مقتطفات محاضرة 16 رمضان 1441هـ للسيد عبدالملك الحوثي
مقتطفات محاضرة 16 رمضان 1441هـ للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ} [المائدة: 2]
من أبرز مظاهر الظلم في المعاملة وفي الواقع الاجتماعي لدى الناس هو الظلم الذي يتعاون عليه البعض، قد يكون على مستوى قبيلة تتعاون في موقف ظالم، أو على مستوى مجموعة من الناس، هذا الظلم من الظواهر المنتشرة في المجتمع الإسلامي؛
يقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ}، هذا يشمل التعاون على الإثم أو العدوان على أي مستوى: دولة، تحالف، مجتمع، قبيلة، أسرة، مجموعة.
هذا الظلم خطير جداً لهذا جاء النهي عنه لأنه من عوامل تعزيز الظلم، ومن العوامل المؤثرة سلباً على واقع المجتمع: على أمنه واستقراره، على أُلفته، على تعاونه..
الحالة الصحيحة هي التعاون على البر والتقوى: هذه حالة إيجابية، حالة عظيمة وفيها رضا الله سبحانه وتعالى ولها النتائج الإيجابية في واقع الحياة.
ماهي عصبية الجاهلية ؟
التعاون على الإثم والعدوان بدافع العصبية: أن تتعصب للظالم أو في موقف ظلم من أجل قبيلتك أو أسرتك أو أصحابك أو حزبك أو من أجل جماعتك، فهذا ما لا يجوز، هذا أمرٌ خطير، وهو عصبية الجاهلية المنهي عنها، في الحديث عن الرسول – صلوات الله عليه وعلى آله – أنه سئل عن العصبية ما هي، قال: أن تعين قومك على الظلم.
فإذا تعاونت في موقف هو ظلم، تدعم شخص في موقف ظلم، فأنت ستكون شريكاً في ذلك الظلم وستتحمل الوزر والإثم عند الله سبحانه وتعالى.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيتُم فَلا تَتَنَاجَوا بِالإِثمِ وَالعُدوَانِ}
في قضايا الناس، القضايا الكبيرة والصغيرة، والقضايا الاجتماعية التي تكون في إطار قبلي أو مجتمعي معين، من المنهي عنه التعاون بكل أشكال التعاون على الظلم، على مساندة من هو في موقفٍ ظالم، لا يجوز ذلك؛ حتى على مستوى التناجي، التناجي بالإثم والعدوان، الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيتُم فَلا تَتَنَاجَوا بِالإِثمِ وَالعُدوَانِ وَمَعصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوا بِالبِرِّ وَالتَّقوَى} [المجادلة: 9]، الناس في اجتماعاتهم، في مجالسهم، في مناقشتهم لقضايا معينة، قضية لشخص معين، قضية لمجتمع معين، قضية لقبيلة معينة، قضية لأسرة معينة، وأياً كان هذا الموضوع موضوعاً يتعلق بالأمور المادية أو النزاعات الشخصية، أو بأيٍ كانت، {فَلا تَتَنَاجَوا بِالإِثمِ وَالعُدوَانِ وَمَعصِيَةِ الرَّسُولِ}
التعاون على البر والتقوى هو الموقف الصحيح
الموقف الصحيح، هو التعاون على البر والتقوى، ومن ذلك إذا كان هناك شخص مخطئ أن يتعاون الجميع لإقناعه للضغط عليه للتراجع عن خطئه، وبالحد الأدنى إذا لم يتراجع عن خطئه، عن ظلمه، بعد أن يثبُت أنه ظلم أو تصرف سيئ أو خطأ؛ يجتنبوه، يتركونه لا يتعاونون معه على ما هو عليه من ظلمٍ وعدوان، لا يقفوا معه على ذلك. هذا هو الموقف الصحيح بدلاً من التعاون معه، وبدلاً من أن يشاع في واقع المجتمع المسلم الحديث الذي يزعزع الوضع الداخلي، الألفة فيما بين الناس، ما بين المؤمنين، من خلال إشاعة التذمر والعُقد والكلام السلبي والتناجي بالإثم والتناجي بالعدوان؛ هذا ما يجب الحذر منه.
{وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء: 107]
من أشكال التعاون على الظلم والتعاون على الإثم والعدوان وما يدخل في إطار العصبية، الجدال والمدافعة عمن له موقف ظلم أو موقف معصية، فيقف الآخرون معه، يجادلون عنه، يدافعون عنه، يحامون عنه، يؤيدون موقفه، وهذا من الظواهر التي تحصل، على المستوى القبلي قد تقف قبيلة مع شخص لأنه منها، وقد يكون موقفه موقفاً ظالماً وموقفاً خاطئاً،
قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 107]
من أخطر الأشياء التعصب للمحششين
انتشار ظاهرة الحشيش والمخدرات من أسوأ الظواهر، ولكن من أخطر الأشياء أن يتعاون الناس على دعم من يتورط في مثل هكذا جريمة، فإذا سُجن يهبُّ البعض للمراجعة فيه والدفاع عنه والسعي لإخراجه، ونحن حذرنا من التعاون في مثل هذه الجريمة في المحاضرات الرمضانية في العام الماضي باعتبارها من أخطر الأشياء تأثيراً سلبياً على واقع المجتمع، لأن البعض من أصحاب التجارة في الحشيش والمخدرات يحاول أن يعزز موقفه ويوفر لنفسه الحماية من المجتمع عن طريق أن يوزع بعض الأموال، وأن يكسب بها صداقة أشخاص معينين، هدية لذلك الشيخ، هدية لذلك المشرف، علاقة مع ذلك الشخص، اهتمام بتلك القرية، اهتمام بأولئك الناس؛ ويعزز هذه الروابط وينميها، ويعطيهم جزءً يسيراً مما يحصل عليه من دخل من هذه التجارة المحرمة حتى يحبوه، حتى يتعصبوا معه، حتى يروا فيه شخصاً يحقق لهم مصالح مادية معينة، فيربطهم بمصالحه بهذه الطريقة. عندما يُسجن أو يُطارد، يقفون إلى جانبه، يتعصبون معه، يراجعون فيه، يبذلون كل جهد في سبيل حمايته والدفاع عنه والعمل على إخراجه من السجن ودفع العقوبة عنه؛ هذا من التعاون على الإثم والعدوان، وهذا من الاشتراك في الجرائم، وهذا من الاشتراك في دعم الحرام، في تهديد الاقتصاد الإسلامي، في الإضرار بالمجتمع المسلم، فيما ينال الناس من أضرار خطيرة ومن أضرار كبيرة. البعض من الناس قد يقف الآخرون عنه ويبرروا موقفه والله ينهى هنا حتى عن دعمهم بالكلام، عن الجدال عنهم، فيقول: {هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء: 109]، من سيقف إلى جانبهم يوم القيامة؟ الذي وقف إلى جانبهم في الدنيا سيكون شريكاً معهم في جُرمهم، وداخلاً معهم في إثمهم ومتورطاً معهم في جرمهم، ويتحمل معهم في وزرهم، يوم القيامة هل سيجرؤ أحد على أن يدافع عنهم؟ لا،
لا يجوز التعصب مع الظالم أو مقابلة الظلم بظلم أكبر !
البعض من قبيلة قد يَقتل إثماً وعدواناً في قبيلة أخرى فتقف معه قبيلته وتناصره، أو يقف معه أصحابه، أو جماعته !
البعض قد يغتصب أرضاً، أو ينهب حقاً، أو يصادر مِلكاً بغير حق ويقف البعض معه، هذه جريمة، اشتراك في الجُرم والإثم، معاونة على الظلم، وهذا ما ورد النهي عنه في الحديث عن رسول الله – صلوات الله عليه وعلى آله: (لا تكونوا إمعة، تقولوا إن أحسن الناس أحسنا، وإن أساءوا أسأنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم أنه إن أحسن الناس أن تُحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا).
هكذا يكون لدى الناس هذا التوجه الإيجابي: توجه للإنصاف، للحق، للخير، للعدل؛ حتى إذا حصل ظلم لا يُقابل بظلم أكبر، بمشكلة أكبر، البعض قد يُقتل منهم شخص ظلماً وعدواناً فيتجهون بالثأر بطريقة عشوائية ويحصل ظلم أو فتنة كبيرة، وهذا لا يجوز أبداً.
(الطمع شجرةٌ في النار أغصانها في الدنيا)
يعتبر الطمع من أكبر عوامل الظلم في أخذ أموال الناس بغير حق، وما أكثر ما يحصل بين الناس من نزاعات ومشاكل على الأموال، وكثيرٌ من المظالم هي تتجه إلى المال، البعض قد يطمع في جربة شخصٍ معين، أو أرض لشخص معين، أو مال بأي شكلٍ من الأشكال: بضاعة، تجارة .. إلخ. وقد يتجه إمَّا إلى أخذها أو مضاررته فيها بأي شكلٍ من الأشكال، وهذا من الأمور الخطيرة التي ورد فيها التحذير الشديد.
(الطمع شجرةٌ في النار، أغصانها في الدنيا، من تمسك بغصنٍ منها، قاده ذلك الغصن إلى النار) هكذا ورد في الحديث عن رسول الله – صلوات الله عليه وآله- وقد شبّه الطمع بهذا التشبيه !
{وَلَا تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ}
الله جل شأنه قال: {وَلَا تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ وَتُدلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأكُلُوا فَرِيقاً مِن أَموَالِ النَّاسِ بِالإِثمِ وَأَنتُم تَعلَمُونَ} [البقرة: 188]، عندما يسعى الإنسان إلى أن يأخذ مال الآخر بأي وسيلة، ولو بوسيلة الرشوة، والتزييف للحقائق، والاستغلال للقضاء، أو استغلال التقاضي عند شخصٍ معين، ثم السعي للتزوير للحقائق؛ للوصول إلى حق ذلك الآخر، هذا يعتبر من الظلم الشنيع الذي عقوبته النار.
(لا يقطع رجلٌ حق امرئٍ مسلمٍ بيمينه إلَّا حرَّم الله عليه الجنة، وأوجب له النار)
الرسول محمد – صلوات الله عليه وعلى آله
عن رسول الله – صلوات الله عليه وعلى آله – الذي قال فيما روي عنه: (لا يقطع رجلٌ حق امرئٍ مسلمٍ بيمينه) – يعني: باليمين – (إلَّا حرَّم الله عليه الجنة، وأوجب له النار)، هكذا النتيجة هي النار، هي النار، أن تخسر الجنة.
ولاحظوا كم يكون غباء إنسان يقتطع حقاً على الآخرين على شخصٍ آخر، أو على أشخاص آخرين، قد يكون شيئاً تافهاً، قد يكون أرضاً، قد يكون مبلغاً مالياً معيناً، قد يكون شيئاً من أعراض هذه الدنيا، في مقابل أن يخسر الجنة وأن يدخل النار وأن يتعذب للأبد في نار جهنم!
عندما قال رسول الله – صلوات الله عليه وعلى آله – هذا الكلام، كلام خطير جدّاً على الإنسان الذي يتورط في ذلك: (فقال له رجلٍ من القوم: يا رسول الله، وإن كان شيئاً يسيراً؟)، يعني: حتى لو كان هذا الشيء الذي اقتطعه الإنسان من حق الآخرين شيئاً يسيراً؟ شيئاً بسيطاً؟ (قال: وإن كان سواكاً من أراك).
لو لم يكن إلا سواك من أراك، مسواك صغير أخذه الإنسان بغير حق على الآخرين، يمكن أن يدخل به نار جهنم. يعني: حتى أبسط الأمور، خطير هذا، خطير على الإنسان، يجب أن يكون الإنسان متورِّعاً من أخذ حق الآخرين بغير حق، من الأخذ ظلماً على أي أحد، ولو كان شيئاً يسيراً، مسألة خطيرة جدّاً،
من أقبح أنواع الظلم: ظلم النساء والأيتام
على مستوى الظلم في الأموال والحقوق، هو أيضاً من أسوأ أنواع الظلم ومن الظلم المنتشر بين الناس لدرجة عجيبة حتى داخل الأسرة الواحدة؛ من أقبح وأشنع أنواع الظلم داخل الأسر هو ظلم النساء والأيتام؛
من أبرز مظاهر الظلم في الأموال والحقوق هو الظلم في الإرث، وأكل إرث النساء، وهذا من الظواهر المنتشرة والخطيرة جداً لأن الإنسان عندما يأكل إرث قريبته – حتى لو تظاهرت بالمسامحة له مجاملةً لا ينفعه ذلك – هو ظلم ووزرٌ، يحاسب عليه يوم القيامة؛ ولا ينفعه معه أي عمل صالح إذا لم يتخلص منه في الدنيا فأعماله كلها محبَطة: صلاته محبَطة، صيامه محبَط؛ حبطت أعماله كلها في الدنيا، لأنه مع هذا الظلم خرج عن إطار التقوى وعن دائرة المتقين والله جل شأنه يقول: {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
ينبغي على الإنسان إذا أكل أو لديه إرث قريبته أن يحرص على التخلص، ألا يستمر في هذا الظلم، يمكن للإنسان إذا كانت قريبته بنفسها رغبت هي أن يبقى إرثها عنده، أن يسوق إليها حصتها من الغلول، غلول الإرث، الثمار من النتائج المادية التي سيحصل عليها ويحصِّلها، ويكون عمله كشريك بحسب العُرف المعتاد عليه في الشراكة بين المجتمعات، وبطريقة صحيحة لا يكون فيها غبن ولا يكون فيها ظلم. هذا هو بالحد الأدنى الذي يمكن أن يعمله الإنسان، أو أن يسلمها بالكامل ويخلص رقبته وذمته من ذلك.
من أنواع الظلم: أكل مهور النساء
هذه من الظواهر المنتشرة والسلبية جداً في المجتمعات. البعض يرى في ابنته وكأنها سلعة، يفرح بأن يزوِّجها ليحصل على مبالغ مالية يأكلها، ويجعل من مهرها قيمةً لها كسلعة يأكله ويستغله، وهذا من الحرام، ومن الظلم، ظلم للأرحام، ظلم للأقارب، ظلم مضاعف وسيئ.
الإنسان إذا قد فعل ذلك في الماضي يحاول أن يسدد وأن يتخلص، وفي المستقبل يُقلع عن مثل هذا التصرف ويكف عن مثل هذا الظلم ولا يتورط فيه، هذه قضية خطيرة جداً.
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}
أكل أموال اليتامى من أبشع أنواع الظلم، وعادةً ما يكون من قريب، قريباً من القرابة يأكل أموالهم أو يأكل حقوقهم؛ وهذه قضية خطيرة جداً وعليها وعيدٌ شديدٌ في القرآن الكريم، الله جل شأنه يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، وعيد شديد وواضح وصريح بالعذاب في جهنم، فالذي يأكل أموال اليتامى أو حقوقهم عقوبته جهنم ولا تنفعه أي أعمال صالحة، لا صلاة، لا صيام، ولا أي عمل آخر؛
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]، فهو ظلم شنيع جداً، فيه لؤم، فيه دناءة وخسة، أن يعمد الإنسان إلى ظلم يتامى !
الذي يربينا عليه الإسلام هو الرحمة، هو العطف بالمستضعفين، بالمظلومين، باليتامى، وهذا من الأمور المهمة جداً.
الظلم بالكلام
أكثر أنواع الظلم انتشاراً
الكثير من الناس قد يتورع عن الظلم بالفعل يعني: لا يقتل، لا يجرح، لا يسجن بظلم، لا يعتدي على أحد في جسده أو بدنه، وقد يتورع أيضاً عن الظلم في المال: لا يأخذ من حق الآخرين شيئاً من أموالهم، ولكن أكثر أنواع الظلم انتشاراً وشيوعاً هو الظلم في الكلام؛ لأنه سهل عند الكثير من الناس؛ مع ورود تحذير كبير في القرآن الكريم: {مَا يَلفِظُ مِن قَولٍ إِلَّا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 18]، كل كلمة محسوبة على الإنسان، لكن الكثير قد يتجرأ؛ ولذلك ورد في القرآن الكريم التحذير من كل أنواع الظلم التي تأتي عن طريق الكلام.
أثر الظلم بالكلام على المسؤوليات الجماعية
المجتمع المفترض منه والمطلوب منه: أن يكون مجتمعاً متآخياً بالأخوة الإيمانية، متعاوناً على البر والتقوى، معتصماً بحبل الله جميعاً، متوحداً في موقف الحق، متحركاً في إطار مسؤولياته الجماعية الكبرى: من جهادٍ في سبيل الله، من إنفاقٍ في سبيل الله، من إقامةٍ للحق، من دفعٍ للظلم.
