“تنومة.. دماء منسية”: وثائقي يروي غدر آل سعود بالحجاج اليمنيين
يمانيون../
بين طيّات صفحات التاريخ، رقدت واقعةٌ تُعدّ الأسوأ من نوعها منذ قرابة قرنٍ من الزمن، هي مجزرة تنومة التي ارتُكبت بحق اليمنيين الذين وقعوا ضحية الجار الغادر وهم في طريقهم إلى آداء فريضة الحج عام 1923.
كما في كل عام بالتزامن مع موسم الحج، كان اليمنيّون يسيّرون القوافل في السادس من شوال للحلول في ضيافة بيت الله الحرام، يتحدّون المسافات الطويلة وحرارة الطقس ومشقّة المسير، يمضون حاملين أمتعتهم وأطفالهم ونسائهم حتى يصلون إلى مكة المكرمة ثم يعودون إلى ديارهم بعد رحلة تستغرق شهرين من العناء الشديد ولا يزيدهم ذلك إلا شوقاً لزيارة بيت الله الحرام.
ليس ثمّة تفسير لجرائم آل سعود بحق اليمنيين اليوم، أوضح من ما فعلوه بآلاف الحجّاج في مشهديّة تجسّد خليط من الإنتقام السياسي والعقائدي في آن معاً، ذلك أن نهج النظام السعودي الذي يخلط أوراق الدين بالسياسة لا يمنعه من اتخاذ الكعبة الشريفة مصيدةٍ للإنتقام من رعايا الدول التي يختلف معها، كما حصل عقب اختلافه مع الإمام يحيى حاكم اليمن آنذاك.
بعد أن استعاد عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود حكم أجداده في نجد أي في الرياض تحديداً بدعم بريطاني، لم يبقَ له وللبريطانيين خصماً سوى الإمام يحيى والقبائل اليمنية الرافضى للوصاية الأجنبية، لذا كان لا بد من إيصال رسالة سياسية للدولة اليمنية الناشئة موسومة بالوحشية والدموية، فكانت النتيجة مجزرة تنومة التي سلّط وثائقي “تنومة.. دماء منسية” الأضواء عليها وأحاط بجميع جوانبها وتفاصيلها المغيّبة.
رحلة الحج
يسرد وثائقي “تنومة.. دماء منسية” الذي بثّته قناة “المسيرة”، أحداث وخلفيات المجزرة التي ارتكبها آل سعود بحق الحجاج اليمنيين في منطقة تنومة بعسير حيث استشهد زهاء الـ3000 يمنيّ جميعهم من العزّل، عام 1923، لكنها بقيت مغيبّة قرابة قرن من الزمن لأسباب مجهولة.
الوثائقي يروي أن ضيوف الرحمن العزّل كانوا يسيرون نحو مقصدهم، مهلّلين ومكبرين، يجتازون الجبال والأودية مشياً على الأقدام في رحلة طويلة تمرّ بمحطات متعددة، حيث كان ينضم لهم حجاج آخرون من مختلف المناطق اليمنية، وفي الليل ينشغل الرجال في الذكر وتلاوة القرآن الكريم بأجواء روحانية فيما تهتم النساء بإعداد الطعام.
وفي أحد أيام الرحلة الشّاقة، حشد العاهل السعودي آنذاك عبدالعزيز آل سعود جيشاً من الإرهابيين تربّص بهم ورصد تحركاتهم وهم في غفلة عن أمره، ومطمئنين البال.
غدر آل سعود
بعد 6 أيام بلياليها كما يورد الوثائقي، بلغ الحجّاج مشارف أبها، حيث استقبلهم حاكمها عبد العزيز بن ابراهيم آل سعود بحفاوة قائلاً لهم أن “الطريق إلى مكة سالك وآمن”، ثم انطلقوا مطمئنين في مسيرهم نحو محطتهم التالية التي تبعد عن أبها مسيرة 6 أيام أخرى، وهنا اعترضهم جيش الغُطغُط وهو عبارة عن قوات من القتلة وقطّاع الطرق تدين بالولاء والطاعة لعبد العزيز آل سعود بقيادة سلطان بن بجاد العتيبي. وقد كانت تلك العناصر الإرهابية مستعدة بكل ما لديها من سلاح وعتاد تنتظر قدوم الحجاج على رؤوس الجبال وفوق المرتفعات المحيطة بوادي تنومة، وحينما وصلت قوافل الحجاج العزّل إلى هذا الوادي لتستريح قليلاً وتقيم الصلاة انقضّ عليهم القتلة من كل ناح وهم قائمون بين أيدي الله ويكبّرون له، حتى لم يبقَ منهم أحد ولم ينجُ ناج إلا قلّة غمسوا أنفسهم بالدماء وتظاهروا بالموت إلى جانب الشهداء.
