البُنيان المرصوص مواكبة من الطلقة الأولى إلى الهروب الأخير
يحيى الشامي:
كل محاولة للوقوف على أسباب انهيار زهاء عشرين لواء من قوات العدو بمؤونتها وعتادها أو البحث عن عوامل انتصار مجاهدي الجيش واللجان الشعبية، في عملية البُنيان المرصوص هي محاولات تعتمد تحليل ودراسة خارطة المواجهات ومحطات الاشتباك وتضاريس الجبهة استناداً إلى مشاهد وصور الإعلام الحربي لحظة الفعل العسكري أو على الزيارات الميدانية المتوالية التي تلت نجاح العملية بأسبوع.
وتظلُ كلُ الكتابات والدراسات مبذولة في هذا السياق قاصرة عن تقديم أجوبةً شافية لحقيقة ما جرى سيما في ظل اختلال موازين القوة لصالح القوات المهزومة، وهي نتيجة رافقت العمليات القتالية التي خاضها ويخوضها الجيش واللجان الشعبية في عشرات الجبهات، ولا يمكن فهمها دون الأخذ بعين الجد الجوانب الإيمانية والمعنوية المتسلّح بها المقاتل اليمني وتتجلى بوفرة في جميع اللقاءات المصورة والأصوات المُرافقة لمشاهد الإعلام الحربي أثناء المعارك.
بعين المراسل الحربي:
تحفّظ قادة عملية البنيان المرصوص عن الحديث عن تفاصيل العملية (خطط استراتيجية وتكتيكات ميدانية)، لكن العملية التي تُعدُّ الأكبر في تاريخ العدوان على اليمن تنطوي على ملامح ومحطات فارقة متفاوتة الدلالات والنتائج بينَ ما يسهلُ على المراقبين والخبراء العسكريين قراءتها، ويصعبُ على الشخص العادي تجاهلها، وهي نتيجة طبيعية لضخامة الحدث العسكري واستثنائيته في التوقيت الزمني والموقع المكاني، ومن هنا يُمكن تقديم قراءة توثيقية من زاوية مواكبتنا في تغطية العملية الكبرى
فأمكن منهم:
يتفق الجميع بمن فيهم مرتزقة العدوان أن الطلقة الأولى التي خرقت الهدوء النسبي وفجرت الوضع في جبهة انطلقت من قبل الطرف الآخر مرتزقة العدوان، وتحديداً في تبة الكعكة وقبل يومين أو أقل من بدء عملية البنيان المرصوص وذلك بشهادة وسائل إعلام العدوان المحلية والخارجية التي واكبت ما أسمته عمليات “تحرير صنعاء” إكمالاً لعملياتهم العسكرية في مديرية نهم والتي لم تتوقف بقدر ما كانت تشهد فتور نسبي يتعلق بفشل المرتزقة في تحقيق التقدم ويقوم إعلامهم بتقديمه كبوادر حسن نية يتزامن والحديث عن أجواء إيجابية من قبيل اتفاق السويد وسواه،
لم يلبث أن اقتنصت القيادة العسكرية اليمنية الفرصة وشرعت في تنفيذ عملية عسكرية واسعة ونوعية أسمتها البنيان المرصوص العملية التي قلبت الوضع رأساً على عقب وأربكت المشهد متجاوزةً حدود جبهة نهم الجغرافية، وبلغت بتأثيراتها صعداً سياسية وأمنية واجتماعية.
العدو بين وهم التصدي وهول الصدمة:
بتصعيد المرتزقة في تبة الكعكة حصلت قوات الجيش واللجان على إشارة البدء، انطلقت العملية بمسارات رئيسة وأخرى فرعية ومحاور موازية، وفي سياق تغطيتنا الإعلامية المواكبة ميدانياً للعملية يلاحظ أن للعملية مسارات عدة منها إشغالية وأخرى أساسية، الإلهائية هدفت إلى تشتيت تركيز قوات العدو من خلال وضعه أمام أهداف عسكرية وهمية انخرط في التصدي لها ومواجهتها بأعداد ضخمة من القوات، مقابل أن يتسنى للمسارات الرئيسية نقل القوات وتحريكها بهدوء الى نقاط المحاور ومنطلقات المسارات خاصة تلك التي ستلتف على الجبهة من الخلف سواء من ميمنة الجبهة خلف جبال القرن والقتب والمنار، أو ميسرتها باتجاه جبل يام وصولاً إلى قلب الجبهة في وادي ملح والفرضة والمدفون، تمت العملية في ظل انشغال العدو بمحاولات تقدمه في الكعكة وسواه من خطوط التماس الجبلية الموازية وفقاً لاستراتيجية الضم البطيء التي اعتمدها في الفترة الأخيرة في محاور القتال بنهم،
ازداد زخم العمليات القتالية في خطوط النسق الأول مع بداية انطلاق المسارات الخلفية، مشعلةً/مشكلةً في توقيت واحد طوقاً نارياً محكماً ممتداً من بطون الأودية إلى سفوح الجبال وأعاليها من ميسرة الجبهة الى الميمنة فالقلب حيثُ التقت بعضُ المسارات بعد يومين من بدء العملية، وهو زمن قياسي يبدو مبالغاً بالنظر إلى حجم وعدد قوات العدو وكثافة انتشارها في كامل خريطة نهم بدءاً من خطوط التماس المُتعرّجة على تضاريس الأرض المُعقدة على امتدادها،
وقبل الحديث عن ضخامة البنية التحتية التي أنشأها مرتزقة العدوان باستخدام جرّافات ومعدات شق ثقيلة يجدر التنويه الى نقطة في غاية الأهمية وهو أن القتال في جبال نهم الوعرة يخدم غالباً الجهة المدافعة ويخسّر الجهات المهاجمة نظراً لكلفة أي عمل هجومي إذا ما خيض بطريقة المواجهات القتالية التقليدية، وهو ما وضعته في الاعتبار خطة الجيش واللجان الشعبية التي بحثت عن أيسر المواطن الجغرافية لإختراق خطوط دفاع العدو المتينة والمدعمة بعتاد حربي كبير وحديث واعتماد استراتيجية توسيع الثغرات ومواصلة الضغط العسكري وصولاً إلى إيجاد نقاط خناق قاتلة مؤدية تلقائياً إلى انهيار العدو، وهي طريقة تقوم على فكرة منع العدو من إعادة ترتيب صفوفه والحيلولة بينه و تشكيل خطوط دفاعية يعيد فيها التموضع وتحديد خارطة للمواجهات جديدة.
