عاشوراءُ وحالةُ الصراع مع اليهود
عبدالقوي السباعي
كان الرسولُ الأعظمُ -صلى الله عليه وآله وسلم- في بداية دعوته، لا يجد حَرَجاً في أن يوافقَ أهلَ الكتاب ببعض الجوانب التي لم يتنزل عليه فيما يخُصُّها وحيٌ من الله تعالى، فمثلاً استقبال القبلة إلى المسجد الأقصى في الصلاة، وصيام عاشوراء الذي كان يصومه اليهود شكراً لله أن نجى موسى (ع) وقومه من فرعون وجنوده، وغيرها الكثير، ممّا كان يدخل ضمن موافقة النبي الأكرم (ص) لأهل الكتاب حتى ينزل الله ما يخص المسلمين، إمّا تأكيداً لها وإمّا أمراً بتركها ومخالفتها واستبدالها.
وهناك الكثير من الشواهد النصية والعقلانية التي تؤيد هذا المسلك، منها على سبيل المثال ما ورد في وصية رسول الله (ص) لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن، حاثًّا له، أنه قادمٌ على قومٍ أصحاب كتاب، فأمره بأن يعمل ويأخذ ممّا لديهم من أحكام إذَا لم يجد لها تبيان في التشريع الإسلامي حديث النشأة حينها، وذلك قبل أن تكتمل الرسالة المحمدية، ليأتي بعد ذلك كمال الدين، فقال تعالى: {اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا}، وقوله عز وجل: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ).
وفيما يخُصُّ صيامَ عاشوراء تزخر أُمهات الكتب في المصفوفة الإسلامية (السُّنية)، بالكثير من الأمثلة، نأخذ مثلاً: من صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، حديث رقم: 1904، ج، ص 466، والذي يقول نصاً: حَدَّثَنَا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ جميعاً عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ قَالَ أبو بَكْرٍ حَدَّثَنَا أبو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: دَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ –ابن عمر- وَهُوَ يَتَغَدَّى فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ادْنُ إلى الْغَدَاءِ، فَقَالَ: أَو لَيْسَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ؟ قَالَ: وَهَلْ تَدْرِي مَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ يَوْمٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَلَمَّا نَزَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ تُرِكَ”.
ومن المعلوم عند أهل السنة والجماعة أن ابن عمر كان أشدّ الصحابة تقليداً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أَو هكذا يوصف، لذلك ظاهر هذه الرواية يسبب مُشكل لدى المعتقدين بالروايات الأُخرى التي تحاول إثبات أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلّم- قد صام عاشوراء في شهر محرّم، من السنة الأولى للهجرة، أي بعد وصوله بأيام، وأمر بوجوب صيامه، وفيما ثبت أنه عاش إلى حوالي السنة العاشرة بعد الهجرة، فكيف تستقيم تلك الرواية، فهو لم يصم عاشوراء غير مرّةٍ واحدة، وهذه المرّة ليست في السنة التاسعة للهجرة، كان يفترض بهم أن لا يقولوا صام عاشوراء أول ما وصل المدينة، حتى تستقيم الرواية.
غير أن هذه الرواية وغيرها تؤكّـد أن الله فرض على المسلمين صوم شهر رمضان، ولم يعُد لصيام عاشوراء قيمة، حتى وإن وجدت بعض الروايات التي تؤكّـد مندوبية صيام عاشوراء، لكن قراءة الروايات ضمن سياقها التاريخي تُنبؤنا عن دلالات أُخرى، فقد ثبت أن النبي الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم- قد وافق أهل الكتاب في القِبلة، حَيثُ التوجّـه إلى الأقصى، وافقهم في عاشوراء، لكن بعد دخوله معهم في حالةٍ من الصراع، جاء الأمر الإلهي بتحويل القِبلة شطر المسجد الحرام، حَيثُ صرفت القِبلة عن الشام إلى مكة المكرمة، وصرفت في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمه إلى المدينة، قال تعالى: “قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ”.
