ثورة 21 سبتمبر.. بين إرادة التغيير ومصاعب التغيير
عبدالملك العجري
من القضايا الإشكالية أو التي هي مثار جدل كلامي المنجز الثوري لثورة سبتمبر 2014م إذ وصل الأمر عند البعض حد الجحود التام وتعدى النقد المقبول. إلى إرهاق الثورة بـ “الماينبغيات”، ولومها على ما يعتقدونه قصوراً أو تقصيراً في التحقيق الكلي المتزامن لأهداف ووعود 21 سبتمبر من إصلاح شامل إداري وسياسي ومكافحة الفساد وبناء مؤسسات دولة المواطنة.
هناك فريق لديه موقف ثابت من الثورات عموماً أو موقف دوغمائي جامد أو عدائي من ثورة 21سبتمبر، أو من أنصار اللــه لا يتزحزح، وغير قابل للنقاش، والبرهنة. وفريق آخر لديه موقف مرن ومزاجي انتقائي غير عدائي ويرى أن هناك تناقضاً بين الخطاب والممارسة وبين المتوقع والحاصل بالفعل، أو هو بالأساس مناصر للثورة، ولكنه محبط من نتائجها.
الفريق الأول: الأيام كفيلة بإقناعه، أما الفريق الأخير: فيكفي لتبديد غبش رؤيته كلام يصدق على كل الثورات، للمفكر والكاتب السياسي الكبير محمد حسنين هيكل عن طبيعة الثورات والتناقضات التي ترثها وتواجهها، يقول هيكل: ” إن الثورة – الثورة عموماً – قضية معقدة. وأشبه ما تكون بعملية انفجار هائلة، تجيء بعد أن يكون شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، قد تحملوا بأكثر مما تحتمله طاقتهم اقتصادياً وسياسياً وفكرياً، وهم في عملية الانفجار يحطمون ليس قيودهم وسلاسلهم فقط؛ ولكن كل الحدود والسدود، ثم يحاولون وضع أساس مختلف لمجتمع جديد ”.
يضيف هيكل: “إنني أستطيع القول بأن الثورة تختصر المراحل، لكنه لا الثورة ولا أي شيء آخر في مقدوره أن يلغي الزمان وأن ينقل شعباً أو أمة من التخلف إلى التقدم، وأن يخلق الموارد البشرية والطبيعية من الهواء، وأن يحتكم للتنظيم والتخطيط والعلم والتكنولوجيا، وأن يعطي السيادة لقيم الحرية والعدل السياسي والاجتماعي – كل ذلك ـ في طرفة عين، أو في عدد من السنين هي بحساب التاريخ طرفة عين”.
كل ما واجهته وتواجهه ثورة 21سبتمبر، هو ما تواجهه موضوعياً أي ثورة مشابهة من أحداث، وما تمر به من مراحل متعاقبة، ومتاعب متلاحقة ومفاجئة،
ويمكن تلخيص أهم التناقضات والتحديات التي تواجه ثورة21سبتمبر 2014م على النحو التالي:
-التناقض بين مرحلة الحماس والشعارات والتصورات الثورية، وبين مرحلة مواجهة الحقيقة. وكذلك التناقض بين رغبة وإرادة التغيير لدى الحركة الثورية كعامل ذاتي، بين مصاعب التغيير وأحيانا مستحيلاته كعوامل موضوعية، والتناقض بين الثورة والدولة، بين الهيئات والمؤسسات الثورية الموازية (اللجان الثورية واللجان الشعبية) وبين مؤسسات الدولة القائمة، والدولة العميقة، التي تقاوم الإصلاح والتغيير.
-التناقض بين الواقع الجديد الذي فرضته الثورة وتسعى لترسيخه، وبين مقاومة العلاقات والتوازنات المحلية الدولية والإقليمية، ففي الشهور الأولى لثورة 21 سبتمبر وجدت الثورة نفسها في مواجهة مع حرب عدوانية تقودها السعودية وتشارك فيها عشر دول وتدعمها ثلاث دول عظمى ونووية هي أمريكا وفرنسا وبريطانيا تمدها بالسلاح وتوفر لها الغطاء السياسي الأممي والحماية من المنظمات الأممية الحقوقية والإنسانية الأممية.
