بعد تحريرها الجـوف تنفـض غبار الاحتلال
وديع العبسي
حتى آخر لحظة من حزمنا الأمر للتحرك إلى الجوف كان إعلام العدوان يتحدث عن تواجد له في حزم الجوف وفي مديرية الغيل، وفي ابسط الأحوال عن استعادته بعض المواقع كما الأمر بالنسبة لمديرية الغيل الاستراتيجية التي نشروا الأخبار عن استعادتها بعد ساعات فقط من دخول الجيش واللجان إليها.
كان واضحا أن العدو يعيش صدمة هذا الفقد الذي يعني الكثير على مستوى التأثير اللاحق على مجريات المعركة، لم يكن بمقدوره التعاطي مع هذه الحقيقة كما هي في الواقع، لكنا كنا هناك نستكمل حضور صحيفة “الثورة” في جبهات الانتصار.
ففيما اكتملت الرحلة السابقة عند نقطة مفرق الجوف اتجهنا هذه المرة شمال المفرق في اتجاه الجوف.. الرحلة هذه المرة انطلاقا من صنعاء لم تكن بالسلاسة السابقة فالعدوان لا يزال ينتفض بسبب تقدم الجيش واللجان، لذلك كان الأمن الوقائي شديد الحرص على ترشيد حماسة الطاقم للسير والوقوف على الحقيقة بالتحذير أحيانا من تحليق مكثف لطائرات العدو، وتزويد الطاقم بوسائل السلامة خشية من أن نكون ضحايا الغارات.
لم أعر هذا الأمر كثيراً من الاهتمام رغم أنها مغامرتي الأولى من هذا النوع المحفوف بالمخاطر، فقد كنت منشغلا بذاك الجمال الذي وهبه الله سبحانه وتعالى لطبيعتنا، بتلك الجبال الشامخة بأشكالها وألوانها المختلفة، وعند هذه الجبال تساءلت “ألم تخبرهم هذه الجبال أن صلابة اليمني حكاية غِيرة على الحق، غِيرة على الأرض من الباطل أو من المحاولات العنيفة في تطويع حياة أبنائها كيف تشاء؟! أم أنها حكت لهم كل ذلك فلقيت منهم الصلف والتيه والكبر؟
يخبرنا زميلنا محمد رسام بأن اليمنيين جميعا أشداء بطبيعتهم، ولكن حينما تعمى قلوب بعضهم، ويغلب عليهم الباطل والأنانية فإن الله ناصر الذين نصروه.
هم أهلها
مضينا في طريقنا الطويل حيث شهدت جنباته المعارك العنيفة ثم تحولت بعضها إلى مناطق ممنوع الاقتراب منها لوجود الكثير من الألغام فيها زرعها العدوان قبل اندحاره.. توقفنا كثيرا عند النقاط الأمنية وجميعها بطبيعة الحال كانت تابعة للجيش واللجان، المحيّر في هذا الأمر لم يكن كثرة التوقف وإنما تلك الأريحية التي بدت على الأفراد الموزعين على هذه النقاط، في تماهيهم مع الأمكنة والمهمات وكأنهم هنا منذ أشهر وليس منذ يومين أو ثلاثة، وهي مسألة نابعة في تصوري من أمرين: (الأول) يؤكد أن ظهور حالة الاغتراب عن المكان إنما تكون إما من شخص غريب فعلا عن المكان، أو نتيجة الافتقار للهدف من هذا التواجد وعلى اقل تقدير عدمية الشعور والاقتناع بهذا الهدف. .(الثاني): امتلاك الثقة بالذات وبالهدف.
هكذا رأيت أبطال الجيش واللجان على مسار الرحلة
شيئا فشيئا تظهر بيوت المحافظة.. منازل طينية من التبن والطين، كثير منها منتشر ومتناثر هنا وهناك، ندخل أكثر إلى عمق عاصمة المحافظة إلى (حزم الجوف)، حيث كان العدو لا يزال يتمركز فيها إلى ما قبل أيام قليلة جدا، ونرى أمامنا حركة شبه طبيعية، الحياة تبدو حذرة وهي مسألة طبيعية، فنحن لا نزال في لحظة تتبدل فيها طبيعة الإدارة، فبعد أن كانت تحت سيطرة العدوان ها هي اليوم في يد الوطن.
