المحاضرة الرمضانية الخامسة والعشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1441هـ (نص +فيديو)
المحاضرة الرمضانية الخامسة والعشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1441هـ 18-05-2020
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وتقبَّل الله منَّا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.
اللهم اهدنا وتقبَّل منَّا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
نواصل الحديث على ضوء الآيات القرآنية في سورة الأنفال، ووصلنا إلى قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال: الآية 33]، وهذا بعد أن طلبوا العذاب، بعد قولهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال: من الآية32]، فهم كانوا يتظاهرون بأنهم على ثقةٍ مما هم عليه من باطل، إلى درجة أن يقولوا هكذا، أن يطلبوا هذا الطلب: إذا كان الحق مع رسول الله، فلتمطر عليهم حجارة من السماء، أو يأتيهم العذاب الأليم، وقد يعيشون مثل هذه الحالة سواءً أهل الباطل في ذلك العصر، أو في كل عصر، في ما هم عليه من باطل، في ما هم عليه من طغيان، فيما هم عليه من ظلم، فيما هم عليه من إجرام، فيحاولون أن يقدِّموا عدم نزول العذاب فوراً بعد طلبهم، أو في ظل ما هم عليه من محاربةٍ للحق، يقدِّمونه كشاهدٍ لهم على أنهم ليسوا في باطل، وإلَّا لو كانوا على باطل، فلماذا لا ينزل عليهم العذاب.
وأحياناً لدى بعض أهل الحق، بعض المنتمين إلى الحق ممن قد يكون لديهم قصورٌ في وعيهم، قد يتساءل هذا التساؤل: إذا كان هؤلاء على باطل، وما يفعلونه هو محاربة للحق، وظلم للناس، فلماذا لا ينزل عليهم العذاب؟ لماذا يتأخر عنهم العذاب؟ هذه قد تكون مرحلة معينة، ولكنها ضمن التدبير الإلهي: إمَّا لأن فيها استكمال لإقامة الحجة وللتبيين، أو لعوامل تعود إلى جانب أهل الحق في مدى اهتمامهم بواجبهم، بمسؤولياتهم، في مستوى استجابتهم لله -سبحانه وتعالى- في واقعهم العملي، فيكون لتقصيرهم كذلك تأثير على بعض الأمور.
والمسألة- على كل حال- هي مسألة مرحلة، ثم يأتي العذاب، لا بدَّ من العذاب، العذاب في الدنيا: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الرعد: من الآية34]، والعذاب في الآخرة لأهل الباطل الذين يحاربون الحق، ويظلمون عباد الله، فالله -سبحانه وتعالى- ذكر هنا في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}، أن تأخير العذاب ليس لأنهم ليسوا مستحقين للعذاب؛ وإنما لأن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- هو لا يزال فيهم، قبل هجرته من مكة إلى المدينة، ووجوده كان أماناً لهم، ووجوده أيضاً كان لاستكمال الحجة، ولاستكمال التبيين، ثم بعد أن انتقل لم يبق لديهم هذا الأمان.
ثم أيضاً ذكر الله -سبحانه وتعالى- مع الحديث عن العذاب، والعذاب خطير جدًّا، من أكبر الخسارة على الإنسان أن يسبب لنفسه عذاب الله في الدنيا أو في الآخرة، هذا أمر رهيب جدًّا، فذكر الله -سبحانه وتعالى- بالمناسبة وسيلةً للوقاية من العذاب، وسيلةً مهمة، عندما قال -جلَّ شأنه-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، فالطريقة التي أرشد الله إليها لدفع العذاب، وللسلامة من عذاب الله، والناس في أمسِّ الحاجة إليها، هي طلب المغفرة من الله -سبحانه وتعالى- بالاستغفار، بالدعاء، بالعمل، بالالتزام، بالإنابة إلى الله -سبحانه وتعالى-، بالإتِّباع لأحسن ما أنزل الله -سبحانه وتعالى-، بالاهتداء بهدي الله -سبحانه وتعالى-، الأخذ بكل أسباب المغفرة.
ثم يقول الله -جلَّ شأنه-: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[الأنفال: الآية 34].
تاريخياً: كان المشركون (قريش) يسيطرون على مكة، وعلى المسجد الحرام، ويديرون هم شعائر الحج، والحج كان موجوداً؛ لأنه إرث ورثه العرب من بعد نبي الله إبراهيم ونبي الله إسماعيل -عليهما السلام-، وأيضاً التقديس للبيت الحرام كمعلم للعبادة، والتعظيم لله -سبحانه وتعالى- كان لا يزال متوارثاً في واقع العرب عبر الأجيال، فكانت قريشٌ والمشركون من قريش يسيطرون على مكة، ويسيطرون على البيت الحرام، والمسجد الحرام، ويسيطرون على شعائر الحج، ويتولون هم إدارتها بطريقتهم غير الصحيحة وغير السليمة، وخلافاً للمشروع وللطريقة التي أرادها الله -سبحانه وتعالى-، وكانوا يستغلون سيطرتهم على مكة، وإدارتهم لشعائر الحج، وسيطرتهم على المسجد الحرام، يستغلونها في حربهم ضد رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، في عدائهم للإسلام، يقدِّمون أنفسهم بأنهم أهل الحق، والمسجد الحرام تحت سيطرتهم، وهم الذين يديرون شعائر الحج، وهم أهل مكة، فكانوا يجعلون منها وسيلةً دعائيةً واستقطابية، وكانوا يستغلون ثقلهم نتيجةً لذلك، وتأثيرهم في بقية القبائل العربية، التي كانت تنظر إليهم هذه النظرة: أنهم هم الذين يديرون الحج، وهم المسيطرون على المسجد الحرام، وهم الذين يقدِّمون الخدمات للحجاج، وهم الذين يتولون الشعائر هناك، فإذاً هم أهل الحق، واستخدمت هذه الدعاية واستغلت مثل هذه العناوين الدينية على مدى التاريخ بشكل كبير في أزمنة كثيرة، وفي مناطق كثيرة، وتؤثِّر على الكثير من السذج، على الكثير من الأغبياء، ينظر- بالفعل- هذه النظرة: أنه ما دام وهم المسيطرون على مكة، والذين يديرون شؤون المسجد الحرام وشعائر الحج، فلا بدَّ أنهم على الحق، وما داموا يقدِّمون بعض الخدمات للحجاج، فأكيد أنهم هم الذين هم على الحق، ثم يستغلون مشكلتهم مع الآخرين، يستغلون سيطرتهم هذه في مشكلتهم مع الآخرين، حتى مع رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، وكأن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- يشكِّل خطراً على مكة، وعلى الحج، وعلى المسجد الحرام، وعلى شعائر الحج، هو والمسلمون، وكأنهم هم المؤتمنون على ذلك، والذين يقومون بواجبهم في الدفاع عن المسجد الحرام من خطر رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ومن معه من المسلمين، هكذا هو الأسلوب التضليلي، وهكذا هو الاستغلال من جانب قوى الضلال والباطل، التي تعمد إلى الاستغلال لعناوين معينة، أو مقدسات معينة بوسيلة تقدِّمهم وكأنهم أهل الحق، وكأن موقفهم ضد الآخرين منطلقٌ مما هم عليه من الحق.
فالله -سبحانه وتعالى- يقدِّم حقيقة واقعهم، الحقيقة أنهم يصدون عن المسجد الحرام، وهذه جريمة من أكبر الجرائم على الإطلاق؛ لأن أعظم قدسيةٍ في الدنيا هي لبيت الله الحرام، وللمسجد الحرام، في كل المقدسات، في كل المساجد، في كل الأماكن المقدسة، أول وأكبر وأعظم قدسية هي للمسجد الحرام، ودوره مهم، سواءً فيما يتعلق بالعبادة فيه لله، والتعظيم لله -سبحانه وتعالى-، أو بشعائر الحج، أو بأدائه الدور المطلوب في أن يكون مركز إشعاعٍ للهداية للناس إلى الله، وأن يكون محطةً لتزود التقوى؛ لأن الهدى والتقوى هما الثمار الأساسية التي ينبغي الحصول عليها من خلال هذا الدور للمسجد الحرام ولشعائر الحج، فتكون محطة لتزود التقوى، وتكون أيضاً منبراً للهداية للناس إلى الله -سبحانه وتعالى-، الهداية الإرشادية، والهداية العملية من خلال الدفع العملي، والتحريك العملي وفق منهج الله -سبحانه وتعالى-.
هذا الدور عطَّله المشركون في سيطرتهم على المسجد الحرام، وسيطرتهم على مكة، وإدارتهم بالسيطرة والاستحواذ لشعائر الحج، فلم يبق شيءٌ من ذلك، لا محطةً للتزود بتقوى الله -سبحانه وتعالى-، ولا منبر هداية إرشادية وعملية لتحريك الناس في طريق الله -سبحانه وتعالى- في صراطه المستقيم في الموقف الحق، وتذكيرهم بمسؤولياتهم وواجباتهم، وجمع كلمتهم في المواقف الحق، هذا الدور تعطل، تعطيل هذا الدور للمسجد الحرام، لشعائر الحج، للأماكن المقدسة في مكة، والمعالم والشعائر التي هناك، يعد بذاته جرماً عظيماً، وذنباً كبيراً، وجنايةً على المسجد الحرام، على شعائر الحج والمشاعر المقدسة هناك، يعد جرماً كبيراً بحد ذاته.
ثم الصد، الصد له أشكال متعددة: من الصد المنع للبعض من الحج، المنع للبعض من الذهاب إلى المسجد الحرام، مثلما كانوا يمنعون رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله-، ولذلك رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- من بعد هجرته من مكة، إلى ما بعد فتحه لها لم يحج ولا مرةً واحدة، من بعد الهجرة إلى حين فتح مكة لم يحج ولا مرةً واحدة، ممنوع من الحج، رسول الله منعوه من الحج، ومنعوا معه المسلمين، وسمحوا لبقية الناس بالحج، لكنه كان ممنوعاً على رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، وعلى من معه من المسلمين، لا يسمحون لهم بالحج كما يسمحون لبقية الناس، هذا شكل من أشكال الصد، عندما يمنعون البعض، لهم مشكلة مع البعض، لهم مشكلة مع أهل الحق فيمنعونهم من الحج؛ لمشكلتهم معهم.
الشكل الآخر من أشكال الصد عن المسجد الحرام هو: عندما توضع قيود وإجراءات غير مشروعة، ولا سليمة، ولا صحيحة، ولا لزوم لها، تحول عملية الحج إلى حالة لا يستطيعها الكثير من الناس، مثلما يعمله النظام السعودي في هذا العصر، يضع قيوداً وإجراءات، ويحدد التزامات مالية تحول فريضة الحج إلى عملية معقدة جدًّا لا يستطيعها أكثر الناس، والذي يستطيعها يستطيعها بصعوبة كبيرة، وبتكاليف مرهقة، وتكاليف زائدة على الاحتياج الحقيقي للإنسان، زيادة على ما تحتاجه أنت في سفرك لغذائك، لنفقاتك، زيادة على ذلك، إتاوات والتزامات إضافية ترهقك، وتحول المسألة إلى مسألة معقَّدة، فيصدون الكثير من الناس ممن لولا تلك الإجراءات، لولا تلك القيود، لتمكنوا من الحج، ولتمكنوا من أن يؤمُّوا بيت الله الحرام وأن يقصدوه، هذا نوعٌ من أنواع الصد عن المسجد الحرام، وعن شعائر الحج، وعن العمرة.
شكلٌ آخر من أشكال الصد هو: عندما يمنعوا في المسجد الحرام، وفي شعائر الحج، وفي العمرة، يمنعوا أداء هذه الفرائض وفق توجيهات الله -سبحانه وتعالى- وتعليماته، ووفق ما أراد الله -سبحانه وتعالى- في مقاصد الدين لهذه الفريضة، كيف تكون، كيف تجتمع عليها الأمة، كيف يكون أثرها في الناس، كيف يستفاد منها في تعزيز وحدة المسلمين وتآخيهم وتعاونهم، كيف يستفاد منها في ترسيخ مبادئ الدين والموقف من أعداء هذا الدين، وهذا أيضاً شكلٌ آخر من أشكال الصد عن المسجد الحرام، كل هذا الصد بكل أشكاله كان موجوداً- في التاريخ- في عصر رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، أثناء ما كان يسيطر المشركون على مكة وعلى المسجد الحرام.
تعتبر هذه جريمة بحق تلك المقدسات، ومن أكبر الجرائم، وللمقدسات أهمية كبيرة في الإسلام؛ لأن الله أراد لها أن تكون معالم لعباده، تؤدي هذا الدور الكبير في حيوية الدين، في هداية الناس، في تزكية نفوسهم، في العمل على جمع كلمتهم، في توجيههم في طريق الحق، وأن تكون أيضاً منابر إشعاع بالهداية الربَّانية للناس، فيأتي منها الهدى، يأتي منها التوجيه الصحيح الذي يدفع الناس في الاتجاه الصحيح، في الموقف الصحيح، في العمل الصحيح، وفق توجيهات الله -سبحانه وتعالى- ومنهجه العظيم.
فالإساءة إلى المقدسات، واحتلال المقدسات، والسيطرة عليها من الأعداء يشكِّل خطورةً كبيرةً على دورها الحقيقي، والتهديد إما تهديد وجودي بالكامل عليها، مثلما يفعله البعض من أعداء الأمة، ومثل الخطر الصهيوني على مقدسات الأمة في فلسطين، حيث يتعرض المسجد الأقصى الشريف للخطر، واحتمال مساعيهم لهدمه بالكامل، وتدميره بالكامل، فتهديد وجودي، وتهديد للدور نفسه، وأحياناً قد يكون التهديد لطبيعة هذا الدور الذي أراده الله لتلك المقدسات ولتلك المعالم التي جعلها في أرضه، مثلما يفعل النظام السعودي، الذي يحول هذا الدور إلى دور محدود ويؤطره، ثم يحول المسألة إلى مسألة استغلالية، فيستغلها لأشياء كثيرة: استغلال سياسي، وإعلامي، وتضليلي، واستغلال اقتصادي من خلال الدخل والعائد المادي الهائل جدًّا الذي يأتي له من خلال تلك المقدسات.
القرآن الكريم عندما يحدد الدور الحقيقي للمقدسات الإسلامية، وفي مقدمتها وأكبرها قداسةً، وأعظمها أهمية وهو المسجد الحرام، هو يعطينا وعياً؛ لأن القرآن كتاب هداية، وعياً يحصننا فلا نُستغل، ولا نتأثر تجاه عملية الاستغلال التي تُستغل في عملية التضليل للناس، تقديم صورة غير صحيحة، مثلاً: البعض ينظر للنظام السعودي مهما فعل، مهما كان ولاؤه لأمريكا، مهما كانت علاقته مع إسرائيل، مهما اعتدى، مهما ظلم أبناء الأمة وتآمر عليهم في أقطار كثيرة، مهما فعل في عدوانه على اليمن، أنه طبيعي كل ذلك، وأنه مغفورٌ له كل ذلك، وأنه على الحق في كل ما يفعل، لماذا؟ لأنه مسيطر على المسجد الحرام وعلى مكة المكرمة؛ وبالتالي فليفعل ما يريد، ومن يعارضه فهو معارضٌ للإسلام، هذه الدعاية التضليلية يفنِّدها القرآن الكريم وينسفها نسفا؛ لأنه يقدِّم لنا رؤيةً صحيحة، ويبين لنا كيف كان المشركون قبل النظام السعودي، وقبل غيره، قبل قوى الضلال.
قوى الشرك كانت تسيطر على المسجد الحرام، وكانت تجعل منه منطلقاً في معركتها ضد رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله-، يجهِّزون الجيش في مكة، وسينطلق لمحاربة محمد وأصحابه، محمد الصابئ وأصحابه، هكذا كانوا يصورون المسألة، وأنهم حماة للمسجد الحرام ولمكة، وأنهم يدافعون عن مكة لا يقتحمها محمد عسكرياً، هكذا يصورون معركتهم مع رسول الله، وكأنها معركة للدفاع عن مكة، للدفاع عن المسجد الحرام، كما يصور النظام السعودي اليوم معركته في عدوانه على الشعب اليمني، على يمن الإيمان والحكمة، ثم يفتري افتراءً من أعظم ما افتراه: [أنه يدافع عن مكة من الشعب اليمني، وأن الشعب اليمني يمثل خطورة على مكة، وأنه يستهدفها بالصواريخ لولا اعتراض الباتريوت]، افتراءً، عظيماً، وبهتاناً، عظيماً، وزوراً فضيعاً، يعمل في ذلك بنفس ما كان يعمله المشركون في أسلوبهم باستغلال البيت الحرام، والمسجد الحرام، وشعائر الحج، والمقدسات في مكة، دعايةً يستغلونها ضد رسول الله، وفي حربهم ضد الإسلام.
فهذا القرآن الكريم يقدم الوعي بأن أولئك فيما يفعلونه، وفي طريقتهم في إدارة المسجد الحرام والسيطرة على مكة، إنما هم يصدون، والذي يستحقونه على ذلك هو العذاب، ليس التقدير، وليس الاحترام، وليس الأجر، وليس الثواب؛ لأنهم يستغلون أعظم مقدسات الأمة في مساجدها استغلالاً للتضليل، واستغلالاً للدعاية، واستغلالاً في حربهم على الإسلام، وهم يسيطرون عليه ويديرونه وفق طريقتهم الخاطئة، فهم أهل ضلال، وما هم عليه يستحقون به العذاب، العذاب الذي توعدهم الله به، عندما قال: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}، يعني: لا بدَّ من أن يعذبهم، وفعلاً عذبهم.
{وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ}، هم سيطروا على مكة لسنوات طويلة، وسيطروا على المسجد الحرام، وسيطروا على شعائر الحج، لكنها سيطرةً ظالمة، لا مشروعية لهم فيها، ليس لهم الولاية على بيت الله الحرام، ولا على شعائر الحج، ولا على مكة، ليس لهم أي ولاية مشروعة أبداً.
{إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}، وهنا يقدم القرآن الكريم حصر الولاية للمتقين، حصر الولاية المشروعة على المسجد الحرام، وعلى إدارة شؤون الحج والمشاعر المقدسة هناك، حصرياً على من؟ المتقين، فهم من لهم الولاية المشروعة فقط المتقون.
أما غير المتقين إذا سيطر، فسيطرته باطلة وظالمة، وليس له أي ولاية شرعية أبداً، مهما قدم نفسه، مهما حمل من عناوين، مهما فعل وصنع؛ لأنه ليس من المتقين، المتقون معروفون في القرآن الكريم بمواصفاتهم، بمواقفهم، بأعمالهم، بتوجهاتهم، وهم الذين يمتلكون الجدارة لهذه الولاية؛ لأنهم هم الذين سيحركون ويديرون هذه المقدسات وهذه الشعائر وفق توجيهات الله -سبحانه وتعالى- بما يحقق التقوى، بما يؤدي منها دورها المنشود والمأمول، وثمرتها المطلوبة في تحقيق التقوى في واقع الأمة، وفي تحقيق الهداية للأمة.
فالكافرون، والمشركون، والظالمون، والمفسدون، والضالون… كل الذين هم خارج عنوان التقوى في مفهومه الحقيقي لا ولاية لهم، مهما كانوا مسيطرين على المسجد الحرام، هم غاصبون، هم بحسب التوصيف القرآني غاصبون، ليس لهم ولاية؛ إنما اغتصاب، اغتصبوا المسجد الحرام، واغتصبوا شعائر الحج، واغتصبوا تلك المشاعر، واستغلوها، ووظفوها وأداروها بطريقتهم، وبما يحلو لهم، وبما يناسبهم، وليس وفق منهج الله -سبحانه وتعالى-.
فالولاية الشرعية الحصرية في ذلك هي للمتقين حصراً، وأما الآخرون من كل الفئات الأخرى، خارج عنوان التقوى، فليس لهم أي ولاية شرعية، لا على المسجد الحرام، وعلى على مساجد الأمة، ولا على مصالح الأمة الدينية، ولا على الأمة بكلها، لا شرعية لهم في ولايتهم على الناس.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}، هناك جهل بهذه الحقيقة، حتى جهل بمن له الولاية الشرعية على المسجد الحرام، على المصالح الدينية، على المساجد، هناك جهل لدى كثير من الناس، ولدى كثير من المسلمين حتى، لا يفهمون هذه الحقيقة، ولا يحملون هذا الوعي، وليس لديهم هذه النظرة الصحيحة، وهذا الفهم الصحيح، فهم بحاجة إلى أن يستفيدوه من القرآن الكريم؛ حتى لا تبقى لديهم أفكار خاطئة وتصورات مغلوطة.
وهذا يجرُّنا إلى الحديث عن موضوع المساجد بشكلٍ عام؛ لأن هذا المسجد الحرام هو أعظم المساجد حرمةً وقدسيةً عند الله، فما بالك ببقية المساجد، المساجد بشكلٍ عام يمكن أن يستغلها الآخرون، يمكن أن يستغلها منافقون، ويمكن أن يستغلها ضالون مضلون، وأن يتظاهروا بعمارتها، وإحيائها وتفعيل دورها، ولكن ما يأتي منهم في ذلك من تضليل للناس هو أمرٌ خطيرٌ جدًّا، وهذا ما نبه عليه القرآن الكريم، نجد في سورة التوبة قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}[التوبة: الآية 107]، لاحظوا كيف فعَّلوا دور المسجد في أربع كوارث: (ضِرَارًا، وَكُفْرًا، وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ).
فيمكن أن يأتي باسم الدين من يستخدم المسجد ليضارر به، ليجعل منه مسجداً يضر بأهل الحق، يؤثر سلباً في الناس لإبعادهم عن الحق، يسعى ليجعل من منبر المسجد، من طريقته في إحياء المسجد وسيلةً يعارض بها الحق وأهله، ووسيلة مخادعة للكثير من السذج والبسطاء من الناس ممن لا يمتلكون الوعي ولا الفهم الصحيح، فيذهبون إلى ذلك المسجد، ويرتبطون بذلك القيِّم، وبذلك يبتعدون عن طريق الحق، وعن أهل الحق، وعن موقف الحق، وعن عمل الحق.
{وَكُفْرًا}، يمكن للمسجد أن يصدر كفراً، ولكنه ليس كفراً بالمفهوم السائد في ذهنية الناس، يعني: خروجاً عن الملة. |لا| هناك مثل يقولون: [كافر مسبح]، كفر في العمل، كفر في الموقف، كفر في انعدام الثقة بالله -سبحانه وتعالى-، كفراً يتمثل برفض توجيهات الله -سبحانه وتعالى- في أمور من أهم الأمور، ومسائل من أهم المسائل، وقضايا من أكبر القضايا، هذا من النوع الذي يقولون في المثل الشعبي: [كافر مسبح]، الكفر الذي يصدره مسجد؛ لأنه يتمثل برفض جزء من الدين، مثلاً: برفض الجهاد في سبيل الله، برفض الإنفاق في سبيل الله، برفض الموقف الحق ضد الطغاة المعتدين المتسلطين الظالمين الجبابرة، برفض جملة واسعة من هذه المسؤوليات المهمة في الدين، برفض الاعتصام بحبل الله جميعاً… وهكذا أشياء كثيرة، بهدم الإيمان فيما يعطيه من تأثير نفسي في الثقة بالله، والتوكل على الله -سبحانه وتعالى-.
{وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ}، يمكن أن يؤدي المسجد هذا الدور، أن يستخدم المسجد من أجل أن يفرق بين المؤمنين؛ حتى لا تجتمع كلمتهم في موقفٍ واحد، ولا يتجهون إلى حيث يمكن أن يكون اجتماعهم مفيداً مثمراً، يجتمعون لموقف معين، أحياناً بعض المساجد تؤدي دوراً عظيماً، اجتماع الناس فيها اجتماع على الهداية، لموقف الحق، لتعزيز موقفهم في طريق الحق…إلخ. وهذا قد يأخذ البعض من الناس الذين لا يمتلكون الوعي الكافي ليذهبوا إليه، فلا يذهبون إلى حيث يستفيدون أكثر، ينتفعون أكثر، يهتدون أكثر، ويسعى إلى تفريقهم؛ حتى لا تبقى كلمتهم واحدة، وتوجههم واحداً.
