مقابر صرعى الاحتلال .. شهادات انتزاع الاستقلال
يمانيون – لم يكن وارداً استقبالهم بالورود ولا الرضوخ له كما القرود، قدر ما كان مؤكدا استقباله بقذائف البارود ونصال السيوف والجنابي وكل ما كان ممكنا من وسائل المقاومة والصمود. ذلك بالضبط ما فعله اليمنيون -وما يزالون- مع كل غاز أجنبي قادته أطماعه لغزو اليمن، فردوه على أعقابه مدحورا أو مسجياً في عميق اللحود.
شهادات دامغة
مَنْ يزور مدينة عدن، لابد أن يلحظ شهادات مادية دامغة لا تقبل التزوير، تقر بحقيقة أن استقلال جنوب اليمن وتحرره من قبضة الاحتلال البريطاني، لم يكن منحة منه أو هبة، بل انتزع عنوة من أنياب “الأسد البريطاني” ومخالبه، بقوة الثورة وبطولة الاستبسال في نضال التحرير المسلح، وليس فقط بقوة النضال السلمي أو الضغط الشعبي والسياسي.
كانت هذه الشهادات ولا تزال وستظل دامغة بقوة، في تقرير حقيقة أن تحرر جنوب اليمن وانتزاع استقلاله لم يكن بقرار انسحاب اضطرت لاتخاذه بريطانيا بفعل ضغط المجتمع الدولي، والمظاهرات والمفاوضات وعرض قضية الجنوب على الأمم المتحدة، كما يحاول البعض تصوير الأمر، في استغفال لواقع الحقيقية التي أكدها التعنت البريطاني.
لعل أبرز هذه الشهادات الماثلة حتى اليوم، قبور الضباط والعسكر والموظفين الإنجليز، التي تصدق أصوات شعرائنا المجلجلة، وأنها لم تكذب يوم صدحت تحرض للحق وتشحذ الهمم وتزين الحرية، فلم يكذب الشاعر الراحل محمد سعيد جرادة يوم توعد الغزاة، قائلاً : “سنحمل بالأيادي النفوس رخيصةً .. ونطلي جلود الحمر بالزفت والقار* ونتركهم جاثين في كل شارع .. كأعجاز نخل كبها عصف إعصار”.
حقق اليمنيون بالفعل ذاك الوعيد، ولكن مع تغيير بسيط هو أن من عناهم «جرادة» جاثين اليوم في قبور منسقة، يسميها أهالي عدن «مهالك»، سبق لي أن زرتها في نوفمبر 2002م، ومازالت حتى اليوم تهدي زائرها ذات الشعور ونفس اليقين بأنها ستظل بحق شهادات دامغة لا تقبل التزوير على أن استقلال جنوب اليمن انتزع بالقوة، تماماً كما كان الاحتلال بالقوة.
ما يؤكد ذلك، أن «مهالك» الإنجليز في عدن ليست واحدة ولا اثنتان، بل أربع مقابر رئيسة لمن تسميهم بريطانيا «شهداء الواجب»، ونسميهم نحن «غزاة» باعوا أعمارهم يوم قرروا وتجرأوا على غزو مدينة ليست لهم، أغرتهم ثرواتها يوماً وتوهموا أنها ستكون لهم أبد الدهر، فأفاقوا على رفض كان لابد له أن يتفجر في نضال لا يعرف اليأس ولا الاحتواء، ولا يدرك غير الاستقلال هدفاً ومستقراً.
صرعى الاقتحام
كان ميلاد هذا النضال منذ أول يوم، يوم اقتحام قوات الإمبراطورية التي صارت بعده لا تغيب الشمس عن أراضيها، لمدينة عدن، وكان على بريطانيا أن تفكر في مأوى لقتلاها .. فكانت أول مقبرة للإنجليز في مديرية «كريتر عدن»، مدينة عدن الأصلية آنذاك.
تقع هذه المقبرة اليوم، في حي مجمع البنوك، شرق أول كنيسة تقام في العصر الحديث للمسيحيين في شبة الجزيرة العربية.. وقد تكون هذه المقبرة أصغر مقابر صرعى الإنجليز في عدن، لكنها تعني الكثير للبريطانيين واليمنيين على السواء.
