قواعدُ عسكرية كبرى في “القرن الإفريقي”.. عيونٌ ترصُدُ اليمن
أمريكا تمتلكُ قاعدةً عسكريةً كبيرةً في جيبوتي مهمتُها مراقبةُ المجال الجوي والبحري لليمن ودول القرن الإفريقي
“إسرائيلُ” أنشأت منذ عام 2016 قاعدةً عسكريةً سريةً في إرتيريا مخصَّصةً لمراقبة أنشطة اليمن
الإمارات طوّرت أحد الموانئ في إرتيريا واستخدمته كقاعدة لنقل أسلحة ثقيلة وقوات مرتزِقة إلى اليمن
يمانيون – متابعات
قبلَ العدوان الأمريكي السعوديّ على بلادنا، الذي بدأ في 26 مارس 2015م، لم يكن للسعوديّة ودول الخليج أيُّ موطئ في دول القرن الإفريقي، لكن الأمر تغير تماماً بعد العدوان.
في عام 2016، كثّـف السعوديّة حضورَها في “القرن الإفريقي”، ولا سيَّما في الدول المطلة على مضيق باب المندب، وشهد هذا العام مشاوراتٍ وزياراتٍ بين القيادتين العسكريتين في كُـلٍّ من جيبوتي والسعوديّة، تمخضت عن وضع مشروع مسودة اتّفاق أمني وعسكري واستراتيجي، يتضمن استضافة جيبوتي قاعدة عسكرية سعوديّة، وقد جرى تحديد بعض المواقع على الساحل الجيبوتي لهذا الغرض، وأعلنت جيبوتي نهاية 2016، أنها “وافقت مبدئياً” على إقامة قاعدة عسكرية سعوديّة، إلا أنه لم يتم الإعلان رسميًّا عن توقيع الاتّفاق بين الجانبين حتى اليوم.
وخلال الأيّام الأولى من العدوان على اليمن، زار الرئيس الإرتيري “أسياسي أفورقي” المملكة العربية السعوديّة، وفتحت إريتريا مجالَها الجوي ومضيق “عصب” لأبو ظبي وبقية دول العدوان الذي تقوده السعوديّة على بلادنا، وتلقت العاصمة الإريترية “أسمرة” الوقودَ والدعم المالي لمساعدة هذا التحالف، واستطاعت الرياض إقناع إرتيريا وجيبوتي بقطع علاقتهما الدبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 2016، ومساندة المملكة في الحصار الذي فرضته على قطر.
وإذا كانت السعوديّةُ قد تمكّنت من التحَرّك الفعال في جيبوتي وإرتيريا، فَـإنَّ الإمارات كان لها حضورٌ أكبر، حَيثُ تجاوزت الدولتان إلى الصومال؛ فعملت أبو ظبي على تسليح ميناء “عصب” وحولته إلى قاعدة للإمارات، وحشدت المقاتلين المرتزِقة من أوغندا وتشاد والسودان؛ لقتال أبطال الجيش واللجان الشعبيّة في بلادنا.
أهميّة جيوسياسية:
وتتمتع دول القرن “الإفريقي” بمميزات كثيرة؛ فهي تشرف مع بلادنا على “مضيق باب المندب”، وهي دول تزخر بالثروات الكبيرة في باطنها كـ: الذهب والنفط، والمعادن التي تُستخدَم في الصناعات الثقيلة والنووية، كما تمتاز بموقع استراتيجي هام؛ وهو ما جعلها محط أطماع القوى الإقليمية والدولية، تماماً مثلما هو الحال باليمن؛ ولهذا نلحظ خلال السنوات الأخيرة التنافس الدولي الكبير على هذه الدول من قبل أمريكا والصين وفرنسا وبريطانيا وروسيا، وإسرائيل، وإيران، وتركيا، والسعوديّة، والإمارات، والتي تتنافس فيما بينها للاستفادة من مواردها الاقتصادية وموقعها الاستراتيجي الهام.
