الشهادة والشهداء (2)
حمود الأهنومي
لماذا لا يُغْسَل الشهيد ولا يكفَّن إلا بثيابه التي استشهد فيها!
يأتي الفقه الإسلامي ليؤكِّد أن هذا القتيل في سبيل الله شهيدٌ أي حاضر متحمِّل للشهادة، وأنه سيُدلي بشهادته أمام الحق في يوم الحق؛ فالفقه الإسلامي يأمرنا أن لا نُغسِّل الشهيد (وهو القتيل في المعركة)؛ لأنه لا يُغسَّل إلا ما كان نَجِسًا، لترتفع عنه النجاسة، أو حكمُها، والميّت هو مَنْ يُغَسَّل؛ لأن الميتة معدودة في النجاسات
وإلى النجاسة يتوجَّهُ وجوبُ التطهير والغسل، لكن الشهيد لم يَمُت، وليس بميتة، بل هو حاضرٌ، وحيٌّ، وطاهِر، ومَن كان حاضِرًا وطاهرا فلا يُغْسَل.
إن المنعَ من غسلِ الشهيد إمعانٌ في تأكيدِ حضورِه وحياته، وهو الذي يحسبه الكثيرُ أنه غادَرَ الحياةَ، أو أنه حلَّت به نجاسةُ الموت، والحقيقة أنه لا يزال حيا، والحيُّ لا ضرورةَ لغسله، وأنه اكتسب بالشهادة الطهارةَ التي ليس وراءها طهارة، ولا يجب غسلُ الطاهر، بل هذا الطاهر يحرُم غسلُه، إمعانا في تأكيد طهارته وحياته.
وأما أن يكفَّن في ثيابه التي قتِل فيها، وتُتْرَكَ آثارُ دمائه عليه، ليُبْعَث يوم القيامة كما هو حالُه حين مغادرته لتلك الحياة، فإن هذا أيضا تأكيدٌ أنه بالفعل حيٌّ حاضر، وأن الله أراد أن يَبْقَى الشهيدُ على تلك الحالة من آثار الدماء والجروح، وكل تلك المظاهر التي توحي بما كان عليه في الدنيا من موقف حق، وحضور في المعركة المقدسة؛ ليظهر يوم القيامة فيؤدي شهادتَه أيضا هناك قوليا، كما تحمَّلها في الدنيا عمليا، وإذا كان سيُدلي في المحكمة الإلهية الأخروية بشهادة المقال، فإن دماءه وجروحَه التي تشخَبُ دما، وتتضوّعُ مسكا، ستُدلي بشهادة الحال أيضا.
إنها شهادة الحال حين تُظافِر شهادة المقال، لتؤدِّي مفعولَها في الوجدان، وتتأكد الأحقية والمسؤولية، وتتبين عدالة القضية، التي انطلق فيها الشهيد ولقي الله بها.
ولا يبعد أن الشهيد سيظلُّ على تلك الحال حاضرا عند ربه، حيًّا خالدا، مرزوقا، مستبشِرا، مراقبا لما يجري وراءه من تطورات وأحداث، يبشِّر أهل موقفه بالأمن والسرور، ثم سيقدِّم شهادتَه أمام المولى تبارك وتعالى محدِّثا بكل التفاصيل.
لقد شدد القرآن الكريم أن الشهيد حيٌّ، فنهى عن القول بأن الشهداء أموات، وأكد أنهم أحياء وإنْ بدونِ شعورٍ حِسِّيٍّ منا بحياتهم، قال تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) [البقرة:154]، وفي الآيات الأخرى نهى الله تعالى عن حسبانِهم أمواتا، وأكَّد أنهم أحياء، بل عدَّد بعض مظاهر الحياة التي يَحيونها في مستقرِّهم الذي اختص الله به؛
إمعانا في تأكيد هذه الحقيقة التي يتجاهلها الكثير؛ قال تعالى:
(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:169- 171].
الآيات تبيّن:
– أن الشهيد لم يمُتْ، بل هو حاضِر وشاهد، والحضورُ هو معنىً من معاني الشهادة؛ وعليه فإن على أحبَّاء الشهيد وأقارِبِه أن لا يَحزنوا بسببِ فقدانه؛ لأنه في حقيقة الأمر حاضِرٌ شاهِدٌ لهم، مُطّلِعٌ على أخبارهم، ومراقِبٌ لكل أعمالِهم، التي تتَّصِلُ بقضيتِه العادلة التي قُتِل من أجلها، هذا من ناحية.
