“يحتاج الحق لرجُلَيْن”
بقلم العلامة: محمد يحيى الجنيد
مع أني لست ممن يجيد الحديث عن العظماء الذين يتجاوزون كل توصيف ،ويفوقون كل مدح وثناء يأتي من قبل أمثالي،،إلا أنني أجده شرفاً كبيرًا أن أتيحت لي الفرصة للمشاركة في إحياء الذكرى السادسة عشر لرحيل السيد المولى الحجة: مجدالدين بن محمد المؤيدي (طيب الله ثراه) ،وفي الحديث عن هذا الإمام العظيم،المجدد لدين رب العالمين ، والمحيي لما اندرس من معالم شريعة سيد المرسلين وعن أسلوبه المحمدي الرسالي في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله
أقول :
في الحقبة الزمنية التي كان فيها لجيشات الأباطيل وصولات المبطلين كلمتها المدوية ،وصوتها المسموع، وحضورها العريض في المنابر والمدارس والجامعات، والصحف والمجلات والإذاعات والقنوات،بفعل تبني أغلب الأنظمة العربية والإسلامية، بما فيها بلادنا آنذاك للفكر الوهابي الدخيل، واعتمادها لثقافته المشوهة على أنها الثقافة الإسلامية، التي ينبغي أن تسود مجتمعاتنا العربية، وشعوبنا الإسلامية، باعتبار أنها من وجهة أنظار هذه الأنظمة، الثقافة التي تتسم بالاعتدال والوسطية، والتمثيل السوي للشريعة المحمدية،،، وهي في الحقيقة من ذلك كله بعيدة كل البعد، وليس فيها سوى ما يحقق لحكام الجور والفساد أطماعهم ،ويضمن لهم بقاءهم على عروشهم، ويفرض على المسلمين طاعتهم والإذعان لهم والنزول عند أمرهم مهما بلغ جورهم وفسادهم وطغيانهم، إلى جانب ما في هذه الثقافة الهابطة من خلل كبير في بنية المنظومة العقائدية، المخالفة كل المخالفة لصريح القرآن وما تقره إجالة الفكر والوجدان، فيما يتعلق بالمعرفة الحقة للواحد الديان.
وفي هذه الحقبة، وهذه الأجواء المتلاطمة بالفتن المظلمة، والتي كثيرًا ما يفقد عندها العاقل صوابه، وهو يرى الحق غريباً كسيرًا مهيض الجناح، والباطل متقبلاً مألوفاً عتياً يطير مع الرياح.
كان السيد المولى الحجة أبوالحسنين: مجدالدين بن محمدالمؤيدي طيب الله ثراه من أبرز علماء الأمة الإسلامية قاطبة، وفي طليعة علماء اليمن الأعلام -على وجه الخصوص- الذين انتضوا لسان البيان المصقول بالحجة والبرهان،لمقارعة هذا الفكر الهدام ، ودحض شبهاته، وكشف خزعبلاته و صون أبناء أمتنا وشعبنا من الوقوع فريسة لمعتقداته الفاسدة، وآرائه وأقواله المتبلدة، التى استقاها من المرويات الإسرائيلية التي تم دسها منذ زمن بعيد في بطون الكثير من المؤلفات الإسلامية التاريخية والحديثة وغيرها.
والمتأمل في مسيرة السيد المولى العلمية الحافلة بزاخر العطاء، ومؤلفاته العسجدية التي جمعت ألوان العلوم والفنون، وقدمت القول الفصل للكثير من المشكلات والمعضلات العقائدية، والفقهية، الأصولية والفروعية
-على طول مسيرة حياته العلمية والجهادية التي لا تقل كثيرا عن سنوات عمره التي عاشها في هذه الحياة- يجد أن أسلوب طرحه وشرحه،في نثره وشعره،كان بمفرده فيضاً من العطاء في التبصير والتذكير، والإرشاد والنصح والهداية، و سلطانا ينفذ به إلى القلوب بكل تمكن، ويجذب إليه العقول بكل اقتدار، ويتألف به الخواص والعوام على الدوام.
إنه الأسلوب القرآني المحمدي الذي لايجانب الحكمة والموعظة الحسنة، والإنصاف في كل مسألة وشاردة، وواردة، الأسلوب الذي تمكن عنده من أن يجمع القلوب حوله، وفي مقدمتها قلوب علماء الزيدية والشافعية وغيرهم من العلماء، والمتعلمين, الأسلوب الذي جعل من إصلاح العباد وهدايتهم إلى سبيل الرشاد أسمى غاياته، وأجل مقاصده، كما صرح بذلك السيد المولى نفسه وهو يحدثنا عن غاية ما يهمه في كل مؤلفاته وتحركاته فيقول (إنا وبحمد الله وفضله يهمنا كل الإهتمام إرشاد العباد ونشر معالم الدين في البلاد وبذل النصيحة لكل حاضر وباد، خالية عن الهوى، بعيدة عن الغش..)
لهذا فإننا لم نجد السيد المولى طيب الله ثراه يجنح للشدة والحدة في كل ما قدم لنا من نفائس العلوم والمعارف، وفصل لنا من دقيق المسائل واللطائف حتى في رده على الخصوم، من المجسمة الحشوية، والأشاعرة والباطنية، وغيرهم، بل لقد تجنب لعن من لعنهم الله ورسوله، من الطواغيت والظالمين، والقتلة المجرمين (كأصحاب الفئة الباغية )مثلاً وغيرهم، وهو يتحدث عن تاريخهم الأسود وتلطخ أياديهم بدماء أبناء النبيين، وخيار الصحابة الراشدين، مكتفياً بالقول عند ذكرهم، وتفصيل فدائح جرائمهم(كافأهم الله) وما ذلك إلا لشدة حرصه على هداية الناس، وتخليصهم من التقليد الأعمى، الذي أدى إلى انحراف الكثيرين عن جادة الصواب، ودفعهم عند قراءة التاريخ إلى التأمل بروية فيما دونته كتبه، وسجلته سطوره من حقائق ، والتسليم عندها للحق وإن شق ، بعيداً عن التعصب المقيت، الذي يحول بين الإنسان وبين إدراكه للحقيقة في كل قول وفعل وحادثة وواقعة.
من هذا السمو الرفيع لنفسية المولى -رحمه الله- وأسلوبه المتناغم مع دماثة أخلاقه، وزاخر علمه، وعلو همته، وسمو مقصده ندرك أنه كان بحق واحدا من أولئك الأئمة العظام والهداة الأعلام الذين عناهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بقوله(إن عند كل بدعة يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي يعلن الحق وينوره.. ويرد عنه كيد الكائدين، فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلواعلى الله) أو كما قال -صلى الله عليه وعلى آله.
ختاماً نقول إذا كانت عناية الله بعباده قد حفظت لنا في كل زمان وعصر وحقبة ألسنة صادحة تنفي عن دينه وشرعه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، من أمثال السيدالمولى مجدالدين ، وغيره من الأئمة السابقين ، من عترة سيد الأنبياء والمرسلين، الذين جعلهم الله قرناء الذكر المبين إلى يوم الدين، فما على كل مسلم يبحث لنفسه عن النجاة -في ظل الفتن المظلمة التي تعصف اليوم بالأمة جمعاء- سوى أن يجعل رضاء الله غايته، وأن يفتح قلبه للحق، وسيجده ماثلاً أمام عينيه ، متبلجاً كالشمس في كبد السماء، فالحق كما قال جبران خليل جبران يحتاج لرجلين رجل لينطق به، ورجل ليتقبله.