صنعاء بين سحر الواقع وجمال الأسطورة
عن صنعاء الثقافة والحضارة والجمال … جمع شاعر اليمن الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح في مقالة الذي اختار له عنواناً “صنعاء بين سحر الواقع وجمال الأسطورة ” سبق وأن نُشر في مجلة “العربي”عدد مارس 2004م، جمع بين أبعاد الدهشة التي تمتلكه عند رؤيته صنعاء عن قرب وهي مغمورة بشمس الظهيرة وما يتدفق على واجهات المنازل من كميات الضوء..
وجعل في مقدمة اهتماماته الحديث عن صنعاء القديمة على وجه الخصوص … حيث بحث الدكتور المقالح في المقال جمال” المكان وبهاء العمارة لهذه المدينة النائمة في وجه الزمن” .
نعيد نشره لقراءته من جديد ليستوحي ويستهدي القارئ مما طرح، ما يمكن معرفته عن تلك الصورة الجميلة المعبرة عن صنعاء في الماضي القريب , وليس على ضوء الحاضر المعاصر ..
كانت امرأة
هبطت في ثياب الندى
ثم صارت
مدينة
هكذا يصف شاعرنا الكبير مدينة روحه صنعاء من خلال الكلمات التي يخترق بها حجب الذاكرة.. مسترسلاً بقوله:
الإشارة تستدعي القول إن صنعاء ـ رغم تمايز فصولها الأربعة ـ ذات مناخ معتدل جميل تقترب درجة حرارة الشمس في نهارها الشتوي من درجة حرارتها في الصيف , وربما تقل صيفاً بسبب الغيوم والأمطار التي تهطل كثيراً في شهور يونيو , يوليو , أغسطس , ولن تبرح ذاكرتي عبارة بديعة قالها منذ عشرين عاما الشاعر الإنجليزي “فيتز جيرالد برنس” رئيس قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة صنعاء، والعبارة هي ” ماأجمل شتاء هذه المدينة , نهار مشمس دافئ وإضاءة باهرة وفضاء مغسول كأنه اللبلور البهي ” وسيلاحظ الخبير المهتم بالتضاريس الجغرافية للمدينة أنها تقع في محيط هو الأعلى في كل الجزيرة العربية , كما أنها مبنية على هضبة ترتفع عن الوديان التي تحيط بها , وأن الزائر عندما يدخلها من أي الجهات يشعرأنه يعلو لاسيما حين يكون قادماً من جهة الجنوب ولايصل إليها إلا بعد أن يتسلق الجبال والآكام , ومتى دخلها يشعر أنه أقترب من السماء وان في إمكانه إذا ما صعد أحد الجبال المحيطة بها أن يلمس السماء بيده .
مدينة نائمة:
لن أتكلم كثيراً عن صنعاء الحديثة , المدينة التي أكلت الحقول والضواحي المحيطة بها والتي لاتزال تتمدد وتترهل، بل سأكتفي بالكلام على صنعاء القديمة مدينتي الصغيرة النائمة خلف سورها الطيني العتيق والمحمية “بغيمان” الجبل المطل عليها من الشرق والذي اعتدى الاحباش على أسمه القديم واختاروا له أسماً آخر هو “نقم” وإذا كنا لانمتلك من الشواهد مايكفي لإثبات التسمية القديمة “غيمان ” فإن الدليل التاريخي الوحيد أن الاحباش هم الذين أطلقوا عليه اسمه الحالي انتقاماً منه , فقد كانت كهوفه وتضاعيفة مأوى للمقاومة الوطنية التي أرهقت ذلك الاحتلال.
وتحيط صنعاء سلسلة من الجبال العالية والمنخفضة , لكن نقم أوغيمان يظل أبرزها وأهمها بوصفة الحارس التاريخي الذي يحتوي صنعاء من جهة الشرق , ويبدو في مكانه بعد أن تجعدت ملامحه ـ كشيخ عجوز يحنو على أبنائه وأحفاده ويدفع عنهم غائلة كل الغزاة وأطماع المعتدين.
