مقتطفات من محاضرة 13 رمضان 1441هـ للسيد عبدالملك الحوثي
من هم ’’الأظلم‘‘ في القرآن الكريم ؟
هؤلاء الذين يقدِّمهم القرآن الكريم أنهم الأظلم، يعني: أنهم الأعظم ظلماً، الأكبر ظلماً؛ ولذلك ظلمهم فوق ظلم الآخرين، وأنَّ تلك الجرائم التي عبَّر القرآن الكريم عن مرتكبيها بالأظلم، هي أكبر الظلم، وأعظم الظلم، وأفظع الظلم، وهي جرائم يمكن أن يدخل فيها حتى الإنسان العادي، وقد يعتبر نفسه في موقفٍ بسيطٍ جدّاً، وقد يعتبر تصرفه ذلك، أو كلامه ذلك، أو موقفه ذلك موقفاً عادياً، فيما هو مصنفٌ في القرآن الكريم في هذه القائمة: الأظلم، يعني: الأعظم ظلماً، الأكبر ظلماً، فالمسألة خطيرة جدّاً.
ضمن أظلم الظلم: الافتراء على الله
يقول الله جل شأنه في القرآن الكريم: {وَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَو كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21]، أكثر الآيات في {وَمَن أَظلَمُ} اتجهت تجاه هذه الجريمة الشنيعة جدّاً، التي هي من أظلم الظلم: افتراء الكذب على الله، أن تفتري على الله الكذب، {وَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَو كَذَّبَ بِآيَاتِهِ}، التكذيب بآيات الله سبحانه وتعالى يساوي هذا الجرم هذا الظلم، {إِنَّهُ لَا يُفلِحُ الظَّالِمُونَ}.
يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيرِ عِلمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144]، وهنا كذلك حديثٌ عن هذه الجريمة الشنيعة جدّاً: الافتراء على الله كذباً، والهدف من ذلك: إضلال الناس، استخدام ذلك وسيلةً لإضلال الناس.
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعرَضُونَ عَلَى رَبِّهِم}، يعني: في يوم القيامة، {وَيَقُولُ الأَشهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِم أَلَا لَعنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، ويقول سبحانه في آيةٍ أخرى: {فَمَن أَظلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدقِ إِذ جَاءَهُ} [الزمر: 32].
ولا يزال هناك آيات في القرآن الكريم تتحدث عن هذا الظلم الرهيب الذي هو في مقدِّمة الظلم ومن أظلم الظلم.
مقياسان لأظلم الظلم
من خلال التأمل في هذه الآيات المباركة، نجد أنَّ هذا الظلم يقاس بمقياسين:
من حيث مستواه، من حيث المستوى: هو من أظلم الظلم
من حيث جرمه: من حيث أنه يبتني عليه ويتفرع عنه الكثير من الظلم، وهذا النوع من الظلم الذي يتفرع عنه الكثير الكثير من الظلم يعتبر من أظلم الظلم وفاعله من أظلم الناس، هو في مقدِّمة الظالمين، من أسوئهم، من أظلمهم.
من الافتراء على الله:
تبرير الباطل وتقديمه كحق
جريمة الافتراء على الله كذباً جريمة خطيرة جدّاً، وتطبيقاتها في الواقع العملي للناس كثيرة جدّاً، وقد يغفل عنها الكثير من الناس، وعادةً تأتي: إمَّا لدعم باطل، أو للتخذيل عن حق، أو لتبرير جريمة، في هذه الأحوال يأتي الكثير من الناس؛ إما ليقول عن ذلك الباطل أنه حق ويحاول أن يبرره ويحسبه على دين الله سبحانه وتعالى،
وفي مقدِّمة الذين يبررون ويفترون على الله كذباً: علماء السوء، والمثقفون، والخطباء، والمرشدون، الذين هم في صف الباطل، أو يدعمون باطلاً، هذه النوعية من الناس؛ وحتى الإنسان العادي العامي قد يأتي ليبرر موقفاً باطلاً ويقول أنه حق وأنه يوافق دين الله سبحانه وتعالى، وأنه يرضي الله وأنه الذي يتوافق مع الإسلام والحق، وهو بذلك يفتري على الله كذباً.
