يومئذٍ جاءنا فخامة الرئيس، مُسَبِّحاً
عبد القوي السباعي
أطل فخامة رئيس الجمهورية المشير الركن مهدي المشاط، على المشاركين والحاضرين في ميدان السبعين بالعاصمة صنعاء، وفي ساحة عرض الاحتفال بالذكرى الثامنة للثورة الشعبيّة، بهيئةٍ لم يسبقه إليها أحد ممن حكموا اليمن على مدى قرون، على الرغم من مظاهر الإباء والفخر والشموخ اليماني الفريد، إلا أنه لم يأتِ منتشياً تعلوه سحائب العُجب والزهو، لم يأتِ فارداً أجنحة الغرور وأبهة المنصب وعنجهية المسؤولية، بل وقف لاهجاً مسبحاً، تعلوه غمامة الخشوع والتذلل تسبيحاً وشكراً لله تعالى، وكأنه يحاول تذكيرنا، من خلال تلك التمتمات الجميلة المرتسمة على شفتيه، بأن الثقافة التي جاء من أوساطها، هي ما يجب علينا أن نتشارك معها الوجود، في هكذا مناسبة، بل وفي كُـلّ حين.
جئتنا يا سيِّدي الرئيس، مُسَبِّحاً، لتؤكّـد أن لا شيء في هذا العالم يمكن أن يكبح انطلاق الثورة أَو يطفئ وهج إنجازاتها العسكرية والعلمية الأكثر روعة، ومنجزاتها التقنية الأكثر إدهاشًا، والنمو والتفوق الميداني الأكثر إبهاراً، والمتدفقة على مدى ثمان سنوات، كان الأعداء فيها يتأرجحون على شفير الهزيمة والذلة والانحطاط، لتقدم رسالة عامة، لم تشأ من خلالها إعلان رفض الحرب والعدوان وحسب، بل وأردت تقديم مقترحاً للسلام، لمن يفهم أبجديات السلام.
جئتنا يا سيِّدي الرئيس، مُسَبِّحاً، لتبرهن أن كُـلّ طموح ينشدهُ الأحرار لا يمكن أن يتحقّق إلا بنفض غبار الهيمنة والوصاية والتبعية، وأن كُـلّ هدفٍ يرمي إلى رعاية وتطوير هذا العالم يتطلب تغييراً عميقاً في أنماط السياسية الأممية وأساليب إدارتها للملفات الساخنة، بعيدًا عن هيمنة البنيات والقوى السلطوية الدولية القائمة والتي تشوه التاريخ وتسوس المجتمعات المعاصرة وتعيق مسارات التنمية الحضارية للبشرية جمعاء.
جئتنا يا سيِّدي الرئيس، مُسَبِّحاً، لتقول: إن المسار التحرّري والتنمية البشرية الأصيلة التي نمارسها اليوم، في يمن الإيمَـان والحكمة ذات طابع أخلاقي، يفرض الاحترام الكامل للشخص الإنساني، وينظر في طبيعة العلاقات الدولية من منطلق الندية وعلاقات المنفعة المتبادلة، ضمن نظامٍ دولي منسق يفرض على الجميع عبور الواقع على أَسَاس الهبة الأولى والأصلية للأشياء كما خرجت من يدي الله سبحانه وتعالى يوم أن برأ الخلائق.
جئتنا يا سيِّدي الرئيس، مُسَبِّحاً، لتؤكّـد أن اليمن التي صبرت أكثر من سبع سنوات على الأذى غير المسبوق الذي ألحقه بها، أُولئك المعتدون والمؤيدون والصامتون والمبرّرون، لم تعد تحتمل المزيد منه، لم تعد تصبر على خطيئة الحصار وجريمة انتهاك الخيرات التي وضعها الله فيها، لتقول للمعتقدين أن اليمن مُلْكِيِّةٌ خَاصَّة بهم، ومباحٌ لهم ننهبها، أن يكفوا عن هذا الاعتقاد؛ لأَنَّنا فتحنا سجلات للمحاسبة، والتي سيعبر عنها الانفجار الهادر والطوفان العظيم لهذا الجيش الذي نستعرضه، والمؤيد بالله، والنابض من العنف والسخط القاطن في القلب الإنساني لكل يمني لامسته الجروح والأحزان على مدى سنوات العدوان.
جئتنا يا سيِّدي الرئيس، مُسَبِّحاً، وموضحًا حقيقة إذَا ما أردنا بناء أُمَّـة لها مكانتها وتسير نحو الارتقاء بذاتها، وتسعى لإصلاح كُـلّ ما هُدم منها، لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال إهمالها أي فرع من فروع العلم والمعرفة، وأي شكل من أشكال الحكمة، ولا أي منهج من مناهجها الدينيّة، المرتكزة على الثقافة القرآنية والهُــوِيَّة الإيمَـانية اليمانية الأصيلة، التي جاءت منفتحة على الحوار والتعايش مع منظومة الفكر الفلسفيّ المتنوع، ما سمح لها بإنتاج صيغ متآلفة بين الإيمَـان والعقل، بين الفعل والقول، وهذا قل ما يمكن ملاحظته، في كوادرٍ ثوريةٍ عملت وتعمل على إثراء نفسها دائماً انطلاقاً من التحدّيات الجديدة.
جئتنا يا سيِّدي الرئيس، مُسَبِّحاً، لتبين أن مفهوم الخير العام يشمل أَيْـضاً الأجيال الآتية، فقد أظهرت الحرب العدائية المفروضة على اليمن، وبطريقةٍ فجّة، الأضرار التي يسببها عدم الاعتراف بمصيرٍ مشترك للأجيال، مصير واحد وجامع لكل اليمنيين بأجيالهم السابقة واللاحقة في الداخل والخارج، إذ لا يمكن أن نَقصي عنه أُولئك الذين سيأتون بعدنا دون تحقيق مبدأ التضامن ما بين الأجيال، في إطار منهجية متجذرة يقودها القرآن الكريم، وترسم معالمها العترة المطهرة، وتحتضنها الأُمَّــة، ويحميها رجالٌ صدقوا.
جئتنا يا سيِّدي الرئيس، مُسَبِّحاً، لتجعل جيل الحاضر يفكّر في الحالة التي سيترك فيها اليمن للأجيال الآتية، فرسمت مساراً للولوج في منطقٍ آخر، منطق العطاء المجاني اللامحدود الذي نتلقاه ونعطيه، فإن كانت الأرض اليمنية قد أُعطِيَت لنا، فلا يمكننا التفكير فقط انطلاقاً من معيارٍ نفعيٍّ يقوم على الفعالية والإنتاجية؛ مِن أجلِ الربح الشخصي، جعلتنا نتكلم عن مسألة عدالةٍ جوهرية، انطلاقاً من أن الأرض اليمنية، هي أَيْـضاً مِلّكٌ للذين سيأتون بعدنا، إنه قرض يتلقّاه كُـلّ جيل وعليه أن يسلّمه إلى الجيل التالي، إنها نظرة متكاملة جعلت من الرعيل الأول للثورة، وأنت منهم، يمتلك الرؤية الواسعة، مستحضراً قول الشاعر: “وللأوطان في دم كُـلّ حرٍ يدٌ سلفت ودينٌ مستحق”.
جئتنا يا سيِّدي الرئيس، مُسَبِّحاً، لتضعنا أمام خيار متطلبات الصمود والثبات والمقاومة والتحدي، وإمْكَانية استعمال القدرات الوطنية بطريقةٍ مسؤولة، وهو ما عملت الكوادر الثورية على ترجمتها من خلال أعمالها التي نُظمت كمهامٍ ملزمة على كُـلّ يمني حر اتخذتها في صناعة الأمل ووضع الخطط والبرامج، وفي الإعداد والتدريب والتأهيل والتنسيق، وفي الجهد والعمل والسهر وفرض الأمن والأمان، فها هي الثورة اليوم تقدم طريقتها في نظم المجتمع اليمني وإنماء حاضره وحماية مستقبله.
جئتنا يا سيِّدي الرئيس، مُسَبِّحاً، لتحكي لنا بعضاً من قصص التفوق والإبداع، وحكايات مستوحاةٍ من منطق “الحاجة أم الاختراع”، في سياق ابتكارات تكنولوجية مُستمرّة، في حضرة عناصر القوة والردع، (العقيدة.. والرجال.. والسلاح)، العناصر التي تعمل كمنظمٍ فعّال في القانون الذي لا تفهمه سوى قوى الاستكبار والهيمنة وشراذم الانبطاح والعمالة والارتزاق، قانون يضع قواعد التصرفات المباحة على ضوء الخير العام للأُمَّـة والانتصار لقضاياها المصيرية.
جئتنا مُسَبِّحاً، يا سيِّدي الرئيس، وواقفاً على حدود دولةٍ ضاربة جذورها في أعماق التاريخ، ومستشرفاً آفاق المستقبل الذي يستحقه شعبٌ أصيل ومجتمعٌ مكافح، ناضج الفكر متقد الوعي، ذو سيادةٍ وقرار، تواق لمستقبلٍ قائم على أسسٍ بنيويةٍ، راسخة وقواعدٍ تنظيمية مؤسّسية، تنبذ الجمود والعشوائية وتقود بمهارةٍ عالية مختلف العمليات الإنتاجية في كُـلّ المجالات، وهكذا هي أُمَّـة يتسابق أبطالها لصون إنجازاتها والوقوف أمام كُـلّ المخاطر المحتملة أَو المؤكّـدة.
جئتنا يا سيِّدي الرئيس، مُسَبِّحاً، وموجهاً رسالة السلام من أرض السلام إلى كُـلّ العالم، وإلى جميع الأشخاص ذوي الإرادَة الصّالحة في الداخل والخارج، رسالة منفتحة على الحوار البناء مع الجميع، للبحث معاً عن سُبُلِ تحرير الإنسان من تسلط أخيه الإنسان، وفق القناعات الإيمَـانية التي تُعطي للإنسان مكانته وحرمته، في قناعةٍ مقرونة بتقدمٍ اجتماعي وأخلاقي أصيل، للأرض والأمة اليمنية.