وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
يمانيون../
بقلم زيد يحيى المحبشي
تزامن انبلاج نور مولد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، المضيئ الكون بأسره بأنوار شأبيب الرحمة المزجاة، مع وجود قوتين من قوى الجبروت والطغيان العالمي، هما:
1 – ملك الحبشة “أبرهة الأشرم”:
واصل به الغرور والغطرسة، حد الاعتراض على تعاليم الله لخليله إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام في بناء الكعبة المُشرفة، ليؤمها عباد الرحمن من أنحاء المعمورة، وهو أمر جلل نغص عليها حياته، وحوّلها إلى جحيم لا يُطاق، فقرر بناء كنيسة “القليس” بصنعاء، على أمل صرف الناس عن مكة المكرمة، لكن لم تستجب لإرادة التحويل البشري أحد، لتعارضها مع إرادة الله.
لهذا قرر هدم الكعبة المُشرفة، وتحويل الناس إلى كنيسته، بقوة جبروته وطُغيانه، لكن قوت الله حالت دون ذلك، بهلاك الأشرم وقواته؛ على يد أضعف مخلوقات الله، هي الطير الأبابيل، فكانت المُعجزة الأولى لدلالات وإرهاصات انبعاث نور الرحمة المُهداة.
واللافت هنا اتخاذ “الأشرم” دليلاً يُرشده إلى مكة المكرمة، هو الخائن الأشر “أبو رغال”، المقتول فيما بعد شر قتلة، بعد أن صار رمزا لكل خائن وعميل ومرتزق يجلب الغزاة والمحتلين والخراب والدمار لبلاده.
وهاهم المسلمون يرجمون قبره في المغمس – موضع بطريق الطائف – إلى يومنا، إعلاماً بأنه لا مكان لخائن وطنه وأمته بينهم، وما أشبه حال مرتزقة تحالف العدوان العبري على اليمن بمعلمهم “أبو رغال”.
2 – كسرى الفرس “أنو شروان”:
تصدّع قصره، وانطفئت نيران معبوده، في يوم مولد الهدى، إيذاناً بإندراس ذِكره وأفول نجمه.
ومع بزوغ شمس الإسلام، تملك العرب أعظم قوتين في العالم، هما: “الفرس” و”الروم”، لا بحد السيف، بل بحُجة وبُرهان الرسالة المحمدية الخاتمة للرسالات السماوية، والمتسمة بالديمومة والعالمية، وهم يومئذ قلة مُستضعفة مُعذبة، بينما نحن اليوم أكثر من مليار ونصف المليار مسلم، لكننا كغثاء السيل.
مراحل بناء الدولة الإسلامية:
إننا أمام أعظم رجل عرفته البشرية في تاريخها العريض، كان مجيئه دنيانا الإثمية من أسرة فقيرة، عايش الفقر واليتم بعد موت أبيه وهو لا يزال في بطن أمه، وموت أمه وعمره لم يتجاوز الثمان سنوات، وموت جده شيبة الحمد “عبدالمطلب”، وموت مربيه شيخ الأبطح “أبو طالب”، وموت المُنفِّس عنه همومه “خديجة الكبرى”، في شعب “أبي طالب”، عام الحصار.
مما جعله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين قريباً من الفقراء، في زمنٍ طغت فيه العنصرية الفوقية، وبلغ فيه الظلم مداه، وسقطت فيه كل محامد ومكارم الأخلاق، وتحكمت في أبناء عصره الأطماع والنزوات والصراعات والعداوات والحروب، وصار لقانون الغاب الكأس المُعلّا.
وإذا بهذا اليتيم المُخلِّص والمُنقذ للعالم مما اعتراه من تخلف وجهل وظلم وتفسخ وانحطاط وغطرسة وجبروت وطغيان، يتمكن في فترة وجيزة لم تتعدَّ 23 عاماً و7 أشهر و3 أيام، من بناء أعظم دولة عرفها التاريخ البشري، عبر مرحلتين: هما:
1 – مرحلة الدعوة المكية:
استمرت 13 عاماً، اهتم فيها صلى الله عليه وآله وسلم ببناء طليعة المؤمنين، بناءً عقائدياً مُحكماً، مكّنهم من الصمود والثبات أمام جبروت وطغيان وتسلُّط كفار قريش.
