قمة الانقلاب الاستراتيجي في الإقليم (ج4)
أحمد عز الدين
ما جرى ويجري ليس إلا حركة عنيفة لمفردات متعددة في قطعة واحدة من استراتيجية مضادة ، على مقاس الإقليم العربي وتخومه الآسيوية والإفريقية ، وهي مفردات تحولت إلى قاطرات مندفعة تتعجل الوصول إلى شاطئها النهائي، بعد أن تم مد القضبان أمامها على الأرض بالطول والعرض ، لتحقيق ما تريده من انقلاب استراتيجي شامل في أوضاع الإقليم .
رغم ذلك فإن هناك أكثر من صيغة شائعة تطل على مشهد هذا الانقلاب من زوايا ضيقة وخادعة ، بعيدا حتى عن أولئك الذين اختاروا أن يكونوا وكلاء أمنيين لهذا الانقلاب ، بعد أن شاركوا في مد عظام الأمة قضبانا أمام قاطراته، وفي ملئها بالدم وقودا لحركته ، وقد اندمجوا في هذه الاستراتيجية بمزيج غريب من الخوف الغريزي ، والطمع الصارخ ، في الحصول على نصيب أكبر من كعكة الإقليم .
إن هناك صيغة أولى ، ترى أن دفع الضرر يتطلب الانكفاء على الذات ، وعدم اتخاذ موقف أو إجراء قد يمثل إعاقة واضحة لدوران عجلات الاستراتيجية ، طالما ظلت تحرث أرضا خارج كيانها الوطني ، وكأن ثمة إمكانية لنقل الأطراف بعيدا عن الحريق ، ونقل المساكن بعيدا عن الزلزال .
وهناك صيغة ثانية ، ترى أن ما يحدث يكاد أن يمثل اصطدام جرم سماوي بأرض الإقليم ، وهو أمر لا راد لقضائه ، ولذلك لا بديل عن اتباع استراتيجية ( التكيّف ) مع ما تحمله من نتائج وتخلفه من آثار ، تقليلا لنسبة الخسائر ، مع أنه من المؤكد أن استراتيجية ( التكيّف) شأنها شأن منطق ( الصفقة الواحدة ) قد أصبحت مستنفدة وغير منتجة .
وهناك صيغة ثالثة ، ترى أن موجة الضغوط الرئيسية سوف تقتصر على تحويل قضايا حقوق الإنسان إلى مدفعيات ثقيلة موجهة ، ولذلك فإن إدخال بعض التعديلات على مناخ الحياة السياسية العامة ، من شأنه أن يقلل من مساحة التعرض للنيران ، مع أن تصور أن قضايا حقوق الإنسان سوف تكون المصدر الوحيد للنيران ، هو بمثابة انتظار التهديدات الحقيقية فوق مسرح جانبي .
وهناك صيغة رابعة ، تستند إلى مفهوم اقتصاد السوق المأزوم بذاته ، بمقولة شائعة عن إمكانية تحويل الأزمة إلى فرصة ، مع أن الأمر يتجاوز الأزمة إلى المحنة .
وفيما أحسب ، فإن أيا من هذه الصيغ لن يكون صالحا للحفاظ على ما تبقى من النظام الإقليمي العربي ، فضلا عن كيان الدولة القومية ، ومبادئ السيادة داخل حدوده ، ذلك أن أبعاد الاستراتيجية المضادة في توجهها – الذي بدأ بالفتح الاستراتيجي لضرب العراق ، ثم تعددت صورها بعد ذلك وصولا إلى قمتها الأخيرة – إنما تعني موضوعيا إسقاط استراتيجيات الردع الوطنية
بعد ضرب أحد أركانها الثلاث ( وجود قوة رادعة – وجود إرادة وجاهزية لاستخدام القوة – النجاح في إقناع الخصم بتوفر الأمرين السابقين )، وإسقاط استراتيجيات الردع إنما يعني من بين ما يعنيه ، السماح بتحول الاستراتيجية المضادة إلى استراتيجية عليا حاكمة ، أو بتعبير أدق تحويلها إلى (استراتيجية قسر) وعندما يتم ذلك يتم الانتقال من حالة الأمن النسبي بين جانبين إلى حالة الأمن المطلق على جانب واحد ، مما يعني أن أي شيء على الخرائط الآن أو غدا أو بعد غد ، سوف يكون قابلا لأن يتحول إلى هدف .