كل ما حُسب على دين الله فأنت تنسبه إلى الله، كل ما تنسبه إلى الحق وتقصد به الحق عند الله فأنت تنسبه إلى الله سبحانه وتعالى؛ وهذه الحالة تحصل كثيراً في واقع الناس، أكثر ما يأتي من الباطل في الساحة يقدَّم على أنه حق، أكثر ما يقدَّم في ساحة المسلمين من مواقف، من تصرفات، من أعمال، تقدَّم على أنها حق، ثم تنسب على أنها موافقة للدين، يأتي ليرتكب مثل هذا الذنب العامي من الناس، يأتي بعضٌ من علماء الدين، من خطباء الدين الذين يخطبون في المناسبات الدينية وباسم الدين من المرشدين، الكثير من الناس يأتي ليدعم باطلاً على أنه حق، وأنه من الدين، وأنه يوافق دين الله سبحانه وتعالى.
من الافتراء على الله
تحريف معاني القرآن
علماء السوء والعلماء المضلون والمبطلون يأتي أيضاً ليحرِّف معاني الآيات القرآنية ليقدِّمها على غير مصاديقها، على غير حقائقها، على غير واقعها؛ ليدعم بها الباطل. ولو تتأمل اليوم في الساحة الإسلامية سترى كل دعاة الضلال، وكل قوى الباطل والشر، حتى القوى الموالية لأعداء الإسلام، الموالية لأمريكا، الموالية لإسرائيل، ومعها جيش كبير باسم علماء، وباسم خطباء دين، وعلى منابر المساجد، وفي القنوات والفضائيات والإذاعات، وتحت عنوان البرامج الدينية، يدعمونها في باطلها، يدعمونها في مواقفها، يساندها في خطواتها، يدعمون سياساتها، وهكذا بشكلٍ يحسب على الدين وباسم الدين وتحت العناوين الدينية؛ هنا افتراء الكذب على الله سبحانه وتعالى والدعم للباطل تحت هذا العنوان الديني، وفي هذا إساءة عظيمة إلى الله، الله القائم بالقسط في عباده، الله الحق، الله العدل جل شأنه، يُحسَب عليه ما يبرر الظلم، ما يبرر الفساد، ما يبرر المنكر، ما يبرر الانحراف، هذا ظلم شنيع جدّاً، فيه إساءة بالغة إلى الله سبحانه وتعالى، إساءة كبيرة إلى ربنا العظيم الملك القدوس، إساءة عظيمة إلى الله في عدله، إلى الله في رحمته، إلى الله جل شأنه وهو القائم بالقسط في عباده، إلى الله في قدسيته، إلى الله جل شأنه في ما تعنيه أسماؤه الحسنى، وفي هذا ظلمٌ شديد، ظلمٌ رهيب، ظلمٌ ومجافاةً للإنصاف، وتنكرٌ للعدالة إلى حدٍ كبيرٍ جدّاً.
من الافتراء على الله
تقديم الإسلام منقوصاً
عندما تجد مثلاً الموقف الحق الذي يأمر به الله سبحانه وتعالى ويوجه إليه في القرآن الكريم، فيه آياتٌ بيِّناتٌ واضحاتٌ، مئات الآيات، وترى من يأتي ليشطبه بالكامل، ألم يأتِ من أبناء الأمة الإسلامية من يشطب الجهاد في سبيل الله بمفهومه القرآني الصحيح، يشطبه بالكامل، يلغيه نهائياً، يعطِّله تعطيلاً كاملاً وكأنه ليس من الإسلام، ويقدِّم الإسلام منقوصاً، إسلامٌ بلا جهاد، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، ولا مباينة للطغاة والظالمين ولا موقف من أعداء الإسلام، ولا إعانة للمسلمين ونصرة لهم في مشارق الأرض ومغاربها ولا تضامن مع المسلمين في فلسطين ولا تبني لقضايا الأمة الكبرى؛ ولا أي شيء من هذه.