وحتى الآن لم يتفق الباحثون والدارسون على إيجاد تعريف جامع مانع للقرن الإفريقي، أَو تحديد الدول التي يشملها هذا التعريف؛ فالبعض يرى أنها تشمل دول (الصومال، إريتريا، جيبوتي، أثيوبيا، وأجزاء من كينيا)، لكن الولايات المتحدة وفي استراتيجيتها تضع له مفهوماً أوسع يتعدى ذلك، ليشمل إضافة إلى الدول السابقة اليمن والسودان، حَيثُ أطلقت عليه تسمية “القرن الإفريقي الكبير”، على غرار مفهوم “الشرق الأوسط الكبير”!
ويعتبر القرن الإفريقي أقرب السواحل المجاور لليمن، ويربط شعوبه باليمن روابط التاريخ والثقافة وصلة القربى والجوار، كما يعتبر مضيق باب المندب أقصر طريق مائي يصل اليمن بالقرن الإفريقي، لكن وعلى الرغم من أهميته الجيوسياسية إلا أنه يُطلَقُ عليه مسمى “قرن الفقراء” وَ”قرن الجفاف” وَ”قرن المجاعة”، لما حَـلّ به من نكبات وحروب واقتتالات، عرضته لحالة متدنية من الفقر، وأصابته بالقحط والمجاعات؛ بسَببِ عواملَ داخلية وأُخرى خارجية كانت السببَ في إفقار هذه البلدان وتجويعها وتقسيمها.
يشرف “القرن الإفريقي” على مضيق باب المندب، وهو باب الدخول إلى البحر الأحمر، وفي الوقت ذاته باب الخروج إلى خليج عدن، ثم المحيط الهندي أحد البحار المفتوحة الذي أصبح في الآونة الأخيرة أحد أهم مراكز الصراع، كما تطل منطقة “القرن الإفريقي” على عدة جزر يمنية لها أهميّة استراتيجية، مثل جزيرة “حنيش”؛ حَيثُ يقول بعض الباحثين: إن من يسيطر على القرن الإفريقي يسيطر على البحر الأحمر، ويؤثر على المحيط الهندي.
قواعدُ عسكرية أجنبية:
وعلى الرغم من أن دولة جيبوتي ثالث أصغر دولة إفريقية بمساحة لا تتجاوز 23 ألف كيلومتر مربع، إلا أنها تحتوي على موقع استراتيجي متميز مطل على البحر الأحمر، وهي تُشكّل مرصدًا مثاليًّا للمراقبة والوصول إلى الشرق الأوسط وشرق إفريقيا وآسيا الوسطى؛ مما جعلها تحتوى على أكبر عدد من القواعد العسكرية في العالم بواقع 19 قاعدة عسكرية لعدد من دول العالم، من بينها قاعدة للصين، وهي القاعدة الوحيدة لها في العالم، وبنيت بالجوار من القاعدة الأمريكية في جيبوتي.
وإلى جانب القواعد الأمريكية والصينية، توجد في جيبوتي قواعدُ لألمانيا، واليابان، وإيطاليا، وإسبانيا، إضافة إلى 3 قواعد عسكرية فرنسية، بينها قاعدة بحرية، ومطاران، أحدهما في منطقة ساحلية، وقواعد أُخرى تحت الإنشاء.
أما في الصومال وبحسب معهد “ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام”؛ فيوجد فيه 5 قواعدَ عسكرية أجنبية عاملة، تشمل قاعدة عسكرية للإمارات العربية المتحدة في مدينة بوساسو الصومالية، وقاعدة أُخرى في مدينة بربرة بإقليم «أرض الصومال»، يضاف إلى ذلك قاعدة تركية في مقديشو، وقاعدة «باليدوجل» الجوية الأمريكية في محافظة شبيلي السفي، والقاعدة البريطانية في منطقة بيدوا.
