الحرب الكبرى مع ‘إسرائيل’ في إيار!
زائر لبنان هذه الأيام يستغرب كيف يستمر هذا البلد في البقاء في ظل أزماته التي تتوالد وتتكاثر بسرعة قياسية، ويعيش وسط جوار ملتهب، وتصل ديونه إلى مئة مليار دولار، ومع ذلك يقف موقفا قويا وصلبا في وجه مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي، ويجعله رئيسه ميشال عون ينتظر لأكثر من ربع ساعة في صالون القصر الرئاسي قبل أن يستقبله، ويتجاهل مصافحة المبعوث ديفيد هيل الذي كان ضمن الوفد، في وقت تفرش له دول إقليمية عربية طافحة الثراء الورود والسجاد والأحمر، ويجلس زعماؤها أذلاء يستمعون إلى إملاءاته.
عندما وصلت إلى بيروت (مساء السبت) بعد يومين من وصول بومبيو لها، كان حديث الجميع عن هذا الموقف اللبناني الرسمي والشعبي شبه الإجماعي على رفض مشروع “الفتنة” التحريضي الذي كان يحمله الوزير الأمريكي، ويتلخص في ضرورة “عزل” حزب الله، ومحاربته باعتباره يهدد أمن لبنان واستقراره، والتأكيد على لسان أغلبية الزعامات التي التقته بأنه حزب لبناني يشكل عمودا رئيسيا في النسيجين السياسي والاجتماعي اللبناني، وممثل في البرلمان بـ12 نائبا منتخبا، وفي الحكومة بثلاثة وزراء، وليس إرهابيا.
الرئيس عون الذي استقبلني في القصر الجمهوري ظهر الأربعاء وبعد عودته من زيارته الرسمية لموسكو ولقائه مع فلاديمير بوتين، أكد لي بأنه كان حازما في رفض الطلبات الأمريكية لأنها تعني دمار لبنان، وكشف عن أمور عديدة جرى تناولها في لقاءيه مع بومبيو والرئيس بوتين خاصة حول إيران وسوریا، ولكنه طلب مني أن لا أنشر أي شيء على لسانه، وها أنا احترم طلبه.
العبارة المألوفة عن لبنان ونخبته السياسية وشعبه أن هناك أربعة ملايين محلل سياسي، والجميع تقريبا يصدر الفتاوى في كل الاتجاهات، حول كيفية حل أزمة الديون، وتعزيز الليرة، واستخراج الغاز من المتوسط، وتحول لبنان إلى دولة نفطية غازية عضو في “أوبك”، وإيجاد المخارج لأزمة الكهرباء، وأزمة فنزويلا، والفساد في البرازيل، ناهيك عن أوضاع إدلب وشرق الفرات، واحتمالات الاتفاق في اللقاء المقبل بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والكوري الشمالي كيم جونغ أون.
اللقاءات مع المسؤولين والزملاء في وسائل الإعلام اللبنانية، التي ما زالت تحتفظ بألفها رغم الظروف المالية الصعبة، والضيوف العرب، كانت كثيرة ودسمة، لكن لقائين كانا على درجة كبيرة من الأهمية، الأول كان عشوائيا ووليد الصدفة، والثاني حرصت على ترتيبه قبل ثلاثة أيام من وصولي مع صاحبه لأسباب سأرويها لاحقا.
الصديق طلال سلمان، ناشر صحيفة “السفير” ورئيس تحريرها، دعاني إلى “مجلس” غداء في أحد مطاعم الأشرفية على ما أعتقد، يضم مجموعة من الشخصيات السياسية والاقتصادية والإعلامية يضم 10 أشخاص من مختلف المشارب السياسية، ومستمر شهريا منذ ثماني سنوات يطلقون عليه ممازحة اسم “غداء النميمة”، عميد هذا “الغداء” الدسم سياسيا واقتصاديا، الوزير بهيج طبارة، ويضم أيضا الوزير السابق ياسين جابر، ومحمد الحوت، رئيس مجلس إدارة طيران الشرق الأوسط، والخبير المالي يوسف الخليل من البنك المركزي، والشقيقين غانم، الأول جورج، الخبير الاقتصادي، وشقيقه النجم الإعلامي “المشاغب” مارسيل، علاوة على الزميل حسين أيوب، مدير التحرير في صحيفة “السفير”، والزميل أحمد طلال سلمان، نجل الداعي.
“غداء النميمة” هذا هو “مجلس وزاري مصغر” يشكل صورة حقيقية لما يجري في لبنان وهويته، ويناقش أحواله على مدى ساعتين، ولكن بدون صراخ أو صدام، واستطعت من خلاله أن أتعرف على حقيقة الوضع اللبناني السياسي والاقتصادي بالحقائق والأرقام، وخرجت بكم هائل من المعلومات، سواء عن النازحين السوريين، أو حجم الديون وفوائدها، وغاز المتوسط الذي قد يشعل المعركة المقبلة، والقائمة طويلة.