كل هذه شُطِبَت وهي مدعومةٌ في القرآن بمئات الآيات القرآنية المتنوعة: ما يحسب ذلك شرطاً في الإيمان، ما يعتبره من فرائض الله الواجبة، ما يعتبره شرطاً في دخول الجنة … إلخ.
من الافتراء على الله:
شطب المسؤولية من دين الله
ألم يأتِ من يَشطِب المسؤولية على الأمة الإسلامية في العمل على إقامة العدل وإقامة القسط والعدل في الحياة؟ ويشطب هذا من ضمن مسؤوليات الأمة فلا يتحدث به في عظة ولا كتاب، ولا تدريس ولا تعليم ولا إرشاد وكأنه ليس من مسؤوليات الأمة الإسلامية نهائياً: إقامة القسط في الحياة، إقامة العدل في الحياة.
شَطَب جانب المسؤولية، قدَّم الدين طقوساً محدودة فقط، فيما يساعد على انتشار المظالم في داخل الأمة، على قيام الظلم، على هيمنة الطغاة والجبابرة وأعداء الأمة بكل ما يمثلونه من خطورة على الأمة، أكبر دعمٍ للباطل والظلم، أكبر سببٍ لانتشار الظلم، وتمكُّن الطغاة والظالمين والجبابرة، هو الافتراء على الله كذباً؛ ولهذا كان المفترون على الله كذباً هم أظلم عباد الله، أظلم الناس للناس، والأظلم في تضييع الحقائق المهمة والأسس المهمة.
عندما تنظر إلى الدين الإسلامي كمنظومة متكاملة فيه جانب رئيسي هو جانب المسؤولية: العمل على إقامة القسط، على إقامة العدل، على إقامة الحق، منهج الله سبحانه وتعالى هو منهج لإقامة العدل في الحياة؛ لأن العدل – قبل كل شيء – هو فكرة، هو رؤية، هو قاعدة، هو تشريع، العدل هو تشريعٌ إلهي، تعليمات إلهية نطبقها في واقع الحياة فيتحقق لنا العدل، تلك التعليمات الإلهية التي يقوم بها العدل في واقع الحياة عندما يُشطب أكثرها، عندما يُشطب أهمها، عندما يُلغى أكثرها من قائمة الدين، من قائمة التعليم الديني، من قائمة الخطاب الديني، من قائمة الإرشاد الديني، ثم يأتي البديل عن ذلك ليحل محلها وهو الطغيان والظلم والجبروت والفساد والمنكر، هذه كارثة، هذه مصيبة، هذا أمر رهيب جدّاً.
من الافتراء على الله
دعم للباطل ونفي الحق!
نجد أيضاً أن الافتراء على الله كذباً هو الوسيلة التي تستخدم لإضلال الناس، الإضلال عن نهج الحق، عن نهج العدل، وهذا ينسف البنيان الأساس الذي يقوم عليه العدل في واقع الحياة، ويعتبر كذلك ظلماً لما يسببه للضالين الذين يتبعون أولئك الذين أضلوهم ما يسبب لهم من خسران وضياع في الدنيا والآخرة، يعتبر ظلماً، فهو ظلمٌ من جوانب كثيرة.
الظلم يأتي في الجانب الإيجابي: يعني عندما تدعم الباطل وتقدم الباطل ليتبعه الناس، تدعو إلى الموقف الباطل، إلى الموقف الظالم ليتبعه الناس، تدعو إليه، تستقطب إليه، تدعمه
ويأتي أيضاً بطريقة النفي: عندما تنفي ما هو حق، تسقط لدى الناس في ذهنيتهم تلك المسؤوليات التي لا بدَّ منها في إقامة العدل، في إقامة القسط، تخذّل الناس عن أن يقفوا الموقف الحق ضد الظلم، ضد الباطل، هذا أيضاً هو من الظلم، وهو افتراء كذب على الله سبحانه وتعالى، أنت تفتري على الله كذباً
من الافتراء على الله
تثبيط الناس عن مواجهة الظلم!