هناك أيضاً كما قال: {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}، (إِرْصَادًا): تهيئةً وإعداداً ودعماً ومساندةً، فيتحول المسجد إلى مسجد يهيئ لأعداء الأمة، يمهِّد لإعداء الأمة أن يسيطروا على الأمة، عملية أن يتحول المسجد إلى أن يقدم هذه الخدمة لأعداء الأمة من أكبر الجرائم على الإطلاق، لاحظوا في المسجد الذي يثبط، يخذل، الذي يميت ذكر الجهاد في سبيل الله والمسؤولية في العمل في سبيل الله، الذي يميت أي حديث لتوعية الأمة عن أعدائها وعن خطورتهم، هذا من المساجد الذي يهيئ الأمة، المسجد الذي يتبنى قيمه، خطيبه، إمامه، القائم فيه، إلغاء وشطب المسؤوليات من الإسلام بكلها، وتدجين الأمة لأعدائها، هو من المساجد التي تؤدي هذا الدور السلبي، وتستغل استغلالاً سيئاً للغاية لأداء دورٍ يدجِّن الأمة لأعدائها.
{وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[التوبة: الآية 107]، حصل هذا تاريخياً في عصر رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، ورسول الله موجود، وهم يستخدمون مساجد لهذا الدور التخريبي في عصر رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، بل أرادوا منه أن يفتتح المسجد؛ ليستغلوا افتتاحه للمسجد دعايةً لاستقطاب الناس للحضور إلى ذلك المسجد، والصلاة فيه، ودعوا رسول الله لافتتاحه، فماذا قال الله له؟ {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}، نهى نبيه من أن يستفتح ذلك المسجد؛ لأنهم سيستغلون حتى افتتاحه لذلك المسجد دعايةً استقطابية لدفع الناس للصلاة فيه، ومرادهم من صلاة الناس فيه، أن يجعلوا من ذلك وسيلةً لتجميع الناس لهم؛ حتى يضلوهم، حتى يؤثروا عليهم، ولاحظ كيف كان النهي: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}، نهائياً، نهي شديد، تحذير شديد.
{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}، التقوى، لاحظ كيف التقوى هناك وهنا هي عنوان أساس، وعنوان بارز؛ لأنها الثمرة المطلوبة، مطلوب أن يفعَّل المسجد بشكلٍ يحقق التقوى، يهيئ الظروف الملائمة لصناعة التقوى، للتزود بالتقوى، فيكون- في واقع الحال- محطةً لتزود التقوى، محطةً للهداية، محطةً للتذكير بالمسؤولية، وهذا مما يجب أن يكون لدى الناس وعيٌ عنه.
ثم يقول الله -جلَّ شأنه-: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}[الأنفال: الآية35]، يعني: حسب التعبير في هذا الزمن ظاهرة صوتية، ضجيج لا قيمة له، كانت صلاتهم عند البيت ضجيج لا فائدة له، لا ثمرة له، لا نتيجة له، ضجة وصجة، وأصوات لا قيمة لها، ظواهر صوتية لا قيمة لها، لا تثمر تقوى، ليست مقبولةً عند الله -سبحانه وتعالى-، وشبهها بالمكاء، والمكاء هو: صفير لطائر اسمه (المُكّاء) يصدر صفيراً، وشبهها بالتصدية: مثل التصفيق والضجة التي لا قيمة لها، فهكذا حال صلاتهم في أنها غير مقبولة، وأنها ليست إلا مجرد ظاهرة صوتية وضجيج لا قيمة له، وليست مقبولة.
{فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، أتاهم العذاب من بعد، كيف أتاهم؟ أتاهم العذاب في معركة بدر، وأتاهم العذاب فيما بعد في حروبهم مع رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- عندما نزل قول الله -سبحانه وتعالى-: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ}[التوبة: من الآية 14]، وعذاب آخر يعني، كم مصائب أتت لهم: كم عقوبات أتت لهم، الجدب، الشدة… عقوبات متنوعة، {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}.
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