هذا المجتمع عندما تأتي بما يفرقه، بما ينشر بينه العداوة والبغضاء، بما يفككه، وبدلاً عن الاحترام تأتي السخرية، والاستهزاء، والاستهتار، والاحتقار، وتبادل الكلمات المسيئة؛ هذا حرامٌ، وهذا ظلمٌ، وهذا جرمٌ، وهذا إثمٌ؛ لأن العمل بهذه الطريقة هو مما يزرع بين الناس في نهاية المطاف العداوة والبغضاء والكراهية!
المطلوب في حالتنا الإسلامية وفي القيم الإسلامية والتعليمات من الله سبحانه وتعالى، أن يكون المجتمع متآلفاً، متآخياً، متعاوناً، متواداً، متحاباً، متراحماً، متعاوناً على البر والتقوى، لا يأتي ما يفرقه. إذا أتى ما يفرقه يُضعِفه ويحول دون اجتماعه للقيام بمسؤولياته الجماعية.
الاحتقار لا يوجَّه للمؤمنين، بل للمجرمين الطغاة!
لا تجوز السخرية ولا يجوز الاحتقار، لا يجوز الاحتقار لأي إنسان، أي إنسانٍ مسلم: لا يجوز الاحتقار له لا بنسبه، ولا بمنطقته، ولا بقريته، ولا بعادته في الحياة في طريقة معيشته؛ ولا بأي شكلٍ من الأشكال.
الاحتقار يوجه إلى الظالمين، إلى المجرمين، إلى الطغاة، إلى المفسدين الذين يبغون في الأرض بغير الحق، يوجه لهم الاحتقار، توجه إليهم الكلمات القاسية؛ أما إنسان في ظل المجتمع المسلم والمؤمن لا يجوز أن يوجه إليه كلمات فيها احتقار، أو إساءة، أو سخرية، أو استهزاء به؛ هذا من الظلم، هذا من الإثم، هذا من الجرم، هذا من المعصية.
من الظلم بالكلام
السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب
{لَا يَسخَر قَومٌ مِن قَومٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيراً مِنهُم وَلَا نِسَاءٌ مِن نِسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيراً مِنهُنَّ}
[يجب أن يكون السائد] هو الاحترام المتبادل في الكلمات التي تعبر عن هذا الاحترام، بينما السخرية هي عكس الاحترام: هي استهتار، واحتقار، واستهزاء، ولها نتائج سيئة، وهي مستفزة. وتؤثر على مستوى الألفة والأخوة والتعاون.
{وَلَا تَلمِزُوا أَنفُسَكُم} .. اللمز: الطعن بالكلام والتجريح بالكلام، غير مسألة الاستهزاء والسخرية والاحتقار، اللمز: الطعن والتجريح في الإنسان عندما تهتك عرضه بالذم، بالتجريح فيه، بالكلام فيه، هذا محرم.
{وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلقَابِ} إطلاق الألقاب السيئة والجارحة والمنقِّصة على شخص معين، عندما تطلق عليه لقباً معيناً تنتقصه به هذا لا يجوز.
{بِئسَ الِاسمُ الفُسُوقُ بَعدَ الإِيمَانِ وَمَن لَم يَتُب فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] تختم بهذا الختام المهم، هذا هو الشاهد، هذا من الظلم! اللمز من الظلم، السخرية من الظلم، التنابز بالألقاب من الظلم، كل هذه التجاوزات في الكلام تعتبر ظلماً، من لم يتب منها عندما تصدر منه، فيعتبر عند الله من الظالمين
{وَمَن لَم يَتُب فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]
من التوبة إذا قد وصل كلامك إلى الشخص الذي لمزته، أو سخرت منه، أو استهزأت به، أو نبزته بلقب، إذا قد وصل الكلام إليه لا بدَّ أن تسترضيه، لا بدَّ أن تطيب خاطره، وأن تسعى إلى عودة الألفة معه، وإلى إنصافه واحترامه، وأن تعتذر منه، لا بدَّ، وإلا بقي الذنب عليك.