عندما تأتي باسم أنك عالم دين أو باسم أنك مرشد ترشد إلى الدين، فتخذِّل الناس حتى لا يقفوا في وجه ظلم من أكبر الظلم الذي يجري في عصرك، من أعظم الظلم، من أكبر المظالم، المظالم الكبرى القائمة في هذا الزمن، مظالم على شعوب بأكملها، مظالم دخلت فيها كل أنواع الظلم: الاستهداف للناس في إيمانهم، في حريتهم، في أخلاقهم، في قيمهم، الاستهداف للناس في حياتهم، في اقتصادهم، الاستهداف للناس في أمنهم واستقرارهم، كل أنواع الظلم؛ هذا العدوان الكبير على شعبنا اليمني، الظلم على شعب فلسطين، نماذج من المظالم الكبرى والعامة التي هي قائمة في واقع الناس في الساحة، كم من المتورطين في هذا الظلم.
إما لأنهم يسوّغونه: يبررونه، يدعمونه، يدعون إليه، يشرعنونه، هؤلاء هم من الذين يفترون على الله الكذب! أو لأنهم ممن يقدمون له الدعم بطريقة أخرى: فهم يثبطون الناس عن اتخاذ أي موقف ضد هذا الظلم، ويشككون الناس في الموقف من هذا الظلم، ويحاولون أن يقعدوا الناس عن أي تحرك للتصدي لهذا الظلم، ثم يقدمون هذا القعود، وهذا الجمود، وهذا التنصل عن المسؤولية باسم الدين، يفترون على الله كذباً بذلك.
فهم من أظلم الناس، من أظلم الناس! لأنهم يدعمون ظلماً عظيماً ويبررونه ويهيئون له البيئة ليستحكم، يهيئون له الظروف ليتمكن، يهيئون له الواقع ليسيطر، يجمدون أمامه الساحة ليتمكن من السيطرة عليها!
لماذا الافتراء على الله من أظلم الظلم؟
هم من أظلم الناس، انظر إليهم هذه النظرة، انظر إليهم نظرة القرآن الكريم، وعن هذا الطريق ينتشر الظلم، عن هذا الطريق يقتنع أكثر الناس: إما بالوقوف في صف الظلم، أو بالقعود والتمكين له وعدم الوقوف في وجهه؛ عن هذا الطريق، ولذلك التمكين للظلم هو عن طريق الافتراء على الله كذباً، يتفرع الظلم عن هذه الطريقة، بهذا الأسلوب، فكان الافتراء على الله كذباً هو أكبر الظلم؛ لأنه الذي يتفرع عنه الظلم، وبواسطته وبطريقته ينتشر الظلم، ويعم الظلم، ويتمكن الظلم، عن طريقه وبواسطته تبقى مظالم كبيرة، تطول مظالم كبيرة، جرائم رهيبة جدّاً، مظلمة شعب بأكمله، فيها كل أنواع الظلم، تستمر وتلقى الكثير من المناصرين، ويقعد الكثير عن التصدي لها، ويتخاذلون عن المسؤولية في مواجهتها؛ فتستمر وتتمكن أكثر فأكثر.
{فَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيرِ عِلمٍ} [الأنعام: 144]، يتحول إلى وسيلة لإضلال الناس، اليوم من يتحركون في الساحة لإضلال الناس هم يفترون على الله الكذب، يزيفون الحقائق، يدعمون الباطل باسم الدين، {فَمَن أَظلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدقِ إِذ جَاءَهُ}، كذلك التكذيب بالصدق، بالموقف الحق، بما يقدم من الحق، إذا كذب به الإنسان يعتبر هذا ظلماً منافياً للإنصاف، ويعتبر هذا انحرافاً يبنى عليه الكثير من الظلم.
ضمن أظلم الظلم: الإعراض عن ذكر الله
أيضاً في هذا المستوى من الظلم، أكبر الظلم، الأظلم، قائمة الأظلم: الإعراض عن آيات الله تعالى، وعدم القبول بها، فيما يفيده معنى التكذيب بآيات الله.
الله جل شأنه يقول في القرآن الكريم: {وَمَن أَظلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعرَضَ عَنهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَت يَدَاهُ إِنَّا جَعَلنَا عَلَى قُلُوبِهِم أَكِنَّةً أَن يَفقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِم وَقراً وَإِن تَدعُهُم إِلَى الهُدَى فَلَن يَهتَدُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف: 57]
يقول جل شأنه: {وَمَن أَظلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعرَضَ عَنهَا إِنَّا مِنَ المُجرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة: 22]
يقول جل شأنه: {فَمَن أَظلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنهَا سَنَجزِي الَّذِينَ يَصدِفُونَ عَن آيَاتِنَا سُوءَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصدِفُونَ} [الأنعام: 157].
{وَمَن أَظلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعرَضَ عَنهَا}
{وَمَن أَظلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعرَضَ عَنهَا} [الكهف: 57]: لا أظلم، هذا هو في قائمة الأظلم، مثل المفتري على الله كذباً، الذي يساويه في هذه القائمة: قائمة الأظلم، هو من يُذكّر بآيات ربه، آيات الله سبحانه وتعالى الذي هو ربه، أنت عبدٌ لله سبحانه وتعالى، هو خالقك، رازقك، المنعم عليك، المربي لك.
{فَأَعرَضَ عَنهَا}: لم يقبل بها، لم يعمل بها، لم يلتزم بها، لم يستجب لها، تجاهلها، تركها، أهملها، وانطلق بناءً على هوى نفسه أو أهواء الآخرين، هنا أنت تدخل في قائمة الأظلم لأن منهج الله سبحانه وتعالى هو الذي يتحقق به العدل في هذه الحياة؛ ولأنك أسأت إلى من؟ أسأت إلى ربك، إلى الله سبحانه وتعالى المنعم عليك، هذه الإساءة هي ظلمٌ كبير، هي حيفٌ عن الإنصاف والعدل، هي تنكرٌ لمن؟ لمن هو ربك وولي كل نعمةٍ عليك، في مقابل أن تنطلق على أهواء مدعومة من الشيطان الرجيم أو من شياطين الإنس أو شياطين الجن. هذه الإساءة البالغة إلى الله سبحانه وتعالى وهذا التنكر لآياته التي هي حقٌ وعدلٌ وعلى ضوئها يترتب تحقيق العدل في هذه الحياة وإقامة القسط في هذه الحياة؛ لأن العدل لن يتحقق إلا بمنهج الله سبحانه وتعالى بالتمسك بآياته، لا يمكن أن يتحقق العدل في واقع الحياة بدونه. هذا الإعراض هو ظلم، هو إساءة بالغة إلى الله سبحانه وتعالى، تنكرٌ كبيرٌ جدّاً، وهو من أعظم الظلم، وهو الذي سيتفرع عنه الكثير من الانحرافات والمظالم في هذه الحياة. هل يمكن أن تعرض عن آيات ربك ثم تسير في هذه الحياة قائماً بالقسط، ملتزماً بالعدل؟ لا يمكن، الخروج عنها هو خروجٌ عن العدل، خروجٌ عن الحق، خروجٌ عن القسط.
من عقوبات ظلم الإعراض عن ذكر الله:
{فَأَعرَضَ عَنهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَت يَدَاهُ إِنَّا جَعَلنَا عَلَى قُلُوبِهِم أَكِنَّةً أَن يَفقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِم وَقراً وَإِن تَدعُهُم إِلَى الهُدَى فَلَن يَهتَدُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف: 57]، من العقوبات على هذا النوع من الظلم، من الجرائم، هذه العقوبة: عقوبة الخذلان، أن يخذل الإنسان، أن يسلب التوفيق من الله سبحانه وتعالى؛ حتى لا يتأثر بآيات الله سبحانه وتعالى:
{إِنَّا جَعَلنَا عَلَى قُلُوبِهِم أَكِنَّةً أَن يَفقَهُوهُ}
كأن قلبه أصبح مغطى، ومغطى بغطاء لا ينفذ إليه ولا يصل إليه نور الحق والهداية
{وَفِي آذَانِهِم وَقراً}
وكأن سمعه فيه الوقر الصمم، كأنه لا يسمع، فهو يسمع، ولكنه لا يتأثر نهائياً بآيات الله سبحانه وتعالى ولا يتفاعل معها، وبذلك كأنه في حالة صمم، كأنه لم يسمعها أصلاً،
تكون النتيجة: {وَإِن تَدعُهُم إِلَى الهُدَى فَلَن يَهتَدُوا إِذاً أَبَداً}
خُذِل، خُذِل والعياذ بالله!
{وَمَن أَظلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعرَضَ عَنهَا إِنَّا مِنَ المُجرِمِينَ مُنتَقِمُونَ}
{وَمَن أَظلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعرَضَ عَنهَا} [السجدة: 22]، قد يتأثر ويتقبل من أي شخصٍ آخر، من طاغية، من مجرم، من قرين سوء، من مضل، قد يتأثر ويتقبل منه؛ فيما هو رفض من؟ آيات ربه، ورفض ما هو من الله سبحانه وتعالى وأعرض عمَّا هو من الله سبحانه وتعالى الذي هو ربه، ولي كل نعمةٍ عليه، والخالق له، والرازق له، ثم أعرض عنها، فهو ينطلق في واقع هذه الحياة بعيداً عن منهج الله، الذي يضمن إقامة العدل وتحقيق العدل في الحياة. {إِنَّا مِنَ المُجرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة: 22] لأنه يصبح إنساناً مجرماً، المعرض يصبح إنساناً مجرماً، ولا بدَّ أن يطاله العقاب الإلهي.
{فَمَن أَظلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنهَا}
{فَمَن أَظلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأنعام : 157]: التكذيب بآيات الله هو حالة منتشرة إلى حد كبير في واقع الناس، الكثير من الناس لديهم أفكار وتصورات ومواقف مخالفة لكتاب الله يعتبرونها هي الحق ويعتبرون ما خالفها هو الباطل والذي يخالفها هو القرآن.
الإنسان يصبح له أحياناً مشكلة مع القرآن، هو يعتبر الموقف الذي يدعو إليه القرآن موقفاً خاطئاً ويعتبر موقفه المخالف للقرآن هو الموقف الحق، هو مكذب بآيات الله؛ في نفس الوقت كذب بها في مضمونها، والبعض قد يكون مكذباً حتى في النص والمضمون.
{وَصَدَفَ عَنهَا}: أعرض وصد، فهو معرِض جمع بين الإعراض والصد، هو لا يتبع، ذُكِّر بآيات القرآن الكريم في قضية أو في موقف معين، والمفترض أن يستجيب للقرآن الكريم، أن يستجيب لتوجيهات الله وتعليمات الله سبحانه وتعالى ولكنه لم يقبل ولم يستجب وأعرض عن ذلك، وصد عن ذلك الموقف؛ فهو يثبط عنه ويخذل عنه ويدعو إلى خلافه. هذه حالة الإعراض، هذه حالة الصدوف، أن تصدف عن آيات الله: أنت تركت ما دعت إليه في ذلك الموقف، أو ذلك العمل، أو ذلك الالتزام، وفي نفس الوقت أنت تدعو إلى خلاف ذلك، فهذه حالة أنت تصدف فيها عن آيات الله.
{سَنَجزِي الَّذِينَ يَصدِفُونَ عَن آيَاتِنَا سُوءَ العَذَابِ}؛ لأنك في هذه الحالة من أكبر الظالمين ومن أكبر المجرمين، {سُوءَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصدِفُونَ}، وما أكثر هذه النوعية من الناس الذين يصدفون عن آيات الله لأنهم يدعون إلى خلاف ما تدعو إليه، ويثبطون الناس عمَّا تدعو إليه تلك الآيات المباركة.
