أمريكا ومساحاتُ التصدُّع عند العرب!
عبدالرحمن مراد
برز في الخطاب الفكري والثقافي الغربي قبل عقود موضوع صراع الحضارات ولم يكن هذا الموضوع حالة ذهنية وفكرية تَرَفِيَّة، بل كان حالة من حالات التجدد للجدلية التاريخية -صراع الطبقات والمصالح الاقتصادية- لكنه أخذ بعداً حضارياً جديدًا، ولذلك لا يمكن القفز على حقيقة الثنائية التاريخية الحضارية بين الروم / والفرس، وهي الصورة النمطية التاريخية التي بدأت حالتها تتجدد في المشروع الرأسمالي منذ منتصف السبعينيات في القرن العشرين وُصُـولاً إلى مطالع الألفية الجديدة، ففكرة الأصوليات التي قال بها برجنسكي في السبْعينيات من القرن العشرين ورأت فيها الإدارة الأمريكية قارب نجاة للرأسمالية من الهزيمة المحتملة أمام الشيوعية والاشتراكية لم تغفل الحضارة الفارسية بل كان من نتاجها ثورة إيران الإسلامية التي قادها الأمام الخميني نهاية السبعينيات من القرن العشرين، وكذلك استراتيجية مؤسّسة راند لعام 2007م التي كان من نتاجها ثورات الربيع العربي في عام 2011م.
ومن الملاحظ أنه بعد سنين عشر من انهيار الاشتراكية العالمية كفكرة وكنظام، وجد النظام الرأسمالي العالمي نفسه في أزمة وجود، فقد تفرد في إدارة العالم، وتفرد في صياغة أزمات العالم، ووجد نفسه عاجزاً عن ابتكار الحلول للأزمات والمشاكل، ولذلك كانت فكرة 11سبتمبر التي أبدع صناعتها وإخراجها هي محور الارتكاز التي من خلالها استعاد توازنه الدولي، إذ توالت الدراسات والابتكارات التي كانت في الغالب تركز على استغلال المساحات الفارغة عند العرب والمسلمين واستغلال ثرواتهم لمواجهة الصعوبات التي تواجه النظام العالمي الجديد ولذلك –ووفق الكثير من الرؤى التحليلية– كان أحد أهداف الدراسة التي أعدتها مؤسّسة “راند ” –وهي مؤسّسة رائدة في الدراسات الاستراتيجية في أمريكا– لمصلحة سلاح الجو الأمريكي، وكان عنوان الدراسة “العالم الإسلامي بعد الحادي عشر من سبتمبر” وتضمنت تركيزاً وتوجيهاً مكثّـفاً على واقع العرب والمسلمين وسبل التعرف على الانقسامات وخطوط الصدع الطائفية والعرقية على المستوى الإقليمي والوطني للدول الإسلامية، وطرحت الدراسة رؤى في التحَرّك في مساحات التصدع والانشقاق لخلق التحديات والفرص للنظام الرأسمالي الذي تتزعمه أمريكا في الحفاظ على نفسه من الانهيار، والثابت وفق الكثير من الشواهد أن البعد النظري قد تحول إلى واقع عملي، فقد بدأت الأجهزة الأمريكية المختلفة بالتواصل مع الجماعات التكفيرية عن طريق “الدوحة “؛ بهَدفِ توظيف الجماعات للقيام بعملية التفتيت والتفكيك تطبيقاً لخطة الشرق الأوسط الجديد التي وضعها “برنارد لويس” –وهو مفكر يهودي بريطاني احتوته المخابرات الأمريكية واستخلصته لنفسها وكان يرى أن ثمانية قرون من الحرب لم تخرج المسلمين من الأندلس ولكن عندما قاتلوا بعضهم البعض انتهت دولتهم ولا بُـدَّ من إعادة هذا السيناريو في منطقة الشرق الأوسط– ومثل ذلك التوجّـه تؤكّـده تصريحات بعض مسؤولي البيت الأبيض الأمريكي ومنهم هيلاري كلينتون التي تولت منصب وزيرة الخارجية، حَيثُ قالت في واحد من تصريحاتها: “إن أمريكا لن تدفع أموالاً في حرب المسلمين، فهم سيتولون ذاك بأنفسهم”.
وقد شهدت المنطقة العربية بزوغ حركات وجماعات تكفيرية إرهابية تنشط متى كانت هناك حاجة لنشاطها، وتخمل متى كان الواقع السياسي يتطلب ذلك، فهي قطعة من شطرنج تحَرّكها أيادٍ استخبارية عالمية، ومثل ذلك الأمر لم يعد بخافٍ على كُـلّ متابع حصيف لمسارات الأحداث في الواقع العربي.
لقد تولت الجماعات التكفيرية مهمة تفكيك وتمزيق الأُمَّــة الإسلامية وحولتها إلى طوائف وشيع وجماعات، وعمقت من الجروح، وأشاعت فيها البدائية والتوحش والتفكير الأُسطوري، ورأينا في حال العرب والمسلمين بدعاً وأمراً عجباً لا يقبله عقل كما هو الحال في العراق وفي غيره من البلدان.
يقول بريجنسكي في كتابه “بين عصرين”: “تواجه الرأسمالية هزيمة إيديولوجية وفكرية كبيرة ويرى أن الحل الوحيد لإنقاذ الرأسمالية هو إحياء الأصوليات الدينية ودفعها للصدام مع الشيوعية والاشتراكية وحركات التحرّر في العالم عندها -كما يرى– تهزم الشيوعية والاشتراكية بقوة الأصوليات الدينية وسوف توفر مناخاً ملائماً للرأسمالية الأمريكية وتوفر فرصاً استراتيجية كبرى لإعادة تنظيم العالم تحت قيادتها”.
ومنذ عقد الثمانينيات من القرن العشرين سارت السياسة الأمريكية في هذا الخط، حَيثُ تبنت دعم الأصوليات الدينية ليس حباً في الدين وإنما رغبةً في الانتصار على النظام الاشتراكي، ورغبةً في حماية المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى، وكان لتعاظم الأصوليات الدينية (الإسلامية، واليهودية، والمسيحية، والهندوسية) دور في التمهيد للسيطرة على العالم وبالتالي التفرد في إشغال واستنزاف وشرذمة حركات التحرّر في العالم وفي الوطن العربي على وجه الخصوص، وفرض مبدأ الاستسلام للصهيونية في فلسطين الذي لم يعد خافياً اليوم على أحد، فقد كان في الماضي يتستر تحت غطاءات مختلفة أما اليوم فقد أعلن عن نفسه على لسان قادة النفط في الخليج بكل تجلٍ ووضوح.
لقد تحقّق للرأسمالية في نهاية المطاف ما كانت تصبو إليه وهو التفرد في قيادة العالم والتحكم في الصراعات الدينية والطائفية والحضارية، والرأسمالية ومن ورائها الصهيونية تهدف من وراء كُـلّ ذلك –كما تقول الاستراتيجيات الصادرة عنهما وتدل عليه حركة الواقع في العالم اليوم– تفتيت الأمم وتفكيك عراها العقائدية والثقافية على أسس ما قبل الأُمَّــة والدولة حتى تتمكّن من السيطرة عليها والتحكم بمستوى المصالح في العالم، وقد رأينا ما قامت به “داعش” وما تقوم به بعض الأصوليات من غير المسلمين، فقد أصبح كُـلّ شيء واضحاً ومقروءاً في واقعنا ومن حولنا لكن قليل منا من يفقه ما يدور.