تحت رسالته الخالدة تتحد الإنسانية وتذوب العنصرية وأسباب الصراعات
تحقيق / محمد محمد إبراهيم
بشرى من الغيب ألقت في فم الغار
وحيا وأفضت إلى الدنيا بأسرار
بشرى النبوّة طافت كالشذى سحرا
وأعلنت في الربى ميلاد أنوار
وشقّت الصمت والأنسام تحملها
تحت السكينة من دار إلى دار
وهدهدت “مكّة” الوسنى أناملها
وهزّت الفجر إيذانا بإسفار
هكذا أزهرت ذاكرة شاعر العصر عبدالله البردوني في إحدى صباحات جامعة صنعاء إحتفالا بذكرى المولد النبوي الشريف في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وكما لو أنه واقف بيننا اليوم.. ليروي ذاكرة الحضور والتاريخ من فيضه الإبداعي والإنساني.. فاض سيلاً غزيراً ووجداً من زلال قِيَم الرسالة المحمدية الصافية، مسقطاً مفارقات مؤلمة في حياة الأمة الإسلامية بين ماضي فجرها المشرق وواقعها الملطخ بالعداوات والفرقة والتشرذم المذهبي الذي ليس من الإسلام في شيء سوى اتصاله بسماحته في الإختلاف في الفروع وليس الأصول..
إنها ذكرى مولد النبي محمّد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم الذي شكلت رسالته خلاصة للرسالات السماوية ومبعثاً لإتمام مكارم الأخلاق، ليكون بنهجه وصفته وسلوكه وتواضعه وعصاميته وإصراره المؤيد بالله وملائكته، نقطة التحول في تاريخ البشرية, فقد اصطفاه الله تعالى ليعيد الناس الى طريق الحق , بعد ان عمّت عبادة الاصنام والاوثان بدلا من عبادة الله الواحد , وانتشر الفجور , وسفكت الدماء , وانتشر الظلم , ووأد البنات.. فأتى مبشرا للمؤمنين المستضفعين في الأرض سطوع نور الحق ونصرهم وفوزهم برضا الله.. ونذيراً للمستكبرين مسقطاً عروش الظالمين بسيف الحق والعدل :
تدافع الفجر في الدنيا يزفّ إلى
تاريخها فجر أجيال وأدهار
واستقبلت فيه طفلا في تبسّمه
آيات بشرى وإيماءات إنذار
و شبّ طفل الهدى المنشود متّزرا
بالحقّ متّشحا بالنور والنار
في كفّه شعلة تهدي وفي فمه
بشرى وفي عينيه إصرار أقدار
و في ملامحه وعد وفي دمه
بطولة تتحدّى كلّ جبّار
و فاض بالنور فاغتم الطغاة به
واللّصّ يخشى سطوع الكوكب الساري
و الوعي كالنور يخزي الظالمين كما
يخزي لصوص الدجى إشراق أقمار
نادى الرسول نداء العدل فاحتشدت
كتائب الجور تنضي كلّ بتّار
تذكرت هذه القصيدة وما تضمنته من مفارقات- ليعدها النقاد أجمل قصيدة قيلت في المديح النبوي- وأنا أعبر منطقة القاع وسط العاصمة صنعاء التي تبتهج شوارعها برفيف من شارات اخضرار ونصاعة ذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه.. حيث شهدت العاصمة على مدى الأيام القليلة الماضية، مهرجانا أخضر يزف الآيات القرآنية والعبارات المقتضبة حول أعظم ذكرى دينية تعيشها الأمة الإسلامية.. كما اكتست مآذن المساجد التاريخية منها، والحديثة وأبواب المحال وأرصفة النقط الأمنية، باللون الأخضر، في الوقت الذي تجوب فيه شوارع العاصمة سيارات مدهونة باللون الأخضر صادحة بأناشيد دينية تعكس مدى الفرحة بهذه الذكرى الخالدة في حياة كل مسلم..
العاصمة صنعاء ليست وحدها التي تعيش هذه الأيام ذروة المشاعر الفرائحية والروحية في آن واحد مسترجعة قيم وإشعاع وإضاءات السيرة المحمدية، بل تشهد عواصم الأمة العربية والإسلامية ومساجدها ومراكزها التنويرية والدينية احتفالات ذكرى مولد سيد الخلق ورسول الإسلام وخاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.. التي تصادف يوم الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام، مؤكدة بهذه الاحتفالات أهمية هذا اليوم الذي يعني مولد مخرج الإنسانية من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام , من ألم الظلم إلى راحة العدل , من غي الباطل إلى رشد الحق ومن كارثية الجهل الى ضياء العلم والمعرفة.. كيف لا وهو اليوم الذي ولد فيه الهدى وأشرف خلق الله ليشرق على العالم نور عدله , فبه بزغ فجر التوحيد لتسطع بعده شمس الاسلام , فهو النبي المعصوم والنموذج الامثل والانسان القدوة والبشير بالحق, الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر, الرجل الذي ابتسمت لمولده الكائنات وارتفعت بعهده راية الحريات, وسقطت اعمدة الكفر والظلمات.
فقط يوم المولد النبوي الشريف تَزْهِر الأرض بوحي السماء، لتعكس في مسارات ربيعها المفعم بمعاني الحياة السامية، لونين فقط هما الاخضر السندسي الذي يعكس خصب الحياة وعمرانها بالأعمال الصالحة والأبيض الناصع الذي يعكس رسالة الحق في وضح النهار… هكذا ترتدي العاصمة صنعاء ومعظم محافظات اليمن هذه الأيام اللون الأخضر استعدادا لإحياء ذكرى المولد النبوي الشريف.
حيث يقوم سكان الأحياء والحارات بعمل الزينة والشعارات التعبيرية احتفاء بالمناسبة، معتبرين الاحتفال بها خطوة في الاتجاه الأصوب لإعمار ما دمرته السياسة ، ومحطة للاقتداء بالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ..