٣٠ نوفمبر .. ثمرة لنضالات اليمنيين وتلاحمهم وواحدية مشروعهم
يمانيون – يذكر الباحث الدكتور / سلطان عبد العزيز المعمري في دراسته الموسومة ب ( الاحتلال البريطاني ومراحل المقاومة الوطنية اليمنية ) انه في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي أصيبت اليمن عموما بالتفكك السياسي وكان الجزء الجنوبي منها يتكون من عدة دويلات وإمارات ومشيخات عشائرية – إقطاعية – تعاني فيما بينها جملة من الخصومات والعداوات والصدامات المسلحة .
ونجد أن هذه الحالة تشبه ما يحدث اليوم من صراعات وانقسامات داخل الجزء الجنوبي من الوطن نتيجة للتدخلات الاستعمارية الجديدة أمريكا وإسرائيل واذرعها ( الإمارات والسعودية ) تحت ذريعة إعادة ما يسمى زوراً السلطة الشرعية .
لقد هيأت تلك الظروف المذكورة سابقا إلى التنافس الاستعماري للسيطرة والتحكم بموقع اليمن فكانت بريطانيا الاستعمارية هي السباقة في احتلال الشطر الجنوبي من الوطن اليمني عبر اتباعها جملة من الخطوات والتدابير الملتوية . ويتفق المؤرخون اليمنيون والعرب والأجانب أن الاهتمامات البريطانية بالمنطقة اليمنية كما يقول الدكتور/ المعمري تعود إلى بداية القرن السابع عشر كجزء من المنافسة التجارية مع الأوربيين وتحديدا البرتغاليين والهولنديين …
وفي سبيل التهيئة لاحتلال عدن، عقدت بريطانيا في العام 1802 م مع سلطان لحج المالك حينها لميناء عدن أول اتفاقية تجارية ، أصبح ميناء عدن بمقتضى تلك الاتفاقية مفتوحا أمام الاتجار بالبضائع البريطانية ، كما ضمنت بريطانيا بموجبها حماية خاصة لرعاياها وكذلك سمح لهم بتأسيس وكالة تجارية بعدن .. وتعد تلك الاتفاقية نقطة البداية للتدخل البريطاني المباشر في الشؤون الداخلية لعدن .
بعد اندلاع الحرب البريطانية الأمريكية خلال عام 1813 – 1814 م عاودت بريطانيا اهتمامها من جديد بعدن ، كما شكل اكتشاف البخار في أواخر العشرينات من القرن التاسع عشر عاملا آخر في انتعاش الأطماع البريطانية في عدن لامتلاكها واستخدامها كمحطة لتمويل سفنها بالفحم إلى جانب أن ميناء عدن يحتل موقعا هاما في منتصف الطرق بين بومباي والسويس .
لقد كان الكبتن هنس الرجل الأكثر حماسا في إقناع حكومته بالاستيلاء على عدن بقوله ” وان هذا المرفأ العظيم يمتلك من القدرات والإمكانات ما لا يملكه ميناء آخر في الجزيرة العربية ” .
ويمضي هنس فيقول : وان ازدهاره أي ميناء عدن لا شك في انه يقضي على ميناء المخاء وبقية مواني البحر الأحمر، فهو يحتل مركزا تجاريا ممتازا لا شك أنه أنسب الموانئ الموجودة لمواصلات الإمبراطورية البريطانية عبر البحر الأحمر، وهو بوضعه الحالي صالح لاستقبال البواخر وتموينها في كل فصول السنة .
أطماع مستعمر
لقد شكل الموقع الاستراتيجي لمدينة عدن وكذلك العوامل المذكورة سابقا دافعا رئيسيا لسعي هنس بإرسال قوات عسكرية لإخضاع عدن واحتلالها بالقوة ..
لكن تلك التهديدات لم تخف الجماهير اليمنية التي أبلغت هنس وبكل ثقة وشجاعة أنها لن تتنازل عن أي شبر من أراضيها الوطنية وأنها ستقاوم حتى النفس الأخير وتوعدته بأنها ستقطع رأسه وتعلقه على باب عدن اذا ما أصر على التمادي في تنفيذ تهديداته تلك .