لاحظ.. إن تحويل القِبلة وترك قبلة أهل الكتاب (اليهود)، وفرضية الصيام في شهر رمضان وترك صوم عاشوراء، ينبغي أن يفهم على أنه توجّـه ديني أرساه وأسس له رسول الله (ص) يأتي ضمن إطار حالة الصراع مع اليهود، فلا يُقال إن صوم عاشوراء صار مندوباً بعد، إذ كان فرضاً، كما لا يُقال إن التوجّـه شطر المسجد الأقصى مندوباً بعدما تُرك، بمعنى لا يجوز لك وأنت تصلي في المدينة المنورة وتقف متوجّـهاً إلى الكعبة جنوباً، أن تغير وجهتك شمالاً باتّجاه المسجد الأقصى، على اعتبار أن هناك روايات تؤكّـد حقيقة أن رسول الله (ص) كان قد صلى متوجّـهاً شطره، وهكذا.
وهناك الكثير من العقلاء في مختلف المذاهب الإسلامية يعلم ويدرك ثبوت أن صوم عاشوراء تُرك بعد فرضه في رمضان، وخُصُوصاً أنهم ربطوا الأمر بسياق الصراع مع اليهود وتحويل القِبلة، وتبيّن لهم أن الأمر أبعد من موافقة أَو مخالفة اليهود، إنما هو صراع وجودي مع اليهود، واليوم هناك من يرى أن اليهود وجدوا في حكام بني أمية ضالتهم في تلك الحقبة فيما يخص يوم العاشر من محرم، وذلك للتغطية على جريمتهم بقتل الإمام الحسين (ع)، فكل ما نقله المحدثون من أحاديث منها ما هي موضوعة ومكذوبة، صارت جميعها موضع شك يستوجب التدقيق.
ويبقى هنا تساؤل مشروع أيهما أوجب بمناسبة عاشوراء، أن تحتفل بنجاة بني إسرائيل وتصوم ذلك اليوم مثلهم ابتهاجاً وفرحاً..؟ أم أن تستذكر سيد الشهداء الحسين (ع) حفيد النبي المصطفى (ص)، وتحاول الوقوف على الأسباب الحقيقية والدوافع الجوهرية التي أَدَّت إلى كُـلّ هذا الانحراف الديني والسقوط القيمي الذي وصل بمن يفترض أنهم مسلمون إلى فصل رأس فلذة كبد نبيهم في مثل هذا اليوم؟
هناك الكثير من التساؤلات المشروعة التي يطرحها أي مسلم واع، عقله حر ومتجرد، وليس مفخخاً بمتفجرات الفكر الوهَّـابي التكفيري الظلامي، فقط لو سألتم أنفسكم، لماذا تصلون على محمد وآل محمد وهم وبحسب كُـلّ أدبيات الإسلام المختلفة، (علي وفاطمة والحسن والحسين)، في صلاتكم في كُـلّ تشهد أوسط وأخير دون أن تذكروا الأزواج والأصحاب..؟ أليس هذا دليلاً على سمو ومكانة هؤلاء الأشخاص عند الله عز وجل؟..
إن من الغباء والجهل اليوم أن يستدرجَ السذج والحمقى من أبناء الأُمَّــة الإسلامية إلى مربع التقليل من منزلة رسول الله محمد وآل بيته الأطهار صلوات الله عليهم، والحط من قدرهم، دون إدراك مغزى هذا الاستهداف المشبوه، ومساعي تحريكه وعنونته في إطار طائفي فتنوي، ليس وليد اليوم، بل كان على مدى قرونٍ من الزمن، فاليهود ومن سار على شاكلتهم من صنائعهم في أوساط الأُمَّــة، وفي ظل حالة الصراع الدائم معهم، لم يدخروا جهداً، ولم يتركوا باباً إلا وحاولوا أن ينفذوا من خلاله للتأثير على واقع الأُمَّــة واستهداف معتقداتها في مساعٍ حثيثةٍ لتزييف الوقائع وطمس الحقائق وتشتيت ذهنية ووعي الجماهير، تشويهاً وتشكيكاً، الأمر الذي يتوجب علينا جميعاً التنبه والحذر من الوقوع في شراك ومصائد العدوّ الأزلي للأُمَّـة، ألا وإنهم اليهود.