من أظلم الظلم:
التخريب لدور مساجد الله
الله سبحانه وتعالى قال في القرآن الكريم: {وَمَن أَظلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُم أَن يَدخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُم فِي الدُّنيَا خِزيٌ وَلَهُم فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114].
هذا الدور التخريبي لمساجد الله: سواءً التخريب للبنيان، أو التخريب للدور، دور المسجد، أن يُفعَّل كما يريدها الله سبحانه وتعالى كمسجد لله – يكون محلاً لعبادة الله ولتقديم هدى الله سبحانه وتعالى وللتحرك من خلاله فيما يدعو إليه الله سبحانه وتعالى – هذا الدور التخريبي من أكبر الذنوب ومن أكبر المعاصي وهو قائم إلى حد كبير الآن في الساحة الإسلامية.
كثير من المساجد يُمنع عنها ويمنع فيها دورها الذي أراده الله لها، وهي تنسب على أنها: مساجد الله، وفي نفس الوقت يأتي إما التعطيل لها عن هذا الدور، أو تفعيلها في دور آخر سلبي لخدمة الباطل، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسجِداً ضِرَاراً وَكُفراً وَتَفرِيقاً بَينَ المُؤمِنِينَ وَإِرصَاداً لِمَن حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبلُ} [التوبة: 107]، المسجد الذي يتحول منبره إلى منبر للضلال، المسجد الذي يتحول منبره إلى منبر يقدم للناس ما يثبطهم عن المواقف الحق، يدعو إلى خلاف ما يدعو إليه القرآن الكريم، المسجد الذي من على منبره يفتري الخطيب على الله الكذب ليضل الناس بغير علم، هذا دورٌ تخريبيٌ، يعتبر ما يقوم به ومن يقوم به يرتكب ظلماً من أفظع الظلم ومن أبشع الظلم.
لا إمكانية لإقامة القسط بدون المنهج الإلهي
قاعدة مهمة: العدل يحتاج إلى منهج، هذا المنهج هو منهج الله سبحانه وتعالى الذي يقوم على أساسه العدل، ويتحقق به القسط، عندما يأتي كل ما يخالف هذا المنهج إلى واقع الحياة في مختلف المواقف، في مختلف القضايا، فيقدم طرحاً مختلفاً، هذا يعتبر من الافتراء: كذب؛ افتراء على الله كذباً، ويترك تأثيراً سلبياً يزيغ بالناس عن العدل، يزيغ بالناس عن الموقف الحق الذي فيه ما يواجه الظلم وما يساعد على إقامة القسط.
والمسألة هذه خطيرة لأنها تنزل إلى التفصيل العملي، إلى قضايا، إلى مواقف، إلى نزاعات، إلى أحداث، إلى قضايا كبيرة جدّاً، فنجد هذه القائمة ’’الأظلم‘‘ يدخل فيها الكثير من الخطباء، من علماء السوء، العلماء المتخاذلين عن نصرة الحق، الذين شطبوا مسألة المسؤولية، والجهاد، والعدل، وما إلى ذلك. ونجد فيها الكثير من الناس من الذين يأتون على هذا النحو: إما يدعمون باطلاً، وإما يخذلون عن موقف حق، يتورطون في هذا الظلم الرهيب؛ فيكونون من أظلم الناس، من أظلم الناس.
كذلك الإعراض عن آيات الله، التحرك بعيداً عنها، وتركها هناك على جانب، وكأن الإنسان ليس معنياً باتباع القرآن، البعض ينطلق في هذه الحياة وكأنه ليس معنياً باتباع القرآن ولا بالاهتداء بالقرآن ولا بالتمسك بالقرآن، إذا غاب هذا المنهج الإلهي، لن يكون هناك عدلٌ في الحياة ولا إمكانية لإقامة القسط في الحياة بدون هذا المنهج الإلهي.