أما اللقاء الثاني، فكان مع النائب “المجمد” عن “حزب الله” نواف الموسوي، وقد فاجأني بأنه لم يكن غاضبا من قرار ترامب بضم هضبة الجولان، بل اعتبره “هدية” لمحور المقاومة، لأنه سيغلق الأبواب أمام أي مفاوضات سلام سورية إسرائيلية في المستقبل، وسيجعل من المقاومة المسلحة الخيار الوحيد أمام السوريين.
المسألة الأخرى التي تستحق التوقف عندها تأكيده وهو الذي التقى السيد حسن نصرالله مع آخرين، (لم يذكرهم)، لأكثر من خمس ساعات قبل يومين فقط، أن الثالث من أيار (مايو) المقبل قد يكون يوما تاريخيا، وعندما طلبت منه التوضيح قال إنه يوم تطبيق المرحلة الثانية من العقوبات الأمريكية على إيران، ومنع تصديرها برميلا نفطيا واحدا، وقال بالحرف الواحد “إن إيران ستصبح أمام خيارين: الأول أن تترك أمريكا تجوع سبعين مليون إيراني وبما يؤدي إلى تقويض النظام من الداخل، وهذا ما لن تسمح به القيادة الإيرانية، أو أن تدخل في حرب مع أمريكا و”إسرائيل” وحلفائهما في المنطقة، ولذلك فإن الرد العسكري سيكون حتميا، ومهما كانت النتائج”، أما أين سيكون الرد وكيف، فهذا ما رفض الحديث عنه، وقال إن هذا سيكون متروكا للعسكريين، ولكنه لم يستبعد أن يكون “حزب الله” وآخرين في قلب المعركة، وخرجنا من اللقاء أنا والزميل كمال خلف، المقدم اللامع في قناة “الميادين” بكم هائل من المعلومات والتحليلات سنعكسها مستقبلا في بعض مقالاتنا حتما.
أحد “الظرفاء” اللبنانيين قال لي إن مواقف الشعب اللبناني تتغير بسرعة وباتت في معظمها أكثر “عروبية” و”وطنية” أكثر من أي وقت مضى، وعندما قلنا له كيف تفسر هذه المواقف “العنصرية” الرافضة للنازحين السوريين ووجودهم قال “يا خيي أترك هايدي القضية جانبا.. أنا أتحدث عن الإسرائيليين”، قلنا كيف؟ قال “قريت اللي كتبته الفنانة إليسا على مواقع التواصل الاجتماعي ضد “إسرائيل”؟ و”بلوكها” للمتحدث باسم الجيش الاسرائيلي أفيخاي أدرعي لأنه تطاول على لبنان والعرب؟ قريت تأييد النائبة بولا يعقوبيان للمقاومة والسيد حسن نصر الله؟ روح إقرى وبعدين ناقشني”، وتركني وهو يلوح بيديه يأسا، ويتمتم بكلمات لا أدري مضمونها، وآمل أن لا تكون غير ما أحب!.
لبنان كان وما زال وسيظل “ثيرموميتر” القياس الأدق للمنطقة العربية، ومخزون هائل من الرفض للسياسات الأمريكية في المنطقة والإعجاب بكل من يقف في الخندق المقابل لها، والسؤال الذي كان يطرح علي في كل الجلسات هو عن المقاومة للاحتلال في قطاع غزة والضفة الغربية، وصواريخها التي وصلت إلى كفر سابا شمال تل أبيب، وسكينة الفدائي الشهيد الشجاع عمر أبو ليلى منفذ عملية سلفيت، وما يميز ثورة الجزائر السلمية الحضارية (يتفق الجميع على الإشادة بها) عن الثورات السابقة والحالية، والإجماع على “احتقار” القمة العربية التي ستعقد الأحد في تونس.
لا سياح من الخليج (الفارسي) في لبنان، رغم رفع الحظر السعودي عن سفرهم وزيارتهم، فمطاعم السوليدير خاوية تقريبا، وكذلك نظيراتها وسط البلد، الأمر الذي يقابل بتنهيدة حسرة من قبل اللبنانيين مصحوبة بنظرة عتب.
يظل لبنان “واحة متميزة” في محيط عربي ملتهب رغم الأزمات، تسألني كيف يتأقلمون معها ويعيشون، هذا ما لا أعرفه، وربما يحتاج الأمر إلى زيارة أخرى قادمة.. والله أعلم متى.
عبد الباري عطوان- رأي اليوم