مرضى الفشل الكلوي بالحديدة والمحافظات المجاورة.. من الموت الوشيك إلى الحياة
يمانيون – متابعات
عن يمينه وشماله، اتخذ مُسِنٌّ من ابنيه عكازتين للعبور إلى وجهة طارئة هي -بعد الله- دليلُه للبقاء على قيد الحياة، ومثلُه كثيرون قدموا من مناطقَ نائيةٍ بعد رحلات طويلة قد تستغرق أكثر من يوم للسبب ذاته (البقاء على قيد الحياة)؛ فما الذي حدث هناك؟ وهل وجد المرضى حياةً يبقون على قيدها؟ سؤالان يصعب الإجَابَة عليهما دون المرور على تفاصيل القصة الإنسانية الكاملة التي يرويها هذا التقرير بطريقة معاكسة للقاعدة الصحفية: “ما يحدُثُ أخيراً يكتب أولاً”.
رحلةُ علاج على حافة الموت:
بعد وصول “الحاج حسن” من محافظته “ريمة -الجبلية” إلى الحديدة المدينة الساحلية، كان عليه أن ينتظر بقدميه المتورمتين أمام مركز غسيل الكلى يوماً آخر؛ للحصول على جلسته المنقذة، يقول الأطباءُ: “إن وضع حسن يستلزم جلستين إلى ٣ جلسات أسبوعياً”، لكنه بالكاد يجري جلسةً واحدة أَو اثنيتن، الأمر الذي يضاعف من حالته الصحية، حَيثُ بدأت أمراض أُخرى تغزو جسمَه المنهك وتبدو أعراضُها عليه.
يقول نجل حسن بأن أكثرَ ما ينهكُ أباه هو السفر الطويل من قريته -التي لا وجودَ فيها لمركز غسيل كلوي- وطابور الانتظار الطويل أمام مركز غسيل مدينة العمال في الحديدة، مضيفاً: “بعد ست ساعات من السفر أرجو أن تجرَى الجلسة صباح الغد؛ كي نتمكّن من العودة في المساء”.
وعند توجيه السؤال له: “لماذا لا تبقون هنا بدلاً عن رحلة العودة طالما والجلسة أسبوعية؟” نسأل نجل حسن، فيجيب بعد أن أخذته تنهيدةٌ طويلةٌ هزت جوانبه: “وضعنا المادي لا يسمح بدفعِ إيجار سكن في الحديدة”.
حسن المصاب بمرض الفشل الكلوي هو واحد من بين ١١٠٠ آخرين، معظمهم من محافظات مجاورة: (المحويت، حجّـة، ريمة، ووصاب ذمار)، وجميعهم مصابون بنفس المرض، ويتوزّعون على سبعة مراكز غسيل كلوي في الحديدة في زبيد والقناوص وباجل وبيت الفقيه وجبل راس، وأكبر تلك المركز في مدينة العمّال في مدينة الحديدة، حَيثُ يتواجد المريض حسن، والمركز قديم يفتقر إلى الصيانة ويعاني العديد من المشاكل على مستوى إمْكَاناته وتجهيزاته، إذ يعجز المركز عن استيعاب المرضى الذين تتضاعف أعدادهم أسبوعياً، فضلاً عن تحديات جمة يواجهها المركز يوميًّا تهدّد بإغلاقه، كنفاد محاليله الكيمياوية العلاجية؛ بينما الأكثرُ خطراً هو تعطُّلُ أجهزة الغسيل، وصعوبة تحديثها وصيانتها في ظل الحصار القائم منذ سنوات على البلد، وقد واجه المركَزُ عدة مرات مخاطِرَ كادت تؤدي إلى إغلاقه، وقد أطلق حينها عشراتِ نداءات الاستغاثة.
حلولٌ في دائرة المتاح:
يدرك القائمون على المركز أن محاولات صيانته -وإن جرت- لن تحل مشكلة المرضى الذين ترتفع أعدادهم وتتعدد معاناتهم الطويلة للبقاء على قيد الحياة.
بدأ القائمون على المركز بدراسة فكرة توسعته إلى جانب أعمال صيانته، وهنا اصطدمت الفكرة مرة أُخرى بضعف بنية المركز التحتية غير المؤهلة أصلاً لإضافة أقسام وملحقات طبية جديدة؛ فاستقر الرأي على أولوية إنشاء مركز جديد للغسيل الكلوي، بحيث يخفف العبء على بقية المراكز، ويتلافى جوانب القصور التأسيسية فيها، في سبيل أن يحصل (حسن) ومئاتٌ آخرون على جلسات الغسيل المطلوبة للبقاء على قيد الحياة.
شرعت الجهاتُ الرسمية بالحديدة بأعمال الإنشاء والتأسيس بتمويل صندوق مساعدة ودعم الحديدة، إذ استنفر الصندوق يومَها قدرتَه المادية؛ ليصبح المركز جاهزاً، وفي أغسطُس من العام الماضي 2022، افتتح فخامة رئيس المجلس السياسي الأعلى المشير مهدي المشاط (مركَزَ الشهيد الصماد) لغسيل الكلى (بشكل مجاني)، بحضور عدد من قيادات الدولة ومسؤولي السلطة المحلية في محافظة الحديدة، وبهذا الافتتاح برمزية اسم الرئيس الشهيد، وبحضور خلَفِه من بعده الرئيس المشاط، طوى أمراضُ غسيل الكلى صفحاتٍ لا تُنسى من ذاكرة المعاناة والموت.