في هذه المقبرة “ترقد رفاة 13 ضابطاً وجندياً هنديا بريطانيا قادوا عملية اقتحام مدينة عدن، فلقوا حتفهم طعناً بسكاكين وخناجر أهل المدينة، الذين دافعوا ببسالة عن مدينتهم” حسبما أكد لي أستاذ التاريخ في جامعة عدن أ.د.شايف عبده سعيد.
قُتل هؤلاء الثلاثة عشر غازياً – وفي بعض المصادر قيل ثلاثة فقط – دفعة واحدة في يوم اقتحامهم عدن القديمة «جزيرة صيرة»، الموافق 19 يناير العام 1939م، فكانت أولى فجائع بريطانيا.
ولأن بريطانيا لم تكن تتوقع تلك البطولات من قوم حسبتهم حثالة صيادين بسطاء لا حول لهم ولا قوة، فقد كان مصرع هؤلاء الجنود والضباط، ثلاثة كانوا أو 13 هندياً بريطانياً، بمثابة كارثة كبرى بالنسبة لها!!.
لذلك حرصت بريطانيا، وهي صارت «الإمبراطورية العظمى التي لا تغيب عنها الشمس» باتساع رقعة مستعمراتها، تلك التي كانت لها بما فيها القارتين الأمريكيتين، حرصت على تخليد «شهداء أطماعها» ودفنهم في مكان عليا.
كان هذا التخليد أول ما فعلته بريطانيا بعدما وطأت أقدامها مدينة عدن، فشيدت نصباً تذكرياً لهم جوار كنيسة القديسة ماريا (مريم العذراء) التي اكتمل بناؤها لاحقاً في العام 1871م على التل المعروف «الجبل الأخضر» وعند العامة «جبل البادري» نسبة إلى التسمية المحلية للراهب «بادري».
ما زال شاهد تخليد هؤلاء منتصباً هناك أسفل التل، وفيه تقول ترجمة ما بقي من حروف خطه سليمة : «للذكرى.. هذا نصب فرسان بومباي الأوائل الشجعان الذين سقطوا في احتلال عدن سنة 1839 وقتلوا،… الخ».
كانت الغلبة وبمنطق فارق العدة والعتاد، والحيلة والخداع، للإنجليز بالطبع، فتسنى لهم تنفيذ اقتحام مزدوج لعدن من جهة البحر (صيرة) ومن جهة البر (باب عدن)، بخلاف ما اعتادته المدينة وآلفته في تصديها للطامعين على مر العصور.
مقاومة متواصلة
لم تفتر حِمية أبناء عدن وبقوا يقاومون الاحتلال بكل أنفة وعزة ورثوها عن أجدادهم السبئيين والقتبانيين والأوسانيين والريدانيين والحميريين، وبكل نخوة عروبية بذرها في دمائهم جدهم يعرب بن قحطان، جد العرب كلهم.
سقط الكثير من الشهداء اليمنيين في ملحمة التصدي للغزاة، بعد أن خذلتهم عدتهم وعتادهم، واستخدموا بعد أسرهم وتجريدهم بنادقهم، جنابيهم وطعنوا بها عددا من الغزاة، ضاربين مثالاً عظيماً «ومدهشاً في الاستبسال والشراسة» بشهادة قائد الاحتلال الكابتن هينس.
ظلت دماء هؤلاء الشهداء اليمنيين وقوداً للثأر المزدوج: ثأر الدم وثأر الأرض.. فسقط الكثير من الإنجليز صرعى النضال اليمني، الذي استمر وفق المصادر البريطانية نفسها، عنيفاً وعنيداً بتضافر جهود جميع مناطق لحج وأبين المجاورة لمدينة عدن.
استمر هذا النضال بذات القوة، انتفاضة تنجب أخرى، وحملة تنجب حملة، لم ينحصر تحريكها وانطلاقها وقواتها على مناطق جنوب اليمن فقط، بل ومن شمال اليمن أيضاً، باتفاق المصادر اليمنية والعربية والأجنبية.
تواصلت الحملات والانتفاضات، حتى بعد تعزيز الانجليز سريعا تحصينات عدن الجبلية والعسكرية الدفاعية من جهة البر الذي يصلها كالحبل السري بالوطن الأم اليمن، وتقوية استحكاماتها بالمدافع الحديثة والقوات العديدة.