– من ناحية أُخْرَى بيَّنَتِ الآياتُ أنهم (أي الشهداء) عند ربهم، وهو أعلى وأجمل وأقوى وأفضل حضور، يمكن للمرء أن يتمناه، أو يرجوَه، وهو أيضا مظهرٌ آخَرُ يؤكِّدُ شهادةَ وحضورَ وعِلمَ هذا الذي قتِل في سبيل الله، فإذا كان قد قُتِل حين شهد الموقفَ الحق، فقد أكرمه الحق تبارك وتعالى بأن جعله حاضرا في حضرة الحق، وعلى مقرُبةٍ معنوية منه، ومن علمه، وآياته، واطلاعه.
– وبسبب قربهم من الله فإنه من المؤكّد أنه ستنالُهم بركة ذلك القرب، ومن مصاديق القرب أن ينال القريب من فواضل مُقرِّبِه، فالله هو الحي الذي لا يموت، لكنه ميز الشهيد بأن لا يموت كما يموت الآخرون، إلا ريثما ينتقل من هذه الدار إلى دار أخرى، والله على كل شيء شهيد، (إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (النساء:33) وهو الذي يمنح هؤلاء المقرَّبين منه شيئا من تلك الشهادة على الأشياء، ولعلها الشهادة لمَن وراءهم من رفقاء جهادهم،
والماضين على دربهم، حيث يمكنهم الاطلاعُ على مستجداتها، يدُلُّ على ذلك ما ذكرَتْه الآيةُ المباركة أنهم (يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم).
-وأنهم (يُرْزَقون) يضيف اللهُ ذكرَ نوعٍ من مظاهر الحياة التي يحياها الشهداء، حيث يبيّن أن حضورهم حضور مبارك متجدِّد بتجدُّدِ أنواعِ الرزق وأوقاته وظروفه، تجري عليهم الأرزاق، ومن المعروف أن الأرزاق لا تجري إلا على من كان حيا، حاضرا، وشاهدا.
-وأنهم (فرحين بما آتاهم الله من فضله)، وهنا جاءت (فرحين) حالا من واو الجماعة في (يرزقون)، والحالُ مبيِّنة لحال وهيئة صاحبها، أي أنهم تجري عليهم الأرزاق حال كونهم فرحين، وأن يرزق المرء وهو في حالة الفرح دائما فتلك هي قمَّةُ الحياةِ المطمئنَّة، وأوفاها، وأعظمُها، وأجملُها، وأصدقُها.
-وأنهم (يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم)، حيث أثبت الله لهم خاصية الاطلاع والنظر إلى ما وراءهم في الدنيا، فهم يعرفون ما الذي يحدث وراءهم، ويستبشرون، والاستبشار هو حصول البشارة لهم، أي أنهم فرِحون بانتصارهم الانتصار الشخصي، وهو الشهادة في سبيل الله، وهم أيضا مسرورون بحسن طريقة المجاهدين من خلفهم، وبأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
– ومعروف – نحويا – أن جملة (أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) بدلٌ من (الذين) الاسم الموصول في قوله: (الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم)، فكأنه قال: ويستبشرون بأن لا خوف على أولئك المجاهدين الذين خلَّفوهم وراءَهم على نفس الخط وذات المسار، ولا هم يحزنون، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وهذا يبين أنهم في أقوى حياة، وأقربها، حيث يطَّلِعون على ما بَعُد على كثير من أبناء الدنيا، فها نحن في الدنيا ممَّن نَغيب عن المعركة وعن المجاهدين، لا نعلم بكثيرٍ من المعارك، ولا بتفاصيلها، ولا بمآلاتها، لكن هؤلاء الشهداء الأحياء يطَّلعون على مُجْرَيات الأمورِ وتطوُّراتها.
وربما فَتَحت لهم يدُ العنايةِ الإلهية قنواتٍ مباشرةً يشاهدون من خلالها كلَّ تفاصيلِ ما خلَّفوه وراءهم، وهل ذلك إلا الحضور القوي والشهادة الفاعلة؟!
-كما بيَّنتِ السنةُ النبوية الصحيحة أن الشهيد أيضا حاضر، وقريبٌ من الحق تبارك وتعالى، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه الإمام زيدُ بنُ علي عن آبائه عليهم السلام في فضل الشهيد ودرجاته: (أنه ليس أحدٌ أقرب منزلا من عرش الرحمن من الشهداء)، وهذا أيضا يعزِّز ويؤكِّد حضورَ هؤلاءِ الكرامِ الحضورَ المعنويَّ لله الحق تبارك وتعالى، الحضور الذي سينعكس على نشاطهم، وأدائهم، فهم قريبون منه، مطَّلعون على تفاصيلِ ما خلَّفوه من جهادٍ ومجاهدين وأعداء، مراقبون لكل شيء.