عندما توقفنا عند مبنى الأمن تجمع الأهالي حولنا يتسابقون في الحديث إلينا “بدّوني في الإعلام” أي أظهروني في التلفزيون أو الصحيفة وهناك كان الاتصال بالأهالي وهناك أكدوا “إن الأمور طبيعية”، “كان هناك خوف من الفوضى لحظة فرار المرتزقة عند دخول الجيش واللجان أما الآن زال الخوف” قالها صادق عمران الذي قال أيضا “كأننا في ثورة وكأننا انتصرنا ونحن الآن أحرار”.
المظهر العسكري من حركة للأطقم العسكرية لا يزال ماثلا لكنه لا يمثل باعثا على القلق بقدر ما يعطي الشعور بالأمان كما قالها شخص آخر كان بجانبي عندما كنا نصلي فريضة الظهر في مسجد وسط السوق.
حياة قاسية
لم أتقبل بسهولة أن أشاهد الوضع الذي تبدو عليه عاصمة المحافظة بل والمناطق الأخرى التي مررنا بها، حياة قاسية ووضع يبدو بائسا، جافة قاحلة ومجاري بعض وديانها تراكم فيها الطير.. هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها محافظة الجوف لكنها بعد أكثر من خمسين عاما من عمر ثورة الـ26 من سبتمبر فلماذا تبدو الأمور بهذا الشكل؟ ليس هناك شارع مسفلت غير الشارع الرئيسي الذي يربطها بالمحافظات الأخرى وقد تم عمله في عهد “عفاش”، المباني في وضع فقير، المتنزهات تبدو منعدمة، المراكز الصحية تستخدم المحلات التجارية وأنا أتحدث هنا عن عاصمة المحافظة وليس مديرية ثانوية.
كان من حق الناس أن يثوروا في 2011م على هذا الحال إنما من حقهم اليوم أن يرفضوا استمرار الوضع فبعد 2011م لم يتغير شيء، سيطر العدوان على المحافظة ما يقارب أربع سنوات وهو الذي ادعى بأن مجيئه هو من أجل تحويل الحياة إلى واقع أفضل، فما الذي أحدثوه من تغيير؟ لا شيء يذكر، لا شيء غير دبابة مقلوبة هنا، ومدرعة محروقة هناك.. احتلوها وكانوا يسمونها محررة ولا يقدمون لها شيئا وهم الذين سيطروا على المداخيل الاقتصادية للبلد ويتلقون دعم الدول المانحة، لا شيء في المحافظة الثرية بالثروات سوى صحراء مترامية.
أشتي راتب
“أشتي راتب” عبارة التقطتها عدسة الزميل فؤاد الحرازي مكتوبة على هيئة (يافطة) على أحد مكاتب المجمع الحكومي.. هل عجزت إدارة المحافظة عن توفير الراتب لموظفي المحافظة وهم بضعة آلاف؟!! الأمر مثير ومقزز، هؤلاء الذين ضجونا بشرعيتهم ظهروا وكأنهم محتلين، هكذا رسموا لأنفسهم الصورة، بأيديهم لا بأيدي آخرين، لذلك لا تشعر في حركة الناس وإقبالهم أي ملامح أسف على من دُحروا، أولئك الذين رسموا على جدران مبنى المحافظة صورة لزعماء العدوان مع عبارات إشادة وتمجيد.
