بل كل إنسان حُرّ كان يشعر أن قلبه من فرط الفرحة يكاد أن يغادر صدره ويطير!
إنها اللحظات التي تشعر فيها أنك تعرف كل أسير وأهله. وهو من كان قد ضحى لأجل اليمن وأهله. وتريد أن تهنئ كل بطل عاد ملحفاً بالنصر ومُئزراً بالكبرياء والفخر.
لقد عاد البطل شامخاً بهامته للعلياء. عاد منتصراً لقضيته ودينه وشعبه وأمته. عاد لا بائعاً ولا ناكث رغم ويلات ما لاقاه. بل عاد مجدداً العهد بالمضي على ذات الدرب وأن يرد الصاع للأعداء المرات تلو المرات بعد ما ذاقوا من بأسه وعرفوا من حقيقة صولاته وجولاته.
ولا يزال ذلك الصوت يتردد في روحي ومسامعي:
“ما دامت النفوس حرة فإن المقدسات ستتحرر والأرض ستعود”
هكذا قالها سيدي ومولاي ذات يوم. قال إنه لا قلق. كل ما يهم أن تكون النفوس حرة أبيّة ترفض الضيم وتعيش الإباء وتتنفسه مع كل ذرة هواء،
وطالما كانت كذلك، حتى وإن حصل ما قد يخاله البعض نصراً للأعداء. فهي في نهاية المطاف لا تتجاوز كونها حالة مؤقتة وعابرة ولا بد أن تنتهي ذات يوم.
نعم. طالما القضية حية وحاضرة نصب أعين الأحرار وقلوبهم وأرواحهم في الليل والنهار. والسعي مستمر ودؤوب. وقد اتحدت الأقلام كما اتحدت القلوب. والمؤمنون يزداد ولائهم لبعضهم وقضيتهم كل يوم، وقوتهم في تعاظمٍ وتزايد على كل المستويات وفي كل الاتجاهات، فإن النصر هو الأمر المحتوم.
وكما تحرر الأسرى في أي أرضٍ أبيٍّ مقاوم. فإن الأرض كلها ستتحرر والمقدسات كلها ستعود. وهذا وعدٌ غيرُ مكذوب. وكما تحرر الأسرى فستتحرر أرض المسرى وبيت المسرى.
أليس القدس بقريب!