معركة ثانية بين “الخَضِر والتّنِيْن” في بيروت
عباس السيد
يُروى في التراث المسيحي أن تِنّينًا كان يخرج على سكان بيروت ويقتل ويأكل سكان المدينة، ويجعلهم يعيشون في رعب دائم، وبعد فترة طويلة اتفق أهل المدينة على تقديم فتاة جميلة للتنين كل عام عن طريق القرعة، فداءً لأهل المدينة، وفي إحدى السنوات وقعت القرعة على ابنة حاكم المدينة، فأخذ الفتاة إلى المكان المحدد على شاطئ بيروت، وكانت الفتاة مؤمنة فتوسلت بالدعاء إلى الله، فتصور لها ” مار جرجس” وهو يركب حصاناً وفي يده حربة، وعندما خرج التنين برأسه من البحر، وذهب ليبتلع الفتاة، باغته ” مار جرجس ” فطعنه بحربته المسننة، فمات التنين في الحال.
وعرفانا من الحاكم والد الفتاة لـ “مار جرجس”، شيد كنيسة باسمه في الموضع الذي قتل فيه التنين.
القديس “مار جرجس” يقابله عند المسلمين نبي الله “الخَضِر” وهذا ما يفسر بناء “مسجد الخَضِر” على أنقاض الكنيسة في منطقة الكرنتينا على شاطئ بيروت في عهد الحاكم العثماني علي باشا عام 1661م .
ويعتبر اسم “جورج” المشهور لدى المسيحيين تعديلا أو اشتقاقاً من اسم “مار جرجس”، والأخير ، كلمة لا تينية معناها : الزارع ، أو من يجعل الأرض خضراء مثمرة.. وهو نفس معنى “الخَضِر” بالعربية، هو حارث الأرض، وهو نفس المعنى الذي يقدمه المسيحيون للاسم “جورج george “، ويضيفون صفات أخرى لحامل هذا الاسم ، منها:
أنه شخص متعاون، ويُحِبُّ مساعدة غيره من الأشخاص دون انتظار أي مقابل منهم.
يكره الحياة الروتينية المعروفة، ويسعى دائما إلى قضاء معظم أوقاته في التنقل والسفر.
يحب الاستماع للآخرين، ولديه قدرة هائلة على إقناعهم برأيه.
يمكن الاعتماد عليه، فهو يتحمل المسؤوليات بمفرده.
في القرن الثالث الميلادي، توصل أهل بيروت إلى اتفاق مع التنين الذي كان يستبيح المدينة بالكامل، بتقديمهم له فتاة جميلة كل عام، قبل أن يخلصهم منه القديس “مارجرجس”.
وفي القرن الحالي تشهد بيروت ” تنينا ” من نوع آخر، أكثر نهما وبشاعة من سابقه، إنه ” التنين السعودي ” تنين بهيئة صديق، لكنه يحمل كل السموم ويتكفل بالمهمة نيابة عن كل الأعداء الذين يتربصون بالمدينة وأهلها.
وما أحوج بيروت اليوم إلى “مارجرجس” إلى “جورج” إلى “الخَضِر” ليخلصها من وحشية التنين الجديد، التنين الذي لم يكتف بكل المحن والحروب والمجازر والفتن التي مرت بها بيروت، ولم يقبل بكل التنازلات والحلول والتسويات التي قدمتها بيروت.. ولا يزال مصرا على التهام بيروت ولبنان بالكامل.
لم يكتف التنين الجديد بجميلات لبنان، بل يستهدف صغارها وكبارها، نسائها ورجالها، ويبدأ بقاداتها.. يثير الفتن بين أحزابها، يحتجز رؤساءها، والويل لمن يعترض أو يرفع صوته .
سيل التنين السعودي قد بلغ الزبى، ولكن ما من شك أن لصبر اللبنانيين حدودا، وأن لكل عسر يسرا ، وتلك حكمة الله التي جُعلت.. لا يزال الموارنة اللبنانيون يحيون ذكرى الخَضِر ، ذكرى جورج ” مار جرجس ” في الـ 23 من أبريل من كل عام .
في موقفه الشجاع، أثبت الوزير اللبناني “جورج قرداحي ” أنه امتداد للخضر، لـ”مارجرجس”، فالوزير الذي يمن عليه بالمال السعودي، اختار الوقوف مع فقراء اليمن، وقف ضد التنين الذي يحرق اليمن ويعمل لإحراق بيروت ولبنان.
مهما كانت نتائج معركة جورج قرداحي مع التنين السعودي وتداعياتها، إلا أنه يبدو جليا أن لبنان دخل منعطفا جديدا ومحطة فاصلة، وهي بحسب الكاتب العربي عبدالباري عطوان “فترةً انتقاليّةً بين مرحلة الخُنوع للإملاءات الخارجيّة، والفساد والاستِجداء ومرحلة جديدة من النّهوض والصّحوة السياديّة، وكُل ما يتفرّع عنها من كرامةٍ وطنيّةٍ وعزّة نفس، المرحلة الأُولى انتهت ومعها كُلّ سلبيّاتها ورُموزها العَفِنَة، والثّانية بدأت ولن تتوقّف إلا ببزوغ فجر لبنان جديد بهُويّةٍ وطنيّةٍ جامعة.. والأيام بيننا “.