رغم هذا العائق الذي ظل يحول دون نجاح تلك الانتفاضات والحملات اليمنية في استعادة عدن وتحريرها بحسب المؤرخين سلطان ناجي وعبد الله محيرز؛ إلا أن المقاومة اليمنية للغزاة نجحت في قتل كثير من جنودهم وضباطهم.
لم يهدأ أوار المقاومة اليمنية، حتى بعد ترسيم الاحتلالين البريطاني والتركي لليمن، حدود ما يقع تحت قبضتيهما وتوقيعهما عام 1915م، اتفاقية قضت بفرض أول تشطير سياسي لليمن في التاريخ، إلى يمن شمالي وآخر جنوبي.
ظل شطرا اليمن يشهدان انتفاضات وثورات متعاقبة ضد المحتلين التركي والبريطاني، حتى بعد أن نجح المحتل البريطاني في تجزئة شطر اليمن الجنوبي إلى 23 سلطنة وإمارة ومشيخة، بإعمال منهج «فرق تسد» فيما بينها، لضمان تسيده عليها.
مع ذلك، وبفعل جنسية هذا الاحتلال الأجنبي التي تكسبه عداء أكبر من اليمنيين، بوصفه شعبيا «إفرنجي كافر»؛ كان طبيعياً أن تستمر المقاومة الباسلة ولو بعمليات فردية ودرجات متفاوتة بين شديدة وفاترة.
لكنها في المحصلة لم تعرف الهوان ولا اليأس، وتباعاً فقد ظل الغزاة يتساقطون صرعى، واحداً تلو أخر، وظلت مقابرهم تتعدد وتتسع، ولسان حالها كما جهنم في نهم التهام الضالين والظالمين: «هل من مزيد؟».
مقبرة الرعايا
تابعت قوات الاحتلال تثبيت أقدامها وتحصيناتها العسكرية، وتطبيع العلاقات مع حكام الداخل وفق قاعدة «فرق تسد» وتبادل الاعتراف بالشرعية، واستطاعت الاستحواذ على ما جاور عدن من مناطق، لتجعل منها جيوبا تؤمن عدن، الميناء الكوني.
لم تكد تمضي 17 سنة على الاحتلال حتى بدأ التفكير في مقبرة تسع رعاياه وجنوده وضباطه، فأسس السير «جونتري فاسكس» مقبرة ثانية للإنجليز في عدن، حسب نائب مدير إدارة الآثار الأسبق نجيب الدبعي.
أنشئت هذه المقبرة عام 1856م في مديرية التواهي، وتحديداً في منطقة «فتح»، جوار مستشفى القوات المسلحة البريطانية سابقاً «باصهيب» حالياً. وجاءت أكبر مساحة من سابقتها بكثير جداً.
جاورت هذه المقبرة، ما عرف بسجن «فتح» الذي كان يستقبل الثوار والمناضلين ويدفنهم أحياء داخل كهوف نحتت في جبل عرف باسم «طارشين»، فكان الداخل إليها في حكم المفقود، والخارج منها مولود، ولكن بشعر شائب أبيض وجسد هزيل هده الكبر ولم يبق فيه الوهن ما يُخشى منه.
لا تحظ هذه المقبرة بين أوساط الأهالي اليوم بذات شهرة مقابر الإنجليز الأخرى في عدن، رغم أنها قديمة وبها أطلال أضرحة يعود تاريخها إلى العام 1856 م، وبها أول موتى عائلات الإنجليز العسكريين والمدنيين أيضاً.
القفز من على جدار بارتفاع مترين أو أقل، ضرورة لبلوغ هذه المقبرة، فهو المدخل الوحيد إليها اليوم بعد حاصرها البناء العشوائي وهناجر كبيرة وكثيرة يقول نجيب الدبعي أنها كانت من أصل المقبرة وشيدت على قبورها.
ليس يسيراً الاهتداء إلى هذه المقبرة بلا دليل أو مرشد متقدم في العمر بالضرورة، بينما تمييزها يكون سهلاً فقط إن كان من الجو أو فوق جبل مقابل، إذ وحدها اليوم هي المساحة الشاغرة في المنطقة.