2 – مرحلة إرساء دعائم الدولة:
بعد موت المناصر أبو طالب، قرر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الهجرة إلى “يثرب”/ المدينة المنورة، وفيها قام ببناء العلاقات البينية المُعاملاتية الكفيلة بإرساء قواعد دولة الإسلام، وخلال 9 سنوات وبضعت أشهر أقام صلى الله عليه وآله وسلم دعائم دولة الإسلام، على أساس تنظيم علاقة المسلم مع ربه، ومع نفسه، ومع أخيه المسلم، وبمن جاوره من يهود وكفار.
كللت هذه الرؤية المحمدية النورانية بفتح مكة المكرمة في العام الثامن للهجرة، وما تبعها من مُراسلات لقادة الأقاليم المجاورة، بعد أن عمّ الإسلام ربوع جزيرة العرب، داعياً إياهم للدخول في الإسلام، فاستجاب البعض وتحفظ آخرون وجاهر بعضهم بالعداوة والشنان.
الحقد اليهودي على نبي الإسلام وأمته:
بعد أن وضع صلى الله عليه وآله وسلم لأمته، ما يكفل لها حياة كريمة وعيشاً رغيداً وسعادة أبدية، كان انتقال وعروج روحه الطاهرة إلى خالقها في السنة الحادية عشرة للهجرة، ويحكي المؤرخين أن وفاته كانت بسبب تأثره بـ”سم قاتل” من إحدى اليهوديات كما في “سيرة الحلبي”.
وهذا ليس بالأمر الغريب على اليهود، فقد كانوا وما زالوا الأكثر تضررواً من دعوة الرسول الخاتم، والأكثر عداوة وبُغضاً وكراهية له ولأمته، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أضاء دروب ربيع الإنسانية، وبدد ظُلمات حيواتها البهيمية، وبشّر بما لم يكن في حُسبان أحد منهم روحياً ومادياً، ولأن رسالته صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن مجرد طقوس وشعائر جامدة، بل هي:
ثورة على مبادئ وعادات وأخلاق الجاهلية الجهلاء، ثورة على تاريخ طالما احتضن الفساد لا سواه، ثورة على حياة جاهلية شبيه بحياة البهائم السائمة على وجوهها، ثورة رسالية عالمية غير مسبوقة في تاريخ الإنسانية، غيّرت مجرى التاريخ البشري كله، لأنها أكبر من التاريخ، وأقوى منه على الصمود والديمومة والخلود، ثورة رسالية حملت بين ثناياها آمال الإنسانية وأحلامها وتطلعاتها، واحتضنت بين آياتها وسورها خيرات الأمم والشعوب وعزتها وكينونتها وكرامتها، ورفعت على الرؤوس لواء الحق والعدل والحرية والأمن والسلام والرحمة والتسامح والتعايش والإنصاف.
ولا نستغرب اليوم مما نراه من اليهود والأميركان ومواليهم من صهاينة العرب، من أفاعيل لا إنسانية، ضد أبناء الإسلام وأنصار الرسول الخاتم.
وكلها تؤكد حقيقة واحدة، هي اجترار عداوتهم التاريخية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين وللإسلام.
وفي هذا يقول العالم الفيزيائي الشهير صاحب نظرية “النسبية”، “ألبرت آينشتاين”:
“أعتقد أن مُحمداً استطاع بعقلية واعية مُدركة لما يقوم به اليهود، أن يُحقق هدفه في إبعادهم عن النَّيْل المباشر من الإسلام، الذي مازال حتى الآن هو القوة التي خُلِقت ليحل بها السلام”.
ولأنه كان ولا يزال القوة التي خُلقت ليحل بها السلام، فسهام اليهود لن تتوقف عن استهدافه، ما نجد حقيقته في مقولة منظر البيت الأسود، “صموئيل هينجنتون”:
“ليس صحيحاً أن الإسلام لا يُشكل خطراً على الغرب، وأن المتطرفين الإسلاميين فقط هم الخطر، إن تاريخ الإسلام خلال أربعة عشر قرناً يُؤكد بأنه خطرٌ على أي حضارة واجهها خاصة المسيحية”!!.