مركَزُ الشهيد الصماد.. افتتاحٌ بالتزامن مع البناء:
ولأن المركز الذي يقدم الخدمة الطبية (مجاناً) جاء استجابة من السلطات للوضع الطارئ؛ فقد جرى افتتاحه قبل اكتمال أعمال التجهيز وتزويده ببقية الأجهزة والإمْكَانات اللازمة؛ لذا وبالتزامن مع افتتاحه جرى استكمال مرافقه وتزويده بالأجهزة والأسرة اللازمة.
يقول مدير مراكز الغسيل الكلوي في الحديدة، سليمان كمال: “افتتاح مركز الشهيد الصماد خفّف من معاناة مراكز الحديدة ومعاناة المرضى؛ فالمركَزُ القديمُ مزدحمٌ جِـدًّا، ولا يستطيع استيعاب العدد الكبير من المرضى، إذ جاء افتتاح مركز الصماد بشكل جزئي لتخفيف العبء على بقية المراكز”.
ويضيف سليمان: “تم افتتاح المرحلة الأولى بـ 12 جهاز غسيل كلى الأمر الذي خفّف من معاناة المرضى، ونتمنى من الله أن يتم افتتاحُ المراحل الباقية لتخفيف المعاناة”.
السلطةُ المحلية بالحديدة بمتابعة مباشرة من القيادة السياسة ممثلة بفخامة الرئيس مهدي المشاط، كانت تدرك تماماً حجم المعاناة التي يواجهها مرضى الفشل الكلوي، كما يؤكّـد سليمان بقوله: “سنعمل في المراحل القادمة على افتتاح مراكز وفروع في المناطق البعيدة لتوفير الجهد والوقت على المرضى الذين يقطعون مسافات طويلة للحظوة بجلسة أَو جلستي علاج”.
وعن سؤال سبب ارتفاع عدد مرضى الفشل الكلوي بالحديدة بالذات؟ يقول سليمان: مرضُ الفشل الكلوي هو مرض مصاحب: إما لمرض السكر أَو الضغط أَو الحصوات، وأمراض كثيرة تساهم البيئة والظروف المعيشية الصعبة فيها؛ فالمعلوم أن معظم المرضى في محافظة الحديدة هم من المحافظات المجاورة وليس من الحديدة، ولكن الوصول إلى الحديدة أسهل للمرضى من السفر إلى حجّـة أَو إلى المحويت وباقي المحافظات؛ ما يجعل مراكز الغسيل تتحمَّلُ عبئاً فوقَ طاقتها الاستيعابية المخصَّصة.
شهاداتُ المرضى:
يلخص أحدُ مرضى الغسيل الكلوي، الذي اعتاد المركز القديم معاناته السابقة بالقول: “الوضع كان متعبًا”، حَيثُ كان ينتظر يومين على الأقل لدوره في جلسة تبقيه على قيد الحياة أَو ما يعرف طبياً بـ (جلسة غسيل الكلى)، ومن معاناته تلك يضعنا هذا المريض أمام صورة واضحة للحال الذي بات عليه اليوم قائلاً: “الآن مع المركز الجديد الحمد لله، أوصل على موعدي المحدّد وعلى طول أدخل الجلسة العلاجية وكرسيي فاضي وهذا شيء ارتحنا معه كثير”، لكن هذا المريض لم ينسَ بعد ذكريات المركز القديم “أتذكر كيف كان الوضعُ في السابق معاناةً كبيرةً؛ كنت أحياناً أضطر أن أتخلى عن الجلسَة وأرجع البيت من شدة الزحمة، أما الآن والله الوضعُ لا يقارَنُ الحمدُ لله”.
ويقول مريض آخر وهو على كرسي العلاج: الحمدُ لله في المركز الجديد شعرنا حتى بتحسن كبير في حالتنا الصحية، يكفي أني أوصل لكرسي جاهز دون أية مشاكل”، مضيفاً: “المركز خفّف علينا المعاناة السابقة ما كنا ندخل إلا وقد ورّمت أجسامنا من الأوجاع، وحتى الخدمة هنا مجانية، وأشكر من كُـلّ قلبي المسؤولين الذين التفتوا لمعاناتنا وأتمنى يواصلوا مشاريع من هذا النوع اللي تخفف على المرضى اللي ما كانوا يعرفوا وين يرحوا الله يوفقهم ويجزيهم الخير”.
معلوماتٌ عن مركز الشهيد الصماد:
يعمل مركَزُ الشهيد الصماد الذي افتتحه الرئيس المشاط في أغسطُس 2022م، بكادر يمني متكامل، ويعمل لثلاث فترات، والمركز تم تأسيسه ليكون الأكبر في مجاله وتسعى السلطات لتحويله إلى مركز لتفتيت الحصى وزراعة الكلى مستقبلاً، ويعمل المركز حَـاليًّا بجزءٍ من طاقته، لكنه مزوّد بمختبرات متطورة ومحطة تحلية مياه وإنتاج الماء المقطَّر وأجهزة حديثة، ولعل السمة الأبرز في هذا المركز الإنساني أنه يقدّم خدماته مجاناً، ليكون سبباً في عودة الحياة لـ “حسن” ومئات المرضى الذين يعانون من أسوأ أزمة إنسانية على مستوى العالم نتيجة العدوان والحصار السعوديّ الأمريكي على اليمن منذ 8 أعوام.
المصدر : صجيفة المسيرة