وتعد القاعدةُ العسكرية التركية التي تم افتتاحُها عام 2017 الأهمَّ في الصومال وأكبر قاعدة عسكرية تركية في العالم، وعلى الرغم من أن تركيا أعلنت أن الهدفَ من إنشاء القاعدة هو تدريبُ الصوماليين؛ ليشكلوا نواة للقوات الصومالية مستقبلًا، إلا أن هذه القاعدة كان وراءها العديد من الأهداف الأُخرى، أهمُّها السيطرةُ على “القرن الإفريقي” وممر البحر الأحمر التجاري، ومضيق باب المندب؛ كونه المعبَرَ البحريَّ الرئيسَ لتجارة النفط العالمية؛ وما يمثله من خطورة لأمن الخليج، كما أن الأتراك حرصوا أن تكونَ المباني في القاعدة نسخةً من قصر توبكابي وقصر الرئاسة التركي الجديد، وليس على أي طراز بناء إفريقي، كما أن المتدربين الصوماليين يتدربون في صفوف الكلية باللغة التركية ويتعلَّمون التاريخ والثقافة التركية؛ وهو ما يشير إلى الرغبة في التغلغل التركي، وإعادة العثمانية الجديدة لإفريقيا من خلال الصومال.
وأنشأت الولايات المتحدة الأمريكية القاعدة العسكرية “ليمونير” في جيبوتي، عام 2007، وهي مسؤولة عن العمليات والعلاقات العسكرية مع الدول الإفريقية، وبلغ تعداد قواتها ما يقارب من 4 آلاف جندي، وأصبحت مقراً لقواتِ “أفريكوم” في المنطقة، ومهمتها مراقبة المجال الجوي والبحري والبري للسودان وإريتريا والصومال وجيبوتي وكينيا واليمن.
إقليمياً: أقدمت إسرائيل على إنشاء قواعد عسكرية في بعض دول القرن الإفريقي كإريتريا مثلاً؛ كي يتيح لها كسرَ دائرة العزلة العربية، ورصد أي نشاط عسكري عربي ضدها، واستخدام التفوق الإسرائيلي لكسر أي حصار عربي مستقبلاً ضدها، وضد سفنها في البحر الأحمر ومدخله الجنوبي؛ وبالتالي ضمان الاتصال والأمن للخطوط البحرية العسكرية والتجارية من المحيط الهندي إلى البحر الأبيض المتوسط، والحيلولة دون أن يكون البحر الأحمر بحراً عربياً خالصاً.
ومنذ عام 2016، أنشأت “إسرائيل” سراً قاعدة استخبارات إلكترونية متقدمة في إريتريا لمراقبة مضيق باب المندب الاستراتيجي، الذى تنتقل عبره معظم شحنات النفط الخليجية في طريقها إلى العملاء في جميع أنحاء العالم، حَيثُ تقع القاعدة على أعلى جبل في البلاد، إمبا سويرا، خارج العاصمة أسمرة، وهي تراقب أنشطة “أنصار الله” في اليمن.
مخاطرُ محدقة على اليمن:
ومع اتساع دائرة التنافس الدولي في “القرن الإفريقي”؛ فَـإنَّ اليمن لن يكون بمنأًى عن هذه الأطماع، وستؤثر عليه سلباً لا محالة؛ فضعف الدول الإفريقية المطلة على مضيق باب المندب في البحر الأحمر، وارتفاع وتيرة الصراعات فيها، يدفع بالآلاف من الأفارقة لعبور اليمن كلاجئين، وهو ما يزيد الأعباء على بلادنا التي تعاني من عدوان وحصار خانق من قبل دول العدوان طيلة ثماني سنوات مضت.