القرية الخالية
تركنا (الحزم) بقصد التوجه إلى داخل مديرية (الغيل) الاستراتيجية ذات الطبيعة السكانية المتفرقة، والتي شهدت معارك عنيفة قبل أن يسيطر عليها أبطال الجيش واللجان في طريقهم إلى (الحزم).. مرت دقائق وأنا أترقب أن تلوح أمامي مباني المديرية حتى فوجئت بالسيارات تتوقف ويترجل من عليها ويبدأون بالتصوير.. لا شيء هنا غير مبان طينية متواضعة مهجورة، لا أحد هنا إطلاقا.. أين الناس؟ أين أهالي هذه المنازل؟ أين الحياة هنا؟ تساؤلنا هذا رد عليه مرافق معنا من أبناء الجوف “كانوا هنا قبل أربع سنوات” ثم ماذا؟.. ذكرتني هذه القرية بمدينة تاريخية اختفى ذكرها نهائيا، هي مدينة (مرو) في تركمنستان على بعد 450 كيلومترا تقريبا غرب مدينة (بلخ) الأفغانية، تعرضت هذه المدينة لنكبة لم يعرف التاريخ مثلها على أيدي الغزاة التتار وكانت وصمة عار في جبين الإنسانية، كانت مدينة (مرو) كبيرة جدا، دخلها التتار وأبادوا أهلها، ومن حينها لم يعد لها ذكر حسب ابن الأثير في (الكامل في التاريخ).
لا أدرى الآن ما الذي يمكن أن أراه في مديرية (خب والشعف) أو مديرية (المصلوب) أو أي من المديريات الأخرى في المحافظة وعددها (12) مديرية.
محليا ودوليا، تاريخيا حالياً، تؤكد الاستخلاصات على إن محافظة الجوف كنز بالمفهومين التاريخي والاقتصادي فكيف جرى التعامل مع ارض مملكة معين على هذا النحو؟!، يذكر كتاب معجم البلدان والقبائل اليمنية أن تسمية الجوف جاءت كتعبير تقريبي لطبيعتها الحاضنة للسيول القادمة إليها من جبال صنعاء الشمالية والشرقية، وجبال خولان العالية، وجبال نهم وهمدان، وكذا سيول الأمطار القادمة من جبال نجران، ومن جبال صعدة، وأنَّ طبيعتها الصحراوية تحبس مياه هذه السيول؛ لتشكل خزانات جوفية تُعطي النماء لأرض الجوف قاطبة.
براقش التاريخ
شمال مدينة (الحزم) على بعد 7 كيلو مترات تقريبا لاحت أمامنا مدينة (براقش) براقش التاريخ والحضارة، واحدة من أهم مظاهر القوة والعظمة لأجدادنا الذين تحدوا واقعهم وصنعوا مجدا لهم ولنا.. تربض مدينة “براقش” أو “يثل”، العاصمة الدينية مملكة معين القديمة على ربوة صناعية من التراب لحمايتها من أضرار السيول، وعوامل التعرية.. يذكر التاريخ أنها من أقدم مدن اليمن إذ يرجع تاريخها إلى 1000 قبل الميلاد، أعاد السبأيون بناء سورها في القرن الخامس قبل الميلاد، إلا أنها شهدت عصرها الذهبي في القرن الرابع قبل الميلاد حين اتخذها المعينيون عاصمة لهم.
أقام المعينيون مملكتهم هنا في أرض الجوف السهلية بعد ضعف مملكة سبأ في القرن الرابع قبل الميلاد، وكانت مدينة (قرناو) عاصمة تلك المملكة، بعد تحولها من العاصمة (براقش) عُرفت بمدن تاريخية مثل خربة همدان “هرم”، والبيضاء “نشق”، والسوداء “نشان”، والقارة، وينبأ، وحزمة أبي ثور، ومن المعابد عثتر، والنصيب، وجبل اللوذ، ويغرو، وكهف أسعد الكامل.
وتذكر المراجع التاريخية الموثوقة، أن التجارة وحماية القوافل كانت القاعدة الأساس التي قامت عليها الحضارة المعينية القديمة، ولذلك وصف الملك الفرعوني أ”بطليموس” المعينيين بأنهم شعب عظيم، ويذكر أنها كانت عبارة عن محطة راحة للقوافل القادمة من الهند المحملة بالبخور والطيب، حيث كانت تلك القوافل تنقل إلى سوريا ومصر العطور والطيب والتوابل.