إن إدراك الخطر لا يعني تجاهله ، ولا يعني الصمت عليه ، ولذلك لن تجد تفسيرا أوضح من قيام دولة واحدة ليست من دول الإقليم ، ولا حتى من تخومه المباشرة ، هي التي عبّرت عن إدراكها للخطر ، رغم أنها لا تقع على البحر الأحمر وإنما على المحيط الهندي ، أما مصدر الخطر فقد مثّله منح الإمارات قطعة من جزيرة سُقطرى اليمنية لحما وعظما ، لتقيم عليها مرافق عسكرية واستخبارية لتحليل الحركة الجوية والبحرية في جنوب البحر الأحمر ، (حسب تحديد موقع Forum الفرنسي – وحسب شهادة رئيس الموساد السابق)
أما الدولة فهي باكستان وأما السبب من منظور الأمن القومي الباكستاني ، وهو أن القاعدة الإسرائيلية فوق الجزيرة اليمنية ، ستمثل تهديدا مباشرا للمنطقة الاقتصادية الباكستانية ، رغم أنها تبعد عن هذه المنطقة مسافة 200 ميل بحري باتجاه جنوب بحر العرب ، وهو أمر كان له صدى حتى في الأروقة الأكاديمية الباكستانية ، فعندما طلب وزير خارجية السعودية من وزير خارجية باكستان أن يطلب من الحوثيين إيقاف تقدمهم جيشا ولجانا شعبية في مفصل حاكم للمواجهة وهو مارب
أصدرت جامعة (فورمان كريستيان كولدج ) في لاهور تقريرا أكاديميا وصف الحرب على اليمن بأنها ( معقدة ومدمرة ولها أبعاد إقليمية متعددة ) ووصف الدعوة التي تضمنها الطلب السعودي بأنها ( لا يُعرف القصد الحقيقي منها ) ، أما جوهر التقرير الذي عكس تقدير الموقف في حسابات الأمن القومي الباكستاني فكان من جملة واحدة (سُقطرى هي الخطر وليست مارب ) مع أن الأمر يبدو معكوسا عند دول الخليج ، وفي بعض زوايا الجامعة العربية : (مارب هي الخطر وليست سُقطرى ) .
غير أن مد القضبان أمام قاطرات الاستراتيجية الأمريكية في البحر الأحمر ، وحول تخومه ومن جانبيه ، لم يكن وليد هذه المرحلة
فقد بدأ مبكرا وتتابع بثبات ، فالوثيقة التي كشف عنها حزب ميرتس الإسرائيلي أشارت بوضوح إلى اتفاق سعودي إسرائيلي بخصوص باب المندب ، بل إن أول مذكرة وقعت بين الجانبين لتنظيم الملاحة في البحر الأحمر وقعت في عام 2014م ، وموقع القرن الأمريكي 21 هو الذي كشف عن لقاءات في الأردن بين السفيرين الإسرائيلي والسعودي تم بعدها إبلاغ إسرائيل بموافقة السعودية على منحها قاعدة في اليمن
وهي ليست القاعدة الإسرائيلية السابق الحديث عنها في سُقطرى ، ولا القاعدة الأمريكية السابق الحديث عنها في ميون على باب المندب ، ولكن مصادر أكدت أن تعز هي موقعها المختار ، بل أن هناك من ربط بين ذلك وبين السعي إلى فصل الساحل الغربي من اليمن ، وإقامة منطقة عازلة عاصمتها ( المخا ) تسيطر عليها كتائب من المرتزقة والإرهابيين والعملاء ، الذين جيشتهم الإمارات وألصقوا مؤخرا علم إسرائيل على قمصانهم، ثم محاصرة الكثافة السكانية لـ ( تعز ) في الجبال الداخلية لمناطق مثل (الحجرية ) و ( شرعب ) .
وإذا كان الأمر موصولا هذه المرة بالشاطئ الغربي لليمن خصوصا ، والغربي للبحر الأحمر عموما ، فينبغي أن يكون واضحا أن الهدف الأساسي للسيطرة على موانئ الحُديدة – المخا – عدن ، هو تمهيد لتغيير جيواستراتيجي ، ليس في اليمن وحدها ، ولكن في المنطقة كلها ، فالأهمية الاستراتيجية للحُديدة وحدها تكمن في أنها مركز الموانئ البحرية المقابل لميناء عصب الأريتري ، ومن يضع يده عليها ، يسيطر على الخط التهامي بطول 500 كم ، أما شبه جزيرة سيناء في إطار هذا الامتداد إقليميا ، فإنها لا تشكل القاعدة فحسب ولكنها القلب ، ولذلك فإن كل ما يجري حولها يستهدفها بشكل أو بآخر .
…. البقية في الجزء الخامس
كاتب صحفي مصري