عطوان: تعلّموا من الحوثيين في اليمن
يمانيون – عبد الباري عطوان
أكثر ما يستفزّ الشعب الفِلسطيني ويرفع ضَغطه هذه الأيّام ليس الإجراءات الإسرائيليّة العُنصرية فقط، وإنّما التّصريحات والتّهديدات التي تصدُر عن السلطة الفِلسطينيّة ورئيسها والمَجموعة المُحيطة به، وتتوعّد إسرائيل بردودٍ حاسمةٍ صاعقةٍ على هذهِ الإجراءات.
اليوم خرَج علينا السيد نبيل أبو ردينة، المُتحدّث باسم الرئيس عبّاس، مُلوّحًا بأنّ القِيادة ستُعقد خلال الأيّام القليلة المُقبلة سلسلة من الاجتماعات “المُهمّة” للرّد على “عمليّات الهدم للأحياء والمنازل الفِلسطينيّة في قرية سور باهر في القدس المحتلّة والخُروقات المُتواصلة في الأراضي الفِلسطينيّة”.
وقال السيد أبو ردينة “إنّ القِيادة الفِلسطينيّة ستتّخذ خلال هذه الاجتماعات قرارات مصيريّة بشأن العُلاقة مع إسرائيل والاتّفاقات المُوقّعة معها”.
***
نسأل الرئيس عبّاس، وليس السيد أبو ردينة: كم مرّةً سمعنا هذا الكلام طِوال السنوات الماضية؟ وكم مرّةً جرى استخدام العِبارات والتّهديدات نفسها والكلمات نفسها، وكم اجتماع عقدته “هذه القِيادة” للمجلس الوطني، والمجلس المركزي، والمُؤتمر العام لحركة “فتح” وللسّلطتين التنفيذيّة والمركزيّة، وقالت إنّها ستنسحب من اتّفاقات أوسلو، وستسحب الاعتراف بدولة إسرائيل، وستُوقِف التّنسيق الأمني؟
هيبة السلطة، والشعب الفِلسطيني باتت في الحَضيض بسبب هذه “المَهزلة” التي تُهدّد بهذه “السينات” الأربع أو الخمس، دون أن تُنفّذ واحدة أو نصف واحدة منها، بينما تتواصل أعمال القتل والتّدمير والاستيطان الإسرائيليّة ضِد أهلنا في الأرض المُحتلّة وبشكلٍ مُتصاعدٍ، دون أن تُحرّك ساكنًا، وكأنّها لم ترِث مُقاومةً كانت الأعظَم في تاريخ المِنطقة.
هدموا مئة منزلًا في قرية سور باهر، وشرّدوا أكثر من 750 شخصًا، قذَفوا بهم إلى الشارع، وأطلق الجُنود الإسرائيليّون الرصاص على رأس الطّفل الفِلسطيني عبد الرحمن شتيوي من بلدة كفر قدوم، وهو يلعب بقطعة خشبيّة أمام بيته، وأخرج الأطبّاء أكثر من مائة شظيّة من هذا “الرأس” البَريء، بفِعل استخدام رصاص مُتفجّرٍ، وقبلها خنَقوا طِفلًا فِلسطينيًّا آخر حتى الموت لا يزيد عُمره عن ست سنوات بحُجّة التّظاهر، ومع ذلك يقول لنا السيد أبو ردينة “س” نعقد اجتماعات، و”س” نتّخذ قرارات مصيريّة بشأن العُلاقة مع إسرائيل والاتّفاقات المُوقّعة معها، وما هو شُعوره وسيّده وهو يَعلم أنّها أكاذيب لن يُصدّقها أحَد؟
إسرائيل ابتَعلت الضفّة الغربيُة، وتُخطّط لضمّها، وتحوّلت السلطة إلى أُضحوكةٍ، وحُكمها الذاتي إلى “أكذوبةٍ” و”مسخرة”، ومع ذلك هُناك رئيس وزراء، ووزراء، ومُتحدّثون رسميّون، وأعضاء برلمان، ومجلس وطني ومجلس مركزي، ومجلس ثوري.. إلى آخِر قائمة الألقاب الطّويلة.
القِيادات المُحترمة تحترم كلمتها، وإذا هدّدت نفّذت، وتُثبت أنّها على قدر المَسؤوليّة، أمّا تلك التي تقول إنّها تُمثّل الشعب الفِلسطيني، وتنطق باسمه، لم تقُل كلمةً وتُنفّذها حتى تطاول علينا بغاث الطير، وباتت الوفود الإسرائيليّة تتجوّل في العواصم العربيّة، وتستعد مُعظم الحُكومات الخليجيّة، إن لم يكن كلها، لفَتح سفارات في القدس المُحتلّة اعترافًا بدولة إسرائيل العُنصريّة، وكُل ما تفعله هذه السّلطة، هو إضافة فقرة إلى البيان الختامي لقمّة مكّة تُطالب بتطبيق مُبادرة السلام العربيّة، يا لهُ من موقفٍ بُطوليٍّ.
المُرشد الأعلى للثورة الإيرانيّة هدّد بالرّد على أيّ عدوان أمريكي على بلاده يتمثّل في الحِصار الاقتصادي، وتخصيب اليورانيوم، فقام الحرس الثوري بإسقاط طائرة مُسيّرة أمريكيّة، واحتجز ناقلة نفط بريطانيّة، وتسارعت عمليّات تخصيب اليورانيوم فوق المُعدّلات المُتّفق عليها، ولم يركعوا للدولة الأعظم في التاريخ، وقرّروا التصدّي للاستِكبار الأمريكي مهما كان الثّمن.
قد يقول أحد المُتحذلقين إنّ إيران دولةٌ كُبرى، وتملك أسلحة وصواريخ فماذا تملك السلطة الفِلسطينيّة لتُواجه إسرائيل وترسانتها؟
هذا هُروبٌ وجدلٌ تبريريٌّ غير مقبول، فماذا كانت تملك حركة “أنصار الله” الحوثيّة اليمنيّة وحُلفاؤها عندما صمَدت خمس سنوات، ودمّرت أسطورة صواريخ “الباتريوت”، وشلّت المِلاحة الجويّة في مطارات مدن الجنوب السعودي، وأجبرت دولة الإمارات العربيّة المتحدة على مُراجعة سِياساتها وبدء الانسِحاب من اليمن؟ وماذا كانت تملك حركة “فتح” وباقي فصائل المُقاومة، عندما أطلقت الرصاصة الأُولى للثّورة الفِلسطينيّة؟
بعد ان انهارت رِهانات الرئيس عبّاس وحوارييه على السّلام والمُفاوضات، أليس هذا مُبرّرًا للاقتداء بالصواريخ “العبثيّة” لحركات المُقاومة الإسلاميّة في قِطاع غزّة التي شكّلت منظومة ردع غير مسبوقة، وجعلت نِتنياهو يرتعد خوفًا، ولا يجرؤ على إطلاق قذيفة واحدة على قِطاع غزّة خوفًا من هذه الصّواريخ؟ وحِرصًا على استمرار عمل مطار بن غوريون في تل أبيب؟
ألم يُولد “حزب الله” وكُل فصائل المُقاومة اللبنانيّة في الحُضن الفِلسطيني، ويُحرّر كُل الأراضي اللبنانيّة المُحتلّة، ويُجبر إيهود باراك على الانسِحاب من الجنوب عام 2000، ويعتزل إيهود أولمرت السّياسة بعد هزيمته وجيشه المُهينة في حرب عام 2006؟
***
رفض عوائد الضّرائب المُستحقّة للسّلطة منقوصة، ووقف الاتّصالات مع الأمريكان، ومُقاطعة صفقة القرن، كلها مواقف مُقدّرة، ولكنّها تظل محدودةً، إذا لم تكُن في إطار استراتيجيّة مُقاومة واضحة المعالم، تتصدّى فِعليًّا للاحتلال، وتُنهي التّنسيق الأمني، أكبر خطيئة في التّاريخ الفِلسطيني.
نرجوكم كونوا رجالًا، وعلى قدر ومُستوى تضحيات الشعب الفِلسطيني ودماء شُهدائه ونِضال أسراه، وتاريخه العظيم في المُقاومة، وتوقّفوا عن هذه التّهديدات الجَوفاء الكاذبة، واصمُتوا إذا كُنتم لا تستطيعون تنفيذها، واستمرّوا بالتنعّم بألقابكم ورتبكم في فُقاعة الكذب والخِداع التي اسمها السّلطة الفِلسطينيّة وعاصِمتها رام الله.
من يُريد أن يُمثّل الشعب الفِلسطيني وينطق باسمه عليه أن يكون القُدوة والمَثل والنّموذج، وأن يقول ويفعل، أو حتى يفعل دون أن يُهدّد، فهذا الحَد الأدنى من واجباته تُجاه شعبه، وأمّته، وعقيدته، وقضيّته، أو يحِل السلطة ويرحل مُعترفًا بالفشل وعدم قُدرته على تحمّل المسؤوليّة.