ماذا بعد نيوزيلندا؟! بقلم د/ وفيق إبراهيم
يمانيون | كتابات
التزامُنُ بين استسلام آخر موقع للإرْهَــاب في سورية وما تبقى من بؤر له في العراق مع العملية الإرْهَــابية الأخيرة في نيوزيلندا ليس مُجَــرّد مصادقة قدرية بريئة.
فهذا عملٌ مصنوعٌ من جماعة لديها فكر إرْهَــابي عنصري، أعدّت الهجوم الأخير على مسجد مدينة كرايستشيرش في نيوزيلندا بإتقان، وتعمّدت نقل هذه المجزرة التي استمرّت ساعتين على وسائل الاتصال الاجتماعي بدم بارد وبحيادية مطلقة من قبل أجهزة الأمن المحلية.
هذه الحيادