من «سلّم» الجوف؟؟
يمانيون: بقلم – د. أحمد عبدالله الصعدي
بعد طرد القوات السعودية ومرتزقتها وتحرير مدينة الحزم عاصمة محافظة الجوف، كما بعد عملية “البنيان المرصوص” وعملية “نصر من الله”، أخذت أطراف حلف العدوان والغزو والاحتلال تتقاذف التهم في البحث عن أسباب الهزائم وصولا إلى تبادل التخوين.
وقبل دخول العدوان مرحلة الهزائم كانت أطرافه تتقاذف التهم في البحث عن أسباب عجزه عن احتلال صنعاء أو الحديدة، وفي كلتا الحالتين ما كان يجمع الأطراف المتحالفةـ المتناحرة هو خوفها من الاعتراف بالأسباب الحقيقية لصمود الجيش واللجان الشعبية ثم انتقالهما إلى مرحلة العمليات والانتصارات الكبرى. وأهم تلك الأسباب التفوق المعنوي، أي تفوق الفكرة التي يتشكل مضمونها من استقلال الوطن وحريته وكرامة مواطنيه وإيمان المقاتل في سبيل الفكرة بعدالة قضيته وبصحة موقفه، وأن الله، ناصر المظلومين المعتدى عليهم، سينصره.
هذه الفكرة أصبحت قيمة عليا راسخة لدى المقاتل اليمني. ومعنى “قيمة عليا” أنه يجعلها أسمى من حياته الدنيوية، ولأجلها يختار طريقة موته طواعية. مقابل هذا الثراء والتفوق المعنوي يعاني تحالف العدوان من الخواء المعنوي، إذ لا يملك مقاتلوه أي دوافع غير مادية، باسثناء الحقد والكراهية، وهما دافعان لارتكاب جرائم ومذابح لا لصنع انتصارات.
قد يكون من دوافع بعض أطراف العدوان لتقاذف الاتهامات، بالإضافة إلى الهروب من الاعتراف بالتفوق المعنوي للخصم، الرغبة في المكايدة بين الأطراف المتنافرة، وبالنسبة للعدو السعودي على وجه الخصوص ما يعرف عنه من غطرسة وانفصال عن الواقع. أما بالنسبة لمدبر ومدير هذا العدوان البربري، أي الإدارة الأمريكية ووصيفتيها الحكومة البريطانية والكيان الصهيوني، فالأمر في غاية الجدية وفي صلب أهداف العدوان لدى الأمريكي وأتباعه. فالحرب على اليمن هي في أحد أهم جوانبها حرب ضد الفكرة ومن أجل ترسيخ فكرة العجز الكلي لدى أي شعب لا ينتمي إلى الثقافة الغربية (أمريكا الشمالية وأوروبا والكيان الصهيوني).
يسعى هذا الغرب العدواني في كل حروبه إلى إرغام شعوب الشرق على الاعتراف بتفوقه العسكري كما هو متفوق في الجانب الثقافي والاقتصادي والتكنولوجي، وأن هذا التفوق العسكري متواصل منذ أن وضعت أسسه التقاليد الإغريقية، التي ما انفك المؤرخون الغربيون يستعيدونها ويفاخرون بها إلى يومنا هذا، ويعدون تفوقهم في أية حرب امتدادا لتفوق الإغريق في معركة “سلامينا” عام 480 قبل الميلاد التي انتصر فيها الإغريق على الإمبراطورية الفارسية، ومعركة “ماراثون” عام 490 قبل الميلاد التي انتصر فيها ملتيادس على الفرس، وما السباق المعروف في أيامنا هذه باسم “الماراثون” إلا تخليدا لقرية “ماراثون” التي جرت فيها المعركة، وللعدّاء الذي حمل بشرى النصر إلى أثينا والذي مات بعد أن وصل وبشر الأثينيين بانتصارهم على الفرس. أنظر إن شئت عرضا لكتاب “المجازر والثقافة- المعارك الكبرى التي صنعت الغرب” لمؤلفه فيكتور ديفيس هانسون، الأستاذ بجامعة كاليفورنيا والمتخصص بالتاريخ العسكري للعصور القديمة، في مجلة “أوان”، البحرين العدد 5، أبريل 2004.
الحرب على الفكرة، التي ورثها الغرب وكرسها في حروبه الاستعمارية الحديثة والمعاصرة، من أهم أهداف الحروب التي يشنها الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين والشعوب العربية، إذ يسعى إلى جعل الفلسطينيين والعرب يسلمون تسليما كاملا بفكرة أنهم أمة عاجزة متخلفة لا تجيد الحرب، وأن جيش الكيان الصهيوني ومخابراته (الموساد) قوة لا تقهر. لتلك الأسباب حاولت الدعاية الصهيونية، وبعض العرب الذين كانوا مخدوعين باتفاقات أوسلو، أن يعزوا الهزيمة المذلة لجيش الاحتلال وهروبه من جنوب لبنان في 25 مايو عام 2000 إلى الديمقراطية في “اسرائيل” وإلى “حركة الأمهات”، وكانت حركة أمهات الجنود المتمركزين في جنوب لبنان قوية، ولكن ما بعثها إلى الوجود ومنح صوتها قدرة على التأثير هو أكياس الجثث التي كانت تعود من جنوب لبنان كل يوم تقريبا.
المغالطات ذاتها استخدمت عام 2006 لإنكار وتشويه صورة النصر الذي حققه شعب لبنان ومقاومته في حرب تموز. فالخوف من أن يترسخ في وعي المواطن العربي الشعور بالثقة، وبالقدرة على هزيمة الجيش الذي كرس لعقود عدة أنه لا يقهر، هو أكثر ضررا على الكيان الغاصب من الهزيمة نفسها. وقد بينت مجلة “نيوزويك” الأمريكية، في استطلاع لها بعد عام من النصر، أن الخوف والقلق من احتفالات حزب الله بالنصر لا يقتصران على اليمين في المجتمع “الاسرائيلي”، بل يشملان مجتمع الكيان برمته، بمن في ذلك من يسمون أنفسهم دعاة السلام.
من هذا المنظور البعيد لأهداف هذا العدوان الوحشي على اليمن، الذي تديره -عسكريا واقتصاديا ونفسيا وإعلاميا- الولايات المتحدة الأمريكية، لا ينبغي لنا أن ننتظر من يمتلك الشجاعة ويعترف بالحقائق، لأن جعل مقاومة الشعب اليمني وبسالته وتضحياته مثالاً وقدوة للشعوب العربية هو الهزيمة الأقسى والأبعد غورا ومدى.
ما نعرفه نحن هو أنه لا الجوف ولا أية منطقة من المناطق التي كان يسيطر عليها العدوان ومرتزقته تم تسليمها، بل حُررت بالدم الذي كتب التحرير على كل شبر من الأرض، وبأشلاء الشهداء التي تركت على كل قطعة من أرضنا العزيزة معالم لن يطالها النسيان ولن يمحوها الزور والبهتان.