البساطة وعمق الجبال:
وفي زمن لاحق حين اكتمل الوعي بجمال المكان وبهاء العمارة وأخذ الشعر يقود الشعور للإحساس ببساطة صنعاء وعمق جمالها , اختزنت الذاكرة والبصر ماتزخر به المدينة من شواخص ثرية , فهنا حفرة “القليس” التي يقال إنها بقايا الكنيسة التي بناها أبرهة , وهنا مسجد “أروى” الذي يعود تاريخه إلى العام السادس الهجري الموافق 627م , وهناك الحمامات التي تسمى بالتركية وهي عربية الأصل ولاتزال مستخدمة , فيها أيام خاصة للرجال,وأخرى للنساء, وكلما ضاقت أزقة صنعاء القديمة انبثقت ساحة واسعة مخططة بحساب لتخدم البيوت المحيطة بها ,بينما يطل عليك من وراء كل مجموعة من الأزقة بستان صغير يسمى ب”المقشامة” يسقى من مياه المسجد ويستفيد من زرعه الجميع ولعل سحر الإضاءة في البيت الصنعاني يتجلى بشكل معاكس ففي النهار يستمتع الجالس داخل البيت بضوء ملون تنثه النوافذ المصممة بشكل هلالي وبقطع متعددة الألوان من الزجاج , أما في الليل فيكون الضوء الساحر الملون تحت نظر المارة الذين يرون النوافذ من الخارج ,ومن العجيب أن النوافذ المخرمة أو المشربيات “التي يستعمل بعضها كثلاجات طبيعية لتبريد المياه” تستدق وتصغر حتى يكون بعضها مثل “الشاقوص ” نافذة بحجم الكف لتنقية الهواء.
مدينة في وجه الزمن:
والآن ـ والسؤال موجه إلى القارئ ـ هل تستطيع أن ترجع معي بذاكرتك إلى الوراء قروناً ,وأن تغمض عينيك وتغوص عميقاً في التاريخ غير المكتوب لهذه المدينة الفريدة في تكوينها المكاني والمعماري , والتي اثبتت أنها لاتشيخ أبداً , وذلك لتلتقط ماتبقى من بريقها ونظامها المتفرد ؟ لقد تقادم الدهر بصنعاء القديمة لكنها لاتزال تقف في وجه الزمن حتى اليوم بمعمارها وجمالها الطبيعي تتحدى صنعاء الجديدة وتزهو بمنازلها ,التي كلما تصدعت أحجارها وبهت لون آجرها أو أختفى زادت جمالاً ونقاء, وزاد عدد عشاقها وتكاثرت أسراب السياح المفتونين بالطابع المعماري العريق والحالمين بفنادقها التقليدية المسماة بالسماسر” جمع سمسرة “ليذوقوا لحظات الراحة في مدينة لا يتسلل إليها الخوف وليس فيها مخابئ ولا حوار سرية كبعض المدن القديمة فهي واضحة شفافة مايكاد يختفي قنديل النهار ” الشمس” حتى تضيء قناديلها الليلية الصغيرة التي تطل من وراء العقود الزجاجية الملونة فتبعث الراحة والأمن إلى نفوس المارة وهواة النزهة المسائية في شوارع لا تعرف الانكماش او التمدد بفعل البرودة والحرارة.
على درج الضوء
أدركت أني
بصنعاء،
أن النجوم
إذا ما أتى الليل
ترقص في غرف
النوم
وحين توار النساء النوافذ الخشبية صباحاً تدخل الريح بنعومة عبر شقوق هذه النوافذ يسمع الناس صدى لأغنيات كأنها قادمة من الماضي البعيد ويصغون إلى موسيقى مترعة بالشجن العميق وبقايا حكايات ترجع في أصولها إلى أقدم الأزمان ومن المؤكد أنه ليس للجمال شكل ثابت متفق عليه ولا هيئة خاصة وإنما لكل إنسان ذوقه الخاص بتحديد أبعاد الجمال هكذا يقولون لكن الجمال الذي تتمتع به هذه المدينة يؤكد أن هناك قاسماً مشتركاً تلتقي عنده نواميس الحواس الحقيقية، ومنذ ربع قرن وأنا أرافق زواراً يأتون من الشرق والغرب من العرب والعجم وفيهم شعراء وعلماء وما من واحد منهم إلا وقد وضعته صنعاء في حال من الدهشة والشعور بمعنى الجمال الأصيل الذي تتفق عنده كل الأذواق على اختلاف أمزجتها لا أقول ذلك من باب التحيز لمدينتي الصغيرة وإنما أنقل ما سمعته تماماً وإذا كان لكل جمال أسراره الخاصة فإن البساطة هي سر الأسرار في جمال هذه المدينة البديعة التي تجمع بين سحر الواقع وجمال الأسطورة.
يا لصنعاء..
سيدة لا تبيح السفور
وترفض أن تقرأ الشمس
أن يقرأ الليل أوراقها
أو يلامس سر الطلاسم في اللوحة
الغامضة