وإلى جانب ذلك؛ فَـإنَّ المخاطرَ الأمنية والعسكرية على اليمن من قبل القواعد العسكرية في القرن الإفريقي كثيرة ومتعددة؛ فعلى سبيل المثال؛ فقد استثمر النظام الإماراتي ملايين الدولارات في تطوير ميناء وتوسيع مهبط للطائرات وإقامة بنى تحتية أُخرى في القاعدة التي أنشأها المستعمرون الإيطاليون في ثلاثينيات القرن الماضي في مدينة عصب الإريترية المطلة على البحر الأحمر، واستخدمت هذا الموقع منذ سبتمبر 2015 كقاعدة لنقل أسلحة ثقيلة وقوات إلى اليمن، حَيثُ نشرت الإمارات في هذه القاعدة آليات قتالية مختلفة، منها دبابات من طراز “لوكلير” ومدافع ذاتية الدفع من طراز “هاوتزر جى 6″، ومدرعات قتالية من طراز “بي أم بى-3″، كما تم رصد مروحيات هجومية وطائرات مسيَّرة وغيرها من أنواع الطيران الحربى في القاعدة، وكلّ هذا كان له علاقة بالعدوان على اليمن.
وبالتوازي مع تكثيف الحضور الإسرائيلي والخليجي والتركي في هذه المنطقة؛ فقد استخدمت دولُ العدوان إريتريا كقاعدة عسكرية انطلقت من خلالها الطائرات الحربية لقصف بلادنا، كما استخدمت جيبوتي لفرض حصار على المشتقات النفطية التي تصل إلى ميناء الحديدة، واحتلت الإمارات الموانئ والجزر اليمنية ولا سيَّما القريبة من مضيق باب المندب كجزيرة “ميون”، وجزيرة “سقطرى”.
وليس هذا هو العدوانَ الأولَ على بلادنا القادم من إرتيريا؛ فقد كانت أسمرةُ الذراعَ الأولَ للصهاينة، حَيثُ احتلت جزيرةَ حنيش، وزقر، عام 1997، وكادت بلادنا تدخُلُ في حربٍ مباشرة، قبل أن يتم حسمُ ذلك سلمياً عن طريق التحكيم الدولي.
ومنذ مطلع العام 2000م، بذلت اليمن جهوداً كبيرة في إقامة علاقات تعاون بناء مع دول القرن الإفريقي؛ بهَدفِ تعزيز الأمن والسلام في المنطقة؛ فكان التحالف الإقليمي بين (اليمن وإثيوبيا والسودان) والذي عُرف باسم (تجمع صنعاء) والذي ولدت مسودتُه في أُكتوبر عام 2002 في قمة جمعت زعماء الدول الثلاث في العاصمة اليمنية صنعاء.
ووفقاً للبيان الختامي الصادر يوم تأسيسه عن اجتماع وزراء خارجية الدول الثلاث المشار إليها؛ فـإنَّ الغايةَ من إنشائه تكمن في إقامة علاقة تعاون بناء بين دول جنوب البحر الأحمر، والقرن الإفريقي، وتعزيز الأمن والسلام في المنطقة، غير أن هذا التجمع لم يعد حياً، لأسباب كثيرة لعل أبرزها حدوث متغيرات في اليمن والبلدان الإفريقية، أعاقت الاستمرار في هذا التجمع.
وعطفاً على ما سبق، يمكن أن نفهم الأسباب التي أَدَّت إلى إضعاف اليمن ودول القرن الإفريقي، رغم امتلاكهما مقومات جيوسياسية (إشراف على ممرات مائية + ثروات هائلة)، إضافة إلى حضارة ضاربة في التاريخ، ومساحة وعدد سكاني كبير، وغير ذلك من المقومات، حَيثُ تخشى أمريكا والدول الغربية من حدوث تقارب بين اليمن ودول “القرن الإفريقي”؛ لأَنَّ ذلك سيؤدي إلى وجود قوة إقليمية في المنطقة، على حساب دول أُخرى كـ: السعوديّة وإسرائيل بالدرجة الأول؛ فالصهاينة ينظرون إلى البحر الأحمر؛ باعتباره جزءًا من أمنهم القومي؛ ولهذا فَـإنَّهم يعملون ليلَ نهارَ على تدويل هذا الممر، وإعاقة أي جهد أَو مساعٍ نحو عروبةِ “البحر الأحمر”!
صحيفة المسيرة – أحمد داوود