– التناقض في مفهوم الإصلاح والتغيير عند القوى الثورية والشعبية في العالم الثالث، وبينه عند المجتمع الدولي والإقليمي. ففي النسق المعرفي الغربي المهيمن مفهوم الإصلاح مؤسسات وهيئات شكلية مفصولة عن الشرعية الاجتماعية والاقتصادية والإرادة الشعبية.
-التناقض بين تطبيق الإجراءات الثورية الراديكالية وبين الصعوبات والأولويات الطارئة التي تفرضها الأحداث المتسارعة والمفاجئة كتلك التي فرضتها الحرب العدوانية على اليمن، وما استتبعته من تعارض.
التناقضُ بين الرغبة في تطبيق شعارات ومبادئ وبين الحاجة لتحقيق أكبر قدر من الإجماع الوطني لمواجهة العدوان. خاصة بعد التحول في مواقف المكونات المشاركة في ثورة فبراير من العدوان، والفرز الذي نتج عنه توزيع خارطة التحالفات؛ حيث وجد أنصـار اـللـه أنفسهم في علاقة مع الحزب الحاكم في النظام السابق، إذ رفع الأخير شِعار الدفاع عن الوطن وعبأ قواعده وأعلن مواقفه السياسية بذلك.
-التناقض بين الأهداف الثورية والروافع القادرة على حمل هذه الأهداف والتحرك بها، من موارد وعلاقات وفرصة وقدرة على التخطيط، وكادر إداري من الفنيين والخبراء القادرين على تنفيذ مهام الثورة وبرامجها.
-تحديات الانتقال بالثورة من الحالة الشعبية إلى الإمساك بالسلطة، واضطرارها للاستعانة بكادر من البيروقراطية القديمة، الذين جاءوا إلى الثورة من خارج صفوفها.
التناقض بين مضمون الثورة الاجتماعي والوطني ، وبين التركيز على الهوية الثـــقافية الدينيــــة للحامل الأساسي لها وهم أنصار اللـــه، فجزء كبير من الناشطين والمثقفين كان تركيزهم على أن أنصار اللـــه كجماعة دينيـــــة، ويصرفون النظر عن المضمون الاجتماعي الوطني لثورة21سبتمبر وعن تنوع قوامها الشعبي المشارك.
ما سبق نماذج من التناقضات المتشابكة والمعقدة التي أحاطت بثورة 21سبتمبر 2014م فضلاً عن مشكلة الإيقاع الزمنى اللازم لتحقيق أهدف الثورة والانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة وهي مشكلة لا يكفي لحلها العواطف الثورية الجياشة والإخلاص الثوري لقضية التغيير، ولمواجهة مثل هذه التحديات والتناقضات أمام الثورة -أي ثورة – خياران كما حددهما هيكل:
إما أن تهرب من الحقيقة، وتجري وهي تتصور أنها تطارد أحلامها وهي في الواقع تطردها، وتستعدي على نفسها خصومات أكبر وأعمق مما تسمح به ضرورات تعبئة الموارد والناس والظروف، خصومات كان ممكناً حلها أو كان واجباً تأجيلها.
إما أن تنظر إلى الحقيقة في عينها وتبدأ في مواجهة مشاكل التغيير وقضاياه بتعبئة كاملة للموارد والناس والظروف.
خيار التراجع هذا لم يكن وارداً بالنسبة للقوى الثورية ومكونات ثورة سبتمبر؛ لأن الانزلاق إلى حالة الهرب من الحقيقة يقود الثورة إلى المرحلة الثالثة، وهي مرحلة التراجع، وربما مرحلة الهزيمة. كان الخيار أو الاستراتيجية الثورية الأنسب والقادرة على الموازنة بين الفرص والتحديات بين الممكن والواجب، وهي إدارة ثورية مرنة وواقعية بتفضيل التغيير التدريجي على نسف ما هو موجود. واستعمال ما يُمكن استعماله من أجهزة وبيروقراطية النظام القديم رغم تهالكه وفساده، والتصحيح بدلاً من التطهير، والتقليل قدر الإمكان من النزاعات حول المسار القادم. ووفق هذه الاستراتيجية، والواقع الذي تشق به الثورة طريقها، من المبكر جداً الحكم على المنجز الثوري، بقدر ما هي محاولة نقدية أولية لتفكيك جملة من الدعاوي والأفكار والإشكاليات التي أثيرت ولا تزال تثار.