فالله يقول: {وَمَن لَم يَتُب فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، إذا لم تنصف فتعتبر من الظالمين، إن لم تتب من ذلك فتعتبر من الظالمين، قضية خطيرة جدّاً على الإنسان، إذا لم يكن قد وصل الكلام إليه فلا ضرورة لأن يصل، بل تب إلى الله سبحانه وتعالى واستغفر لك وله، وتب إلى الله من ذلك؛ لأنك عندما تخبره قد تجرح مشاعره من جديد، إن لم يكن قد وصل إليه الكلام.
من الظلم بالكلام
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ}
الظن السيئ هو الذي نحن مأمورون باجتنابه، الظن السيئ عندما تظن ظناً سوءً بأخيك المسلم، بأخيك المؤمن، قضية خطيرة جدّاً، من أسوأ الأشياء على الناس سوء الظن. سوء الظن يفكك العلاقات، سوء الظن يهدم كل مبنىً للأخوة، وينشر بين الناس التعامل السيئ، العقد على بعضهم بعض، الكراهية، البغضاء، يُضعف فيما بينهم التعاون حتى في الأعمال المهمة، حتى في أعمال الخير، حتى في أعمال الجهاد في سبيل الله، حتى في النهوض بالمسؤوليات.
إذا دخل سوء الظن أفسد بين الناس التعاون حتى على البر والتقوى، أفسد فيما بينهم صلاح ذات بينهم، يعتبر خطيراً جدّاً؛ ولهذا نهى الله عنه، وهو في نفس الوقت يمثِّل مشكلة كبيرة وينتج عنه الظلم: بدءً بما أصبح في نفسك من تصور باطل تجاه شخصٍ ما أنت بذلك التصور ظلمته؛ ثم تبني على ذلك معاملة فيكثر الظلم ويزداد الظلم إلى ظلم؛ ثم تضيف إلى ذلك أيضاً مواقف معينة ويترتب على هذا تأثير سيئ حتى في الواقع العملي.
سوء الظن من أخطر الأشياء حتى في مجال العمل في سبيل الله، سوء الظن من أخطر الأشياء وإذا اعتمد الإنسان على سوء ظنه فسيتورط في مظالم، في تصرفات سيئة، قد يصل هذا التورط إلى مستوى جرائم والعياذ بالله، قضية خطيرة جدّاً. {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]، التجسس كذلك مدعاةٌ للظلم، وتفكيكٌ لعرى المجتمع.
من الظلم بالكلام
{وَلَا يَغتَب بَعضُكُم بَعضاً}
عندما تنتشر الغيبة في مجتمعٍ معين وضاعت عن الناس حرمة بعضهم بعضاً، وحرمة أعراض بعضهم البعض، فيتجرؤون على الكلام في بعضهم البعض والانتقاص من بعضهم البعض، والإساءة إلى بعضهم البعض والكلام على بعضهم البعض في غيبتهم؛ تغتابه، تتحدث عنه وهو غائب بما يسوؤه، بما يسيء إليه، بما ينتقص منه، هذه من المحرمات! وقدِّم لها هذا المثل: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُم أَن يَأكُلَ لَحمَ أَخِيهِ مَيتاً فَكَرِهتُمُوهُ} [الحجرات: 12]، تأكل لحم أخيك وهو ميت، هل ستجرؤ على ذلك أن تأكل لحم أخيك وهو ميت؟ كيف سيكون منظرك بشعاً جدّاً، لو رآك الآخرون، وهذه الحالة حالة المغتاب وكأنه يأكل لحم أخيه ميتاً حالة خطيرة جدّاً، ذنب عظيم، ووزر كبير، وحالة دنيئة، من الدناءة في الإنسان، من نقص الشرف فيه أن يكون من المغتابين، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}.
من الظلم بالكلام
{وَالَّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَاناً وَإِثماً مُبِيناً} [الأحزاب: 58]
أيضاً من الجرائم في الكلام البهتان: عندما تبهت إنساناً بما ليس فيه، عندما تنسب إليه ما هو بريءٌ منه، تتكلم عليه أنه فعل كذا، وأنه صنع كذا، وأنه الذي قال كذا، وأنه الذي تصرف كذا؛ وهو بريءٌ من ذلك، وهذا مما يكثر في هذا الزمن، خصوصاً مع انتشار الشائعات وتقبّل الشائعات، على مواقع التواصل الاجتماعي أول ما تنتشر شائعة يتفاعل معها أحياناً الآلاف من الناس، وهي شائعة على إنسان قد يكون بريئاً، قبل التثبت، قبل التبين، ينطلق الآخرون ليتكلموا فيه، ليلمزوه، ليسيئوا إليه.