فكانت البداية في ٢٠ نوفمبر ١٨٣٨ حين أخذ اليمنيون يصوبون طلقاتهم النارية على سفينة الكابتن هنس وزوارقها الاستكشافية. وعقب المناوشات المتقطعة بين قوات الجانبين بدأ هنس يفرض الحصار على عدن كخطوة أولية بانتظار وصول تعزيزات عسكرية من بومباي ليتمكن من ضرب المدينة والاستيلاء عليها بالقوة العسكرية .
الاحتلال وبداية المقاومة
في يوم ١٨ ديسمبر ١٨٣٨ م وصلت إلى المياه الإقليمية اليمنية الجنوبية قادمتين من بومباي سفينتان حربيتان مزودتان بطاقمين من المدفعية ثم أعقبها وصول بقية القوة يوم ١٦ يناير ١٨٣٩ م .
وعلى الفور بدأت قيادة القوات البريطانية حينها تخطط لعملية إنزال في الخليج الأمامي لكريتر إلا أن المقاومة اليمنية الشديدة لم تمكنها من إنزال مدافعها هناك ..
وفي اليوم التالي أبحر الكابتن سميث على رأس حملة عسكرية حول خليج عدن. وما أن وصل بالقرب من جزيرة صيرة حتى أخذ أفراد المقاومة اليمنية يطلقون نيران بنادقهم ومدافعهم بشكل مكثف على القوات الغازية حتى ارغمتها على العودة والإرساء بقية الليل في الخليج .
ومع صبيحة يوم ١٩ يناير ١٨٣٩ م قامت القوات الغازية بإنزال فرقتين من قواتها حول جزيرة صيرة وبعد أن تمكنت السفن الحربية البريطانية المهاجمة من أخذ مواقعها في الجزيرة وحول قلعتها بدأت بإطلاق نيرانها الكثيفة على القلعة وتحصيناتها المتينة التي كان يوجد فيها أفراد المقاومة اليمنية ومعهم اثنا عشر مدفعا، فاستمر تبادل إطلاق النار في معركة غير متكافئة من حيث العدد والإمكانيات
أظهر خلالها اليمنيون مقاومة واستبسالا عنيفين وشجاعة وطنية نادرة في معركتهم القتالية ضد قوات الاحتلال البريطاني شهد لهم بها العدو قبل الصديق وهو ما لم يمكن القوات الاستعمارية الغازية من الاستيلاء على القلعة إلا بعد أن نفذت ذخائر أفراد المقاومة اليمنية ووقوع ١٢٩ فردا من أبطال المقاومة الشعبية أسرى في أيدي قوات الاحتلال الأجنبي ، وبالرغم من ذلك رفض الأسرى تسليم سلاحهم الأبيض واشتبكوا مع ضباط وجنود الاحتلال الذين أرادوا تجريدهم بالقوة فقتل أبطال المقاومة ضابطا وأربعة أفراد آخرين من البريطانيين طعنا بخناجرهم ، وكان الرد البريطاني تجاه الأسرى العزل من السلاح عنيفا ..
حيث قام بقية الجنود البريطانيين بإطلاق النار وقتلوا اثني عشر أسيرا من أبطال المقاومة اليمنية ، فيما تكبدت القوات الغازية ١٥ فردا قتلى وجرحى .
وإجمالا كانت خسائر المقاومة اليمنية في هذه المعركة ١٣٩ شهيدا دفاعا عن عدن وأعداداً كبيرة من الجرحى والأسرى ، وهو ما يؤكد شراسة المعركة وهمجية قولت الاحتلال وشجاعة واستبسال الوطنيين اليمنيين المدافعين عن عدن .