الشهداء يدلون بشهادتهم في محكمة العدل الإلهية
الشهيدُ هو الذي حضر الموقف الحق حضور التضحية، وتحمَّلَ الشهادة في الدنيا بشكلها الواقعي، وهو الذي سيُدْلي بشهادته شهادة الحق والموقف في محكمة العدل الإلهية، يوم يقضي الله بين عباده المختلفين؛ يقول الله تعالى: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الزمر:69].
الشهادة معراج البسطاء إلى سماوات الفضل
إن الشهادة معراجُ الناس العاديين إلى سماوات الفضل، وهي جِسرُ البسطاء من الناس الذي يَصِل بهم إلى جوار الله الكريم رب السماوات والأرض، وإن فضل الله ونعمته اللذين يستبشِرُ بهما الشهداءُ هو أن الله هيَّأ للناس العاديين هذا الطريقَ الذي يصِلُ بهم إلى مقاماتٍ عالية تُجاورُ مقاماتِ الأنبياءِ والصديقين.
لقد ذكر الله في الكتاب العزيز – وهو يتحدث عن الجهاد في الله حق الجهاد – أنه جعل من هذه الأمة شهداءَ على الناس، مِثلَ ما جعل الرسول شهيدا عليهم؛ ذلك أن الجهادَ هو أسرع الطرقِ الموصلةِ إلى تلك المقامات العظيمة عند الله، والتأهل لمنزلة الشهادة؛ يقول الله تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج:78].
هذه الآيةُ تبيِّن أن هناك شهداءَ على الناس، جاء اللهُ بهم في سياقِ الجهاد في الله، ويمكن إطلاقُهم على أعلامِ الهدى من أهل بيتِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم بما تحمَّلوه من جهادٍ، وعناءٍ، وصبرٍ، ويقين، وإرشاد، كما يُمْكِن إطلاقُهم على أولئك الذين وهبوا أرواحهم في سبيل الله، وشهدوا على عدالة قضيتهم، وأحقيتها بدمائهم، وجروحهم.
وبهذا يتبيَّن أن (شهداء) في قوله تعالى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران:140]، هم شهداء المسؤولية، وشهداء الموقف الحق، والحضور الفاعل، الذين قتِلوا في سبيل الله، بدلالة اتخاذ الله لهم، واختياره إياهم، وكونِها جاءت في سياق ذكرِ الآلام والعناء الذي طال المسلمين في غزوة أحد، وفتحِ آفاق الآمال لديهم، بعد تلك الوقعة الأليمة.
قال فقيه القرآن السيد العلامة بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه: “وقوله تعالى: (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء) بما ينالون من فضل الجهاد في سبيل الله، وسبقهم في ذلك لغيرهم حتى يستحقوا أن يجعلهم الله شهداء على الناس، ولعل هذا هو المراد في قوله تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ … وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) …”، إلى أن قال رضوان الله عليه: “ولعل الذين قتلوا في سبيل الله سيكونون يوم القيامة شهداء على أعداء الله بما شاهدوا، ولأنصار دين الله بما شهدوه منهم، ولعلّهم سُمُّوا شهداءَ لذلك؛ فتفسيرُ القرآن بالمعنى الأصلي المُعَبَّر عنه في القرآن أظهر، كقوله تعالى: ({فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً) [النساء:41] ..”.
وفي قوله تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً) (النساء:69)، ذكر رضوان الله عليه أنه: “يُحْتمَل أنهم الشهداء على الناس، وقد مرَّ ذكرهم عند قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ..)، وهذا أظهر، ويحتمل: أنهم الذين قتلوا في سبيل الله، ولا يبعد أن سُمُّوا شهداء؛ لأنهم يشهدون على الناس، فيكون المعنى واحدا”.
الشهادة في اللغات والثقافات والأديان الأخرى
الشهادة أمرٌ معروفٌ لدى كثيرِ من الثقافات واللغات والأديان الأخرى، فالشهيد في اليهودية والنصرانية هو ذلك الشخصُ الذي يُعذَّب أو يُقْتَل في سبيل دينه، أو من أجل معتَقَدٍ من معتقداته، وتأخذ إلى حدٍّ كبير معنى التضحية والفداء.
ففي اللغة الإنجليزية على سبيل المثال، الشهادة (Martyrdom)، والشهيد هو (Martyr)، ويفسَّر في معاجم اللغة الإنجليزية بأنه الشخص الذي يُضَحِّي بنفسه، فيُقْتَل أو يُعَذَّب من أجل معتقداته الدينية، أو الإنسانية، أو القومية.
وتزعُم بعضُ تلك المعاجم أن أصل هذه الكلمة (Marter) مأخوذة من اللاتينية، والتي تعني الشاهد (the witness)، والشاهد هو الحاضر، الذي يَتَحَمَّلُ مضمونَ الشهادة التي سيدلي بها لاحقا؛