عند زيارتي لهذه المقبرة، بدا لافتاً أن شواهد معظم أضرحتها الرخامية مكسورة منثورة هنا وهناك، على اختلاف ألوانها الرمادية والبيضاء والحمراء والسوداء والزرقاء أيضاً، وأجزاء منها أصبحت علامات لحدود ميدان ومرميّ ملعب ترابي لأطفال الحي!.
يبعث المشهد على التساؤل عن سر إهمال الحكومة البريطانية لهذه المقبرة بالذات وعدم اشتمالها بالرعاية ذاتها التي لغيرها من مقابر الإنجليز، فلا سور لها ولها حارس ولا بستاني، ولا أي شيء عدا شجرة كبيرة كثيفة الأوراق تظلل وربما تحجب الرؤيا عن ما تبقى من قبور سليمة شواهدها حتى اليوم.
لكنك حين تحاول ترجمة نصوص تلك الشواهد، تجد ما يدعوك للاعتقاد أنه سبب الإهمال، فعلى ضريح من الرخام الرمادي، كُتب ما ترجمته:«ضريح الشابة الجميلة التي كرهت الحياة في عدن فانتحرت»!!.
تتساءل مجدداً، هل كان هؤلاء جميعهم من ذوي الرتب الدنيا، ممن لا مصالح خاصة لهم في عدن، وعمدت سلطات الاحتلال على استقدامهم وكان تواجدهم فيها «إلزامياً» في وظائف حكومية، مثلاً.. الله أعلم؟!!.
مدنية هذه المقبرة، تأكدت لنا من خلال معاينة كتابات أضرحة قبورها، ومنها شاهدان مثلثان بارتفاع ثلاثة أمتار أحدهما من الرخام الأسود والآخر الأزرق الغامق، ينتصبان على ضريحي اثنين من قساوسة المسيحيين (الباباوات).
يبقى أبرز ما يميز هذه المقبرة، المهملة، هو أنها غدت تحاكي مقابر المسلمين، إذ لم يعد أي صليب منتصباً على أي ضريح من أضرحتها، إلا ما كان منها منحوتاً في أصل قاعدة أو سقف الضريح!.
ومقبرة الألف !!
وعلى عكس حال هذه المقبرة البائسة، تبدو حال ثالث مقابر الإنجليز في عدن، النقيض تماماً .. ونعني تلك الواقعة في مديرية «المعلا» وتحديداً في حي يسمى «القلوعة» أو «حافون» سابقاً؛ تظهر للعيان مقبرة مرتبة ومصممة سلفاً لأن تكون كذلك.
تتقدم أضرحة هذه المقبرة أرقام تسلسلية، وبها مئات العسكريين الإنجليز بين صف ضباط قلدتهم ملكة بريطانيا لقب «السير»، وصف أفراد (جنود)، لقي بعضهم مصرعهم فرادا، وأعداد أخرى لقيت مصرعها دفعة واحدة.
أخبرنا بذلك أستاذ التاريخ في جامعة عدن أ.د.شايف عبده سعيد، حين التقينا به في نوفمبر 2002م. موضحاً أن عدداً كبيراً من رفات الجنود والضباط الإنجليز بهذه المقبرة، سقطوا خلال فترة الحربين العالميتين.
البروفيسور شايف، أكد أن عدن منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914م وحتى انطفاء أوار الحرب العالمية الثانية عام 1945م، ظلت تتعرض للقصف من إيطاليا وقوات معسكر دول «المحور» في الأولى، ودول المعسكر الشرقي في الثانية، لا لشيء عدا أنها “مستعمرة للتاج البريطاني” وقاعدة عسكرية رئيسة للإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط.
لا يعني ذلك أن هذه المقبرة تخلو من قبور أقدم للإنجليز، فهناك أيضاً أضرحة يعود تاريخها إلى العام 1895م، وأضرحة إنجليز مدنيين من ذوي عائلات العسكريين والتجار الذين سال لعابهم كثيراً وشمروا سواعدهم حتى مناكبهم فغزوا عدن واحتكروا خيراتها وموقعها، فكانوا وسيلة تحقيق غاية احتلال عدن أولاً ثم تحويلها إلى “مستعمرة للتاج البريطاني.
”الثورة – إبراهيم الحكيم