عزيمة وإصرار
ويشير المعمري في دراسته عن المقاومة اليمنية إلى أنه بالرغم من الهزيمة العسكرية التي منيت بها المقاومة المدافعة عن المدينة وسيطرة القوات الغازية على عدن فإن المقاومة للاحتلال لم تتوقف بل اتخذت طابعا وطورا آخرين لمواجهة المشاريع والسياسات الاقتصادية والإدارية والعسكرية التي بدأت السلطات الاستعمارية تنفيذها في المدينة والمتمثلة في بناء التحصينات العسكرية للمدينة وفي تغيير التركيب الديمغرافي لها وفي انتهاج سياسة توظيفية معادية للسكان اليمنيين وسياسة كسب ولاء القبائل اليمنية في الأرياف عن طريق الترغيب ودفع المرتبات الشهرية والسنوية لسلاطين ومشائخ المناطق وعقد المعاهدات والاتفاقيات الانفرادية معهم .
يسجل تاريخ المقاومة اليمنية أن من أولى أشكالها بعد احتلال عدن تلك التي قامت بها في نوفمبر ١٨٣٩ م قبائل العبدلي والفضلي التي بدأت تعد نفسها للهجوم على عدن والزحف نحوها ومهاجمة المراكز البريطانية.
كما كان من المقرر قيام قبائل العبدلي والفضلي بهجوم آخر لكنه لم يتم بسبب معرفة السلطات البريطانية باجتماع القبائل وقرارهم لذلك الهجوم ، فبادرت قوات الاحتلال بفرض الحصار على شقرة وقصفها بالمدافع قبل الوقت المحدد لهجوم القبائل .
كررت المقاومة هجومها على مدينة عدن ونجحت حينها في السيطرة على جبل حديد ومنه أخذ المقاتلون يوجهون نيرانهم على القلعة والسفن الحربية واستولوا على محتويات المخيمات للقوات البريطانية، وبالرغم من خسائر المهاجمين فقد قامت القوات العبدلية بالزحف من جديد على عدن حتى وصلت منطقة العقبة الواقعة بمحاذاة من جبل حديد فيما كانت في الوقت نفسه المعركة قائمة بين قوات قبيلة الفضلي وقوات الاحتلال . كما استطاعت بعض القوات اللحجية الوصول إلى محاذاة الخطوط الدفاعية البريطانية حول عدن وقامت بضرب حرس الحامية بالنيران .
من الواضح أن المقاومة قدمت في كل تلك المحاولات والهجمات على عدن ومراكز قوات الاحتلال الكثير من الشهداء والجرحى إلى جانب أنها كبدت المستعمر البريطاني خسائر كبيرة في الأرواح بين قتلى وجرحى مما أثار الخوف والفزع في أوساط الضباط والجنود البريطانيين.
ويؤكد تاريخ المقاومة اليمنية للاحتلال البريطاني أنها لم تنحصر فقط بتلك القبائل المجاورة لعدن بل إنها امتدت لتشمل معظم القبائل اليمنية الأخرى في وسط اليمن وشماله وغربه والدليل على ذلك مواقف حاكم المخاء وطلب علي بن منصور عام ١٨٤٤ م من سلطان لحج الانضمام إلى الجهاد المقدس في سبيل طرد الإنجليز من عدن وقيامه بقيادة جيوشه المقاتلة من صنعاء حتى وصلت لحج .
صور بطولية
عرفت المسيرة النضالية للمقاومة اليمنية ضد المستعمر بالعديد من الأعمال الفدائية البطولية للمواطنين ، منها ما قام به فريق من سكان بير أحمد ضد بعض الجنود البريطانيين حين تمكنوا من قتل جندي وإصابة آخر
وكذا العملية الفدائية التي قام المواطن أبو بكر وقتل أحد البحارة الإنجليز واستشهد الفدائي في نفس المكان . كما قام مواطن يدعى حسين من قرية الوهط بقتل الكابتن ميلين ، وأيضا في العام نفسه قام فدائي مسلح من بير أحمد بالتسلل إلى كريتر بقصد قتل الكابتن هنس وأثناء سير الفدائي بالطريق صادف ضابطاً بريطانياً آخر فهجم عليه محاولا قتله لكنه لم يوفق .
استمرت المقاومة اليمنية وبأشكال مختلفة لتتوقف مؤقتا بعد أن تمكن المقيمون السياسيون البريطانيون المتعاقبون بعدن من كسب ولاء القبائل في المناطق الجنوبية اليمنية من خلال عقدهم للمعاهدات والاتفاقيات الانفرادية مع سلاطينها وامرائها ومشائخها وهي التي عرفت بمعاهدات أو اتفاقيات الصداقة والسلام ( الحماية ) . وبهذه الطرق استطاعت السلطات الاستعمارية البريطانية استكمال سيطرتها واحتلالها لأراضي ومناطق الشطر الجنوبي من الوطن اليمني .
تعزيز السيطرة
وفي سبيل حماية وجودها في المنطقة عملت الإدارة البريطانية على تعزيز قواتها العسكرية لذلك تم في عام ١٩٢٨م وضع قوات السلاح الجوي البريطاني في عدن إلى جانب تشكيل قوات مشاة جيش ( الليوي ) من أفراد القبائل بتمويل لحكومة البريطانية العسكرية .
إلى ذلك تم في العام ١٩٣٧ م إعلان الشطر الجنوبي من الوطن اليمني مستعمرة تابعة للتاج البريطاني. بمعنى آخر انه بدءا من ذلك العام أصبحت البلاد وحتى عشية الاستقلال الوطني عام ١٩٦٧ م تدار مركزيا من قبل وزارة المستعمرات البريطانية في لندن .
لقد كرست بريطانيا سياستها في جنوب الوطن اليمني سابقا لفرض نظام الحماية على جميع الحكام في السلطنات والمشيخات وفي هذا السبيل تمكنت الحكومة البريطانية عبر ممثليها بعدن من عقد إحدى وثلاثين معاهدة للحماية وحوالي تسعين اتفاقا حدد مقتضاها علاقات السلطنات والمشيخات في المنطقة مع بريطانيا .
واعيد تقسيمها إلى : محمية عدن الغربية وضمت : سلطنة لحج مشيخة العلوي ، إمارة الضالع مشيخة العقربي ، سلطنتي العوالق السفلى والعوالق العليا ، مشيخة العوالق العليا ، إمارة بيحان ، سلطنة الحوشبي ، سلطنتي يافع العليا ويافع السفلى ، مشيخة الشعيب منطقة القظيبي التابعة للضالع ، إلى جانب خمس مشيخات صغيرة في منطقة يافع العليا .
ومحمية عدن الشرقية : وضمت سلطنة الشحر والمكلا ، القعيطي ، سلطنة الكثيري ، السلطنة المهرية في قشن وسقطرى وسلطنتي الواحدي .
لم يكتف المحتل الإنجليزي بأسلوب عقد معاهدات الحماية لاخضاع المنطقة فقط ، لذلك قامت السلطات البريطانية بعقد نوع آخر من أنواع المعاهدات عرفت ب ( معاهدات الاستشارة ) فكانت الأولى منها مع السلطان القعيطي ، وقبل ذلك اعتمدت بريطانيا فكرة توحيد دول وسلطنات ومشيخات وإمارات جنوب شبه الجزيرة العربية في اتحاد فيدرالي يكون تابعا لبريطانيا .
وفي سبيل تحقيق أهداف تلك الخطة أتبعت السلطة البريطانية أساليب الترغيب والتهديد والوعيد فكانت إحدى الخطوات في هذا الاتجاه هي الإطاحة بسلطان لحج الذي أعلن تمرده على السلطات الاستعمارية .
نضال فكري اقتصادي سياسي
شهدت المرحلة الثانية للمقاومة الوطنية اليمنية اشتداد النضال السياسي والفكري والاقتصادي ضد التواجد الاستعماري والشركات الاحتكارية والمحلية المرتبطة بهما فيما عبر شعبنا اليمني في المناطق الجنوبية عن رفضه ومقاومته للاحتلال منذ بداياته الأولى وباشكال مختلفة .
حيث شهدت المناطق الجنوبية حركات جماهيرية كبيرة مثل انتفاضة الفلاحين في حضرموت ، كما شهدت منطقة ردفان حركات ومحاولات نضالية قامت بها القبائل إلى جانب ما قام به فلاح.