ومما شجع الأميركان والصهاينة على استهداف نبينا وديننا، الحالة التي وصل إليها المسلمين اليوم، وابتعادهم عن تعاليم الرسول الخاتم والقرآن الكريم، وكيف كانوا سادة العالم، فإذا بهم أكثر الأمم تخلُفاً وتناحُراً وتفُرقاً وتشرذُماً، وهذا ليس بالأمر الغريب، ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول من شخّص حالنا: “يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”، قيل: يا رسول الله فمن قلة نحن يومئذ ..؟
قال: “لا، ولكنكم غثاء، كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم، وينزع الرُعب من قلوب عدوكم؛ لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت”، وبحقٍ بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء.
والسبب فيما وصلنا إليه من يمثل الإسلام، وليس الإسلام، ألم يقل الله سبحانه وتعالى: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ”.
كم نحن اليوم بحاجة إلى قدوة نتبعها، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو القدوة والأسوة الحسنة، ليس للمسلمين فحسب، بل لكل إنسان يريد أن يحيا حياة كريمة، يقول المستشرق الإسباني “جان ليك”:
“لا يمكن أن تُوصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله، بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107]، وقد برهن بنفسه على أن لديه أعظم الرحمات لكل ضعيف، ولكل محتاج إلى المساعدة، كان محمد رحمة حقيقة لليتامى، والفقراء، وابن السبيل، والمنكوبين، والضعفاء، والعُمال، وأصحاب الكد والعناء، وإني بلهفة وشوق أصلي عليه وعلى أتباعه”.
لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة:
كم هي الأمة الإسلامية اليوم بحاجة إلى معيار؛ تعاير عليه حياتها وشؤونها، لقيادتها نحو الأفضل، وأي قدوة أعظم من خاتم المرسلين، يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: “كنا إذا اشتد البأس وحمي الوطيس واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله، فما كان أحدٌ منا أقرب إلى العدو منه”.
لقد جسد صلى الله عليه وآله وسلم الفضيلة في أبهى صورها.
وكم هي الإنسانية المُعذبة والحائرة اليوم بحاجة إلى ضمير تستمع إليه حين الأوبة وحين التوبة وحين الرجوع إلى الحق أو حين إرادة الرجوع إلى الحق؛ والرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم هو ضمير العالم والكون، لأنه رحمة: “إنما أنا رحمة مُهداة”.
إذن ليست “أميركا” التي يطلب قادة العالم الإسلامي وصهاينة العرب رضاها؛ ويخطبون ودها؛ هي ضمير الكون؛ وإن كانت الأكثر قوة وفُحشاً وطُغياناً وجبروتاً؛ لكنها ليست رحمة، أيها الحالمون الواهمون المخدوعون؛ أليست يداها الأثمة تقطر بدمائنا ودماء عشرات الملايين من الأبرياء في هذا الكون المكتوي بنيران عربدتها وطغيانها.
وهي ليست العالم، رغم كل ما ترفعه من شعارات كاذبة؛ وليست القوة المادية؛ لأنها ظالمة ومُجرمة؛ ولأن القائمين على إدارة دفة حكمها لا يعرفون أي معنى من معاني الإنسانية ولا العدالة ولا الحقيقة، إنهم يميلون كل الميل مع الرذيلة والخبائث المُزكمة لأنوف أحرار العالم؛ خصوصا وأن من يحكمها أكثر الناس بُغضاً وكراهية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللإسلام، وهم اليهود الأقتام، فما الذي جناه العالم منها غير الخراب والدمار والدماء؟؟.
إذا كنا نعلم ذلك؛ فلماذا ابتعدنا عن تعاليم ديننا وسنة نبينا، ونهج آل بيته سفن النجاة، لا سيما وأن ما لحقنا من أميركا والكيان الصهيوني وحلفائهم من صهاينة العرب، ليس بالأمر الهين؛ في حين أننا نقرأ ليل نهار: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”.
رحمة للإنسان والشجر والحجر وكل المخلوقات؛ بينما من ركنا إليهم واغتررنا بقوتهم من الأميركان والصهاينة، لا يأتون إلا بكيد ساحر: “إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى”.
أما حان الوقت لنصحو ونعترف بأن ما يمارسه الأميركان والصهاينة وعبيدهم من صهاينة العرب في اليمن وفلسطين والعراق وليبيا وسورية والبحرين ولبنان، ووو، لا يعدو كونه “كيد ساحر”.
ليكن مولد خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلّم بداية الصحوة والمراجعة والتصحيح والرجوع إلى الله ونفض جلباب الذل والهوان، وصدق الله القائل: “وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ”.