في ذات الأماكن التي افترضتها الخطة العسكرية لعملية البنيان المرصوص التحمت مسارات ومحاور الهجوم، كما جرى الحال في قلب الجبهة عند أبواب معسكر فرضة نهم مقر اللواء ثلاثمائة واثنى عشر سابقاً، حيث أكمل مسار الهجوم القادم من جبل المنارة مهماته بتطهير سلسلة المرتفعات الجبلية الثلاث الشهيرة (القرن والقتب والمنارة) وما بينهم من مرتفعات ومعسكرات ومواقع وثكنات ومستحدثات، وعند نهاية جبال المنارة ورشا والنحرين وتحديداً وسط وادي ملح (الوادي الذي يضم عدة قرى وأحياء سكنية) بدأت المسار عبر قواته بتشكيل مسارات هجومية جديدة بعضها لمواصلة التقدم نحو جبال الميمنة المطلة على الطريق العام وصولاً إلى قصة عيبان المقابل لحيد الذهب عند نهاية جبل يام، وبعضها اتجهت نحو معسكرات المرتزقة ومقراتهم المستحدثة داخل وادي ملح والفرضة والمدفون والسلطاء وبرّان والمدفون، وهي المناطق التي التقى فيها مع مسارات أخرى قادمة من ميسرة الجبهة سلسلة جبال يام الممتدة بطول يزيد عن العشرة كيلو متر صوب جبال ومناطق من محافظة الجوف، تدحرجت كرةُ النصر من الفرضة إلى نقيلها وحتى حيد الذهب ومع سقوط مركز السيطرة والقيادة لما يُعرف بالمنطقة العسكرية السابعة ومقرها في جبل القصّة المقابل للحيد فقد المرتزقة الأمل كلياً بالعودة أو التماسك الدفاعي وانصرف يُرتب لطريقة آمنة للخروج على مستوى القادة أم على مستوى الأفراد والذين تاه معظمهم في جبال نهم الوعرة وأسر كثيرٌ منهم بعد 3- 4 أيام من التحرير، فيما استمرت القوات في تقدماتها نزولاً من الفرضة صوب مناطق جديدة من مديرية مجزر التابعة لمحافظة مأرب تحديداً عند مفرق الجوف الرابط بين صنعاء انتهاءً بمديرية نهم والجوف ابتداءً بمنطقة براقش ومارب بمديرية مجزر ومدغل المتاخمة لعاصمة المحافظة.
حصون غير مانعة وحشود شاردة:
في الواقع لم نتمكن في لحظات التقدم المتسارع من الاطلاع على حجم التحصينات وكثافة انتشار معسكرات المرتزقة التي يتقاسمها زيادة عن سبعةً عشر لواء من قوات المرتزقة، لكن ما وجدناه في جولاتنا المصورة لاحقاً كان صادماً وغير متوقع، فالعدوان وعبر مرتزقته كان قد استحدث مئات المواقع العسكرية على كامل الأرض التي تقدم فيها مشيدًا المعسكرات والمقرات القيادية ومحازن العتاد الحربي واللوجستي، لكن الأعظم من ذلك كله هو حجم التحصينات وضخامة الخنادق وطول الطرق الرابطة بين جميع الجبال ببعضها وبين سفوح الجبال وقممها، وقد تحدث بعض الأهالي ممن التقيناهم بدهشة عن هذه المستحدثات العسكرية التي حولت عشرات القرى والمزارع إلى معسكرات، بعض الجبال الاستراتيجية أنشأ فيها المرتزقة خنادق عملاقة بعمق متر وطول يتراوح بين ال500 م – كم بالإضافة إلى تدعيم هذه الخنادق بتحصينات ترابية إضافية تمثل خطوط دفاعية ثانوية وأحياناً عمل أكثر من خندق حول مرتقع جبلي حاكم كما هو الحال في القتب والقرن والمنارة ويام، ولعل الصور والمشاهد التي عرضها الإعلام الحربي تقدم لمحة ولو مختصرة عن حجم البنية التحتية التي استحدثها العدوان في نهم، ما يؤكد أن رهان العدوان كان كبيراً على الجبهة التي تردد عليها قادته كثيراً اليها وطال تباهيهم بها كأهم وأقوى جبهة في يمتلكها الاحتلال في الداخل.