قمّةُ جِدّةَ بين جدل الواقع ورموزه
عبدالرحمن مراد
في قمة جدة ظهرت رموز وإشارات كثيرة دالة على المستقبل، وكاشفة في السياق نفسه الغلالة التي تحجب الرؤية، لقد سبق لي القول -في حوارات وفي مقالات– إن النظامَ العالمي الإمبريالي آيل للسقوط، اليوم بعد كُـلّ تلك الرموز والاشارات التي بعثها الواقع، أؤكّـد على هذه الحقيقة بشكل أكبر من ذي قبل، فخيبات الأمل تلاحق النظام الرأسمالي القديم الذي تقوده أمريكا، وها هي الأزماتُ الاقتصادية تكشِّر ُعن نابها في دول مجموعة السبع، دونَ أمل في بدائل محتملة تحل أزمة الطاقة التي أصبحت شبحاً يقض مضاجع الساسة والخبراء في أمريكا والاتّحاد الأُورُوبي، الذين نصبوا الشباكَ للدب الروسي فوقعوا هم في الشراك، ونجا الدبُّ الروسي، وأصبح يقفُ على هضبة مرتفعة، يفرض عقوباته عليهم، دون أن يترك ذلك غبارا، كما حدث مع رئيس وزراء بريطانيا بعد أن تطاول على بوتين فلم يطل أمده في السلطة، فقد جاء السكين الروسي الناعم ليجز رقبته من الوريد إلى الوريد، وخرج من باب السياسة مذموماً مدحوراً بعد أن عرف الرأي العام البريطاني تاريخ العمالة لرئيس حكومتهم.
لم يعد الأمر كما كان عليه في سوالف الأيّام، لقد حاولت الصهيونية وأمريكا من اضطراب الشرق أن تعيد تقسيم الخارطة العربية بما يتسق ومصالح إسرائيل وأمريكا، لكنها اكتشفت اليوم أن ذلك الأمر لم يكن إلا تدبيراً ربانياً، فقد مكروا ومكر الله، والله خير الماكرين، فالطاقة التي كانت تتدفق إلى حوض البحر المتوسط من منطقة الخليج أضحت تحت الحصار والسيطرة للطرف المناوئ الذي يخوض حرباً عسكرية في أوكرانيا، وحرباً موازية باردة، ولذلك حين كشف رئيس أمريكا عن كوامن نفسه من الزيارة إلى الشرق قال: لن تترك أمريكا فراغاً للروس والصين في الشرق، وأن أمريكا سوف تستعيد دورها الريادي في الشرق، لكن الحالة التفاعلية التي تجلت في سياق الزيارة، ونتائج قمة جدة، لم تكن تشير إلى نجاح الزيارة، كما أن ردود الفعل في الصحافة العالمية حول الزيارة كانت منكسرة، وظهر الكثير من المحللين يعلنون عن خيبة الأمل من الزيارة، وذهب الإعلام إلى قراءة التفاصيل الصغيرة من المعطيات، منها تأخر فرش البساط الأحمر في المطار الخاص باستقبال كبار الضيوف، مما اضطر رئيس الدولة الكبرى التي تقود العالم إلى الانتظار، في بادرة يراها الكثير أنها ردة فعل مهينة على تصريحات سابقة لبايدن حول السعوديّة، كما أن الاستقبال لم يكن لائقاً، وقد حاول ابن سلمان أن ينشغل بأحاديث جانبية ألهته عن حرارة الاستقبال دون اكتراث، الأمر الذي رأى فيه المحللون خروجاً من المظلة الأمريكية، وتعبيراً عن الرفض لسياستها في التخلي عن الحلفاء بأساليب أكثر تمدناً.
في مقابل قمة جدة كانت هناك رسائل من الطرف الروسي، الذي طار إلى إيران، وتم عقد قمة ثلاثية، ضمت تركيا، وإيران، والروس، والدول الثلاث كما هو معروف لاعبون أَسَاسيون في المنطقة العربية، ويمكن القول أن أذرع الدول الثلاث تمتد عميقاً، من حَيثُ التأثير والأثر، ولذلك تكون الكفة راجحة لصالح الروس، وخيبات الأمل تلاحق أمريكا ومجموعتها السبع، التي ذهبت إلى خيار المقاطعة الاقتصادية، وخيار العقوبات على الروس، بحسابات غير واقعية بعد أن تمكّن بوتين من قلب الطاولة لصالح بلاده، وأعلن مطمئناً نهاية القطب الواحد.
هذه المعطياتُ التي نقرأ تفاصيلها في الحركة التفاعلية للواقع اليوم، تبعث الكثير من الرموز والإشارات القائلة: أن الروس، والصين، ومن تشايع معهم، سوف يعيدون ترتيب نسق النظام الدولي الجديد، وهو نسق يقوم على تعدد الأقطاب، وتقول المؤشرات: أن النظام القديم في طور الانهيار، رغم ضراوة المقاومة التي يبديها اليوم في أوكرانيا، وفي غير أوكرانيا، كما أن الخصوم تنهار مواقعهم، وذلك مؤشر على تفكيك البنية الفاعلة في البناء والتأثير في مجريات الواقع السياسي العالمي، الأمر الذي سوف يترك ظلالاً نفسية قاتمة، وشعوراً بالانكسار، وقد يجبرهم ذلك على التفاعل مع الواقع الجديد بخسائر أقل دون اللجوء إلى خيارات قد تكون مدمّـرة.
الكثير من دول الاتّحاد الأُورُوبي يندبون حظهم اليوم، فخيار العقوبات الاقتصادية التي مالوا كُـلّ الميل إلى خياره في سالف أيامهم، ترك أثراً مباشراً على دولهم، قبل أن يؤتي ثماره في الدولة التي استهدفوها، وهي الروس، ولذلك فكل الحركة التي تقوم بها أمريكا تهدف إلى التخفيف من تداعيات العقوبات الاقتصادية على الاتّحاد الأُورُوبي خَاصَّة في مجال الطاقة والغاز، ولا خيار بعد أن فشلت أمريكا في تدبير البدائل للغاز والنفط الروسي سوى الترشيد في الاستخدام، والتعامل مع الواقع ببذخ أقل، ومثل ذلك سيترك شعوراً طاغياً بعدم الأمان، وبالتهديد في المستوى الحياتي الذي اعتاد على عيشة المواطن الأُورُوبي، وهذا الشعور وحده قد يجعل العنتريات التي عليها زعماء مجموعة السبع تهبط إلى أدنى مستوياتها وتفرض عليهم القبول بشروط الدب الروسي، وهو أمر حاولوا القفز على حقيقته الموضوعية، لكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً، وقد كان بمقدورهم الخروج من الأزمة بخسائرَ أقلَّ.
فشل مؤتمر جدة ولم يحقّق الهدف منه، وعاد بايدن يجر أذيال الخيبة، وقد يبدأ بصورة عكسية في التآمر على نظام سلمان، ويترك السعوديّة شذراً مذراً، خَاصَّة وأن الكثير من الرموز الدينية للسلفية الوهَّـابية بدأوا في الاشتغال على هدم المقدس في الوجدان العام، وهم بذلك يساهمون بشكل مباشر، وغير مباشر، في هدم النظام العام، والطبيعي، وقريباً تذوقُ السعوديّة ويلاتِ الاضطرابات التي غذتها بتوجيهات البيت الأبيض في اليمن والكثير من دول المنطقة.