خروج الإمَام الْهَادِي إلى الْحَقّ عَلَيْهِ السَّلام إلى الْيَمَن
صَالِح مُقْبِل فَارِع
خرج الإمَام الْهَادِي -عَلَيْهِ السَّلامُ- إلى الْيَمَن والناس فِيْ الْيَمَن ينظرون إِلَيْهِ نظرتين: نظرة محبيه الَّذِيْنَ يرون فِيْهِ مُخَلِّصًا من الْوَاقِع السيء الَّذِيْ يعيشونه تَحْت ظلم جفتم وولاة بني العباس الَّذِيْ كَانُوْا يسومون الْيَمَنِيِّيْنَ سوء العذاب، وَالْقَبَائِل تعيش حَالَة من الْحَرْب والفوضى، والأقاليم تَحْت سيطرة أمراء حرب يقتتلون للتغلب، فمن تغلّب قدم نفسه واليًا لبني العباس، وخطب باسمهم، وبين آخرين كَانُوْا ينظرون إلى الإمَام الْهَادِي عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُ مَشْرُوْع حاكم يُرِيْد أن يسطر عَلَى البلاد وأن يحكم فِيْ العباد كغيره من النَّمَاذِج الْمَوْجُوْدَة، ولكن النموذج الَّذِيْ قدمه الإمَام الْهَادِي كَانَ مختلفًا فلم يقبل من أتباعه أن يطيعوه مَا لم يكونوا مطيعين لِلَّهِ، ولم يتألف قلوبهم حَتَّى تستقر دولته عَلَى حِسَاب القِيم الَّتِي يحملها، ولم يشترِ ولاءاتهم بخزائن بيت الْمَال كَمَا كَانَ يفعل السلاطين قبله، فكان حاكمًا يختلف كُـلّ الحاكمين لِلْيَمَنِ قبله، ولم يدخل إلى الْيَمَن بجيشٍ من خارجها بَلْ دخل إلى الْيَمَن وَلَيْسَ لَهُ أنصار إِلَّا من استبصروا فِيْهِ ودعوه إِلَيْهِ، ثمَّ من عرفوه بِهَذِهِ المبدئية والمثالية سلّموا إِلَيْهِ عروشهم وقاتلوا بين يديه حَتَّى استشهدوا، وَلَيْسَ عَبْداللَّهِ بن بشر بن طَرِيْفٍ أبو العتاهية إِلَّا نموذجًا واحدًا، هَذِهِ المثالية هِيَ الَّتِي جعلت الإمَام عَلَيْهِ السَّلامُ ينجح فِيْ الصُّلْح بين قبيلتي سعد والربيعة [من خَوْلان] رُغْمَ العداء الْكَبِيْر الَّذِيْ كَانَ بَيْنَهُمَا، والتفت حوله قَبَائِل هَمْدَان رُغْمَ وجود كبيرها الدَّعَّام الأرحبي، وبلا غضاضة عَلَيْهَا فلم يكن الْهَادِي سلطانًا بَلْ كَانَ هاديًا، ووالته خَوْلان وقاتلت مَعَهُ جهادًا وكبيرها ابن عبّاد الأُكَيْلِي يتسكع فِيْ شوارع بَغْدَاد طالبًا الجيوش لغزو الْيَمَن حَتَّى أعيَتْه الحيلة ولم تزدد خَوْلان إِلَّا جهادًا مَعَ الْهَادِي وبصيرة فِيْهِ، وَعِنْدَمَا دخل الْهَادِي صَنْعَاء وخرج مِنْهَا إلى شبام [عَاصِمَة الدَّوْلَة اليعفرية] وَقَدْ صَارَ بنو يعفر أمراؤها أَسْرَى فِيْ يده دعاهم وفيهم الأَمِيْر أَسْعَد بن أبي يعفر بن إبراهيم فأعلمهم بِمَا كَانَ من إساءَاتهم إِلَيْهِ وَمَا كَانَ من إحسانه إِلَيْهِمْ ثمَّ قَالَ لَهُمْ: قَدْ وهبتُ لَكُمْ أنفسكُمْ فاتقوا الله فِيْ سركم وعلانيتكم، ومنّ عَلَيْهِمْ وأطلقهم، وخرج من شبام وسلّمها لَهُمْ، وَهَذَا الموقف –كَمَا يَبْدُوْ- هُوَ الَّذِيْ جعل أسعد بن أبي يعفُر يعيش فِيْمَا بعد أسير مودَّة الْهَادِي والانتماء إِلَيْهِ دينًا، وإن بقي أميرًا عَلَى صَنْعَاء وشبام وَمَا جاورهما إلى كُحْلان، حَيثُ استقر حَتَّى توفي سنة 332هـ، وَقَدْ فهم أن الْهَادِي لم يأتِ ليسلبه ملكه أَو يذلّه بعد عز وَإِنَّمَا الْعِزِّ والمُلك هُوَ فِيْ حب الْهَادِي والانتماء إِلَيْهِ، ولئن كَانَ فِيْ ظاهر أمره يخطب لغير الْهَادِي ولكن الَّذِيْ يظهر من تصرفاته بعد موقف الْهَادِي مِنْهُ أن المذهب عُمُـومًا فِيْ مَنَاطِق حكمه قَدْ أصبح هادويًّا، وحين خرج الْمُرْتَضَى بن الْهَادِي من الأَسْر إلى شبام لم يكن استقبال أسعد لَهُ استقبال محايد فضلاً عن خصم بَلْ كَانَ استقبال المؤمن بقُدسية وعظمة هَذَا الأَسِيْر وَالَّذِيْ هُوَ الْمُرْتَضَى بن الْهَادِي عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَد كَانَ يُقبّل من الْمُرْتَضَى أطرافه كمَا يقبّل العبد من مولاه، رُغْمَ موقع أسعد من الإمارة فَـإنَّ هَذَا لَا يتأتى إِلَّا من خواص المحبين، وأعتقد بأن الْعَلاقَة بعد ذَلِكَ بقيت عَلَى حَالَة من الولاء لَا تخفى، فحين قَامَ أحد أبناء أعمامه بغزو مَدِيْنَة صَعْدَة بعد وفاة النَّاصِر بن الْهَادِي جهّز الأَمِيْر أسعد جيشًا إلى صَعْدَة حَتَّى طرد جيش ابن عمه وَأَعَادَ أحفاد الْهَادِي إلى مَدِيْنَة صَعْدَة وسلمها لَهُمْ وعاد أدراجه، وَلَيْسَ غريبًا أن يكتب المؤرخون أن النَّاصِر بن الْهَادِي حَبس أبا الحسن الهمداني المعروف بابن الحائك فِيْ سجن أسعد بن أبي يعفر، ولم يكن الْناصر ليحبس أَحَدًا فِيْ سجن أسعد مَا لم يكن أسعد فِيْ طاعته وإن كَانَ بِشَكْلٍ الموالاة الكاملة الَّتِي اقتضت الظروف أن تكون غير معلَنة، ولعل لِهَذِهِ الميزة فِيْ أسعد دور فِيْمَا جرى عَلَى يديه من أَعْمَال تمثلت فِيْ الْقَضَاء عَلَى القرامطة وكبيرهم عَلِي بن الفضل فِيْ المذيخرة بعد تضخم ظاهرتهم وتفاقم محنتهم فكان هُوَ المتولي لِلْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ فِيْ عام 304هـ، وَلَيْسَ غريبًا لِكُلِّ ذَلِكَ أن “سيرة الْهَادِي” تترحم فِيْ ثناياها عَلَى الأَمِيْر أسعد بن أبي يعفر.
ولقد كَانَ الْهَادِي عَلَيْهِ السَّلامُ فِيْ كُـلّ الأَحْوَال يأسِر خصومًا بالانتصار عَلَيْهِمْ ويأسِر آخرين بالعفو عنهم، حَتَّى أصبح منهجه عَلَيْهِ السَّلامُ مذهبًا لجميع هَذِهِ الْقَبَائِل العاصية الَّتِي لم تكن تفارقه تَحْت ضغط الأنظمة المتغلبة حَتَّى تعود إِلَيْهِ.