في واقع الناس في المجتمع الكثير من الناس ما إن يسمع كلاماً في أحد حتى يبادر بتصديقه؛ ثم يتكلم فيه، ويسيء إليه، وهذا مما لا ينبغي، مما لا يجوز، يجب التثبت، يجب التبين، حتى لو كان الذي سمعته شكوى، أو تظلماً، أو كلاماً مؤلماً عن شخص أنه فعل كذا، أو شيئاً مستفزاً، يجب التبين، {فتبينوا}.
حسن الظن والتبين يجب أن يكون هو السائد!
الله يقول: {إِذَا ضَرَبتُم فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94]، {إِن جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، كم في القرآن الكريم يأمر بالتبين والتثبت. {لَولَا إِذ سَمِعتُمُوهُ ظَنَّ المُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بِأَنفُسِهِم خَيراً} [النور: 12]، حُسن الظن يجب أن يكون هو السائد، التبين يجب أن يكون هو السائد، والقاعدة الأساس التي يعتمد الناس عليها،
لكن التسرع عادة سيئة جدّاً لدى الناس، بمجرد أن يسمعوا شائعة يتفاعلون معها؛ ثم هذا يقول، وهذا يكتب، وهذا يتحدث، وهذا ينشر الكلام في المجالس، وهذا في الشارع، وهذا عند من يلقاه، وهذا في مواقع التواصل الاجتماعي، ويحمِّل الناس أنفسهم وزراً وظلماً وجرماً وإثماً بغير لازم، هكذا بكل استهتار وتهاون.!
التهاون في هذه الأمور من أخطر الأشياء التي تؤثر على الإنسان، والظلم حتى بهذا المستوى: الظلم في الكلام، الظلم في نشر الشائعات قبل التثبت والتبين، والإساءة إلى الآخرين فيما هم منه براء، هذا خطيرٌ على الإنسان في نفسه، في مشاعره، فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى، في احباط أعماله، (إياكم والظلم فإنه يخرِّب قلوبكم) في الحديث عن رسول الله – صلوات الله عليه وعلى آله – (كما تخرّب الدور، أو تخرب الدور)، مثلما تهدم بيتاً بأكمله! الظلم يفسد حتى نفسيتك، حتى قلبك، حتى مشاعرك!
الإصرار على الظلم بالكلام يُبطل أعمالك الصالحة!
عندما تكون ظلوماً ولو بكلامك، ولو بشائعاتك، ولو بلمزك وهمزك، الله يقول: {وَيلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، الإنسان الذي اعتاد الطعن في أعراض الناس، والكلام في هذا، والكلام في ذاك، والإساءة إلى هذا، والإساءة إلى ذاك، ونشر شائعة عن هذا في مواقع التواصل الاجتماعي، في المجالس، في الاجتماعات، في اللقاءات، قضية خطيرة جدّاً، قضية خطيرة.
الإنسان قد يستهتر، قد لا يبالي، قد يصر، قد يستمر على ذلك، ولكن هذا يفسد عليه نفسه، يبطل أعماله الصالحة، يحمِّله الأوزار العظيمة والكبيرة، ويجعله من المساهمين في تفكيك المجتمع، في نشر الفتن، في إفساد ذات البين، ذات بين المؤمنين والمؤمنات، قضية خطيرة جدّاً.
{وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحسَنُ}
الواجب هو الكلمة الطيبة، الله جل شأنه يقول في كتابه الكريم: {وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ الشَّيطَانَ يَنزَغُ بَينَهُم إِنَّ الشَّيطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} [الإسراء: 53].
الكلام السيئ، الكلمة الجارحة: كلمة السخرية، كلمة اللمز، كلمة البهتان، الكلمات الجارحة؛ هي مدمرة لألفة المجتمع، وتنزغ الشر، تعطي فرصة للشيطان ليثير الفتنة والكراهية بين المجتمع، ويؤثر عليه في النهوض بمسؤولياته وواجباته، الجماعية.
لذلك يجب التواصي بالحق والتواصي بالصبر، والتناصح بترك مثل هذه العادات والظواهر السلبية.