حقيقة الديمقراطية الأمريكية المشوهة
إسكندر المريسي
الديمقراطية الأمريكية “تتألم” جراء الضربة الموجعة التي تلقتها في أحد أهم ركائزها، إثر اقتحام أنصار الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب ليل الأربعاء الماضي مبنى الكونغرس في موعد دستوري هام، كان بموجبه ممثلو الشعب في مجلسي النواب والشيوخ يعقدون جلسة المصادقة على فوز جو بايدن في السباق الرئاسي. وقتل في هذه الأحداث أربعة أشخاص، وتزداد المخاوف بعد هذه الأحداث مما يمكن أن يفعله ترامب خلال الأيام المتبقية له في البيت الأبيض، حيث من المفترض أن يسلم السلطة لبايدن في 20 من الشهر الجاري.
وفي مشهد شكّل “سابقة تاريخية” في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وفي لقطة اعتدنا على رؤيتها في دول العالم الثالث غالباً رأى العالم كيف أن حشوداً من أنصار الرئيس ترامب اقتحمت قاعة الكابيتول في مبنى الكونغرس، وتعد هذه سابقة تاريخية ليس فقط في رمزيتها، ولكن في تعبير المرشح والناخب الأمريكي عن رفضهما للنتائج عملياً، وأخذ رد فعل على الأرض، نتج عنه اشتباك عنيف مع الشرطة أدى إلى سقوط قتلى، وهو ما شكل صدمة لحلفاء واشنطن، وتحديداً في أوروبا.
وقد سارع الساسة الأمريكيون الذين عُرف عنهم الاختلاف حتى في مسائل الحرب، إلى الوقوف ضد ترامب وإصراره على رفض النتائج، ما شكل صورة تعبِّر عن مدى القلق الذي أحدثه رد الفعل غير المتوقع، حتى أن الرئيس الأسبق باراك أوباما اعتبر ما قام به ترامب “عاراً” على الأمة الأمريكية، بسبب الانجرار إلى دائرة العنف، وما نجم عنه من سقوط قتلى، ولكن، هل ما جرى يعتبر حدثاً عابراً وغريباً أم أنه أول مسمار في نعش النظام الديمقراطي الأمريكي؟
إن الناظر لتاريخ الولايات المتحدة يعلم أنها فرضت سطوتها على جيرانها في أمريكا الجنوبية وخصومها في أقصى الشرق إضافة إلى دول الشرق الأوسط، حيث عانوا جميعاً من رؤساء واشنطن وقرارتهم الهمجية وتحديداً العسكرية، كما اعتمدت السياسة الأمريكية في إطارها العام وعناوينها البارزة على تغذية عوامل الفرقة ودعم الديكتاتوريات كأشخاص والأنظمة القمعية كمؤسسات وأبرزها مؤسسة الجيش التي أصبحت العدو الأول لآمال الشعوب في التغيير.
وبالتالي فإن واشنطن ممثلة بمؤسساتها على اختلاف الرؤساء الذين مرّوا على المكتب البيضاوي أبقوا الديمقراطية الفعلية حكراً لهم، واكتفوا بتصدير مبادئ جامدة وشكلية للدول خارج حدود الولايات المتحدة، كما عملت على نبذ الاختلاف بمضمونه الجوهري وتشجيعه ظاهرياً؛ فالاختلاف مقبول طالما يسير في طريق رسمته أذرع الـ”سي آي إيه”، ومن هنا برز موقف الشعوب التي عانت من اضطهاد ساسة واشنطن وصانعي القرار هناك.
وعند التأمل فيما صنعته الإمبريالية وعملت على تكريسه من خلال دعم الطواغيت في سبيل استغلال ثروات البلدان يمكن تفسير كيف ساهمت في خلق أعداء من كل صوب للولايات المتحدة، وقد مثل صعود ترامب الوجه “الفجّ” للنظام الرأسمالي الذي لا يهمه سوي مصالحه المادية سبباً آخر لتنامي العداء لواشنطن، وحدوث الانقسام بأن رفض نحو 73 مليوناً الديمقراطية التي أتت بمن لا يمثل أفكارهم العنصرية ضد العرب والمسلمين والسود واللاتينيين وينادي بالحوار والتنوع.
وإلى جانب تصدع الجبهة الداخلية الأمريكية، فإن النظام العالمي لم يعد ذا قطب واحد، بل إن الساحة السياسية عادت إلى ما قبل الحرب الباردة حيث كان هناك ولايات متحدة واتحاد سوفييتي؛
فاليوم هناك قطب روسي وآخر صيني، إضافة إلى كيانات وقوى أصبحت تأخذ مركزها بعيداً عن النظام الذي رسمته وأرادته واشنطن مثل تركيا، وتحرر بريطانيا من قيود الاتحاد الأوروبي إضافة إلى تنامي الدور الإيراني في الإقليم الشرق أوسطي.
كما أن المتغيرات التي حدثت في المدة القصيرة الماضية شكلت تحدياً آخر أضيف إلى العقبات التي أصبحت تشكل طريقاً وعراً أبطأ سير القطار الأمريكي وأتاح المجال لآخرين لتجاوزه جزئياً، مثل تكنولوجيا الطائرات المسيَّرة التركية، أو الجيل الخامس من الاتصالات والإنترنت التي تتفوق فيها الصين، وليس آخراً منظومات الدفاع الروسية التي تسبق بمراحل نظيراتها الأمريكية، وغير ذلك فإن واشنطن رغم قوتها الآنية ومقدرتها على منافسة خصومها في الوقت الحاضر، فإن المدى البعيد ينذر بتقهقر إمبراطورية العم السام.
في النهاية، لقد اختار ترامب على عكس من سبقوه كشف أوراقه وبث أفكاره بدون حاجز وبلا مراعاة للمحرمات، وهو ما شكّل قوة دفع للأدرينالين في عروق العنصر الأبيض الكاره لكل أشكال الاختلاف، والنتيجة الحتمية التي تنتظر الولايات المتحدة بسبب نظامها الديمقراطي غير المقيد -ما لم تتم إعادة صياغته وتعريفه من جديد بحيث لا يسمح لأي كان بالوصول إلى السلطة- سيكون نبذ التنوع والسير على خُطى آخرين هدموا دولهم بعدما وصلت مرحلة الإمبراطورية مندفعين إلى تحقيق العدل الزائف لشعوبهم على حساب الشعوب الأخرى بمعول القوة المفرطة التي سرعان ما ترتد عليها وتتركها أثراً بعد عين.