جرائم مروّعة
توغّل جيش الغُطغُط بالتوحّش، ذلك أنه لم يكن يكتفي بإطلاق النار على الحجاج إنما يعود ويتفقد الناجين منهم ليكمل مجزرته طعناً بالسيوف والخناجر، غير آبهٍ ببراءة الأطفال وعويل النساء وغير مفرّقٍ بين شاب وكهل، وهو ما يؤكده عضو رابطة علماء اليمن العلامة عبد الرحمن الوشلي خلال الفيلم الوثائقي، إذ قال أن عناصر الغُطغُط “بعد أن رأوا أنهم قتلوا عدداً كبيراً من اليمنيين، نزلوا عن ضهور الجمال بالسوف وذبحوا المئات من الحجاج”، فيما علّق الباحث عبد الوهاب الهندي على المجزرة بالقول “مذبحة بكل ما للكلمة من معنى لا إنسي ولا جني ولا يهودي يعملها ناس عابري سبيل مروا لآداء فريضة الحج، فكان مصيرهم الذبح”.
يبيّن وثائقي مجزرة تنومة جانباً آخر من الواقعة الأليمة، في الحديث عن مصير الشهداء الذين تركت جثامينهم في العراء لتأكلها النسور والكلاب، إذ ينوّه الباحث عبدلله هاشم السيافي في هذا الصدد إلى أنها كانت: “مجزرة بكل ما للكلمة من معنى، لا صلاة أقيمت عليهم لا أموال ردت لهم، لا ديات دفعت لهم، ولا يزال ذويهم يبحثون عن مفقود لهم ذهب في يوم من الأيام للحج فمضى ذبحاً وهو في طريقه لبيت الله”.
سخط شعبي
لم يبقَ قرية يمنية إلا وحلّت فيها مصيبة الواقعة الأليمة، بحسب الوثائقي الذي لفت إلى التنديدات والسخط الشعبي الواسع بين القبائل والنخب اليمنية التي راحت تضغط على سلطات صنعاء بالتحرك العسكري للأخذ بالثأر، بيد أن الإمام يحيى حاكم البلاد آنذاك لم يتّخذ الخيار العسكري ولجأ عوضاً عن ذلك إلى الحل السياسي، وهو الأمر الذي فسّره مؤرخون بضعف الإمكانيات وانعدام قدرة الدولة على الرد كونها كانت لا تزال طور التكوين.
التبرؤ من المجزرة
على إثرها سارع الملك عبد العزيز حاكم نجد إلى الإعتذار وتبرئة نفسه من تبعاتها محملاً فرقة من جيشه مسؤوليتها، بيد أن الوثائقي يكشف زيف ادعاءاته بالقول أنه لو كان عبد العزيز واثقاً من أن “القضية عرضيّة وتصرف فردي بهدف النهب لكان أعلن عن المتورطين وحاكمهم لكن الواضح أن للقضية أبعاد سياسية ودينية وإجتماعية”. فضلاً عن أنه لا يمكن بأي شكل أن يتخذ الجيش السعودي آنذاك هكذا خطوة من دون الحصول على الضوء الأخضر من الملك كما يشير الوثائقي.
خلفيات سياسية ودينية
في تفسيره لأسباب الواقعة، يبيّن الوثائقي أن عبد العزيز آل سعود أراد حكم الجزيرة العربية بدعم مباشر من بريطانيا التي كانت تجد في هذا الرجل يدها في المنطقة، وبالتالي أراد عبد العزيز بهذا الفعل توجيه رسالة سياسية لسلطات صنعاء التي كانت تمثّل القوّة السياسية الأولى في الجزيرة العربية ومن بعدها الحجاز ونجد حيث يحكم آل سعود وذلك بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى عام 1918. ومن جهة أخرى بحسب الوثائقي كان هناك أسباب عقائدية تسربّت من الفكر الوهابي الذي غذاه النظام السعودي والذي يرى جميع المسلمين كفاراً، حيث يروي الناجون أن عناصر جيش الغُطغُط “كانوا يتفتّلون بين الشهداء ويقولون اقتلوا المشرك”.
وفي الختام، يؤكد الوثائقي أنه بالرغم من التغييب التاريخي لهذه الواقعة إلا أنها بقيت في أذهان الناس، نقلها القلّة الناجون لأطفالهم ومن ثم لأحفادهم، وقد تربّعت في مخيّلة الأدباء والشعراء إذ كُتبت الكثير من القصائد التي تروي الأحداث المروّعة بطابع أدبي جميل، نذكر منها قصيدة الشاعر اليمني علي أحمد جبل وتتألف من حوالي ثلاثمائة شطر شعري مليئة بالشجن والألم. جاء في مطلعها:
يا الله الغوث بك يا وثيق الحبال
يا مسلمين كيف عاد السرور
وحجاجنا في بطون النسور
من ذاك ملحق بهم في المغول
سواك يا من عليك الصبور
فالغوث بك يا مُجيب السؤال
يا الله العون بك يا وثيق الحبال
فيا غارة الله يا أهل العقول حجاجنا اليوم صاروا قتول
(مرآة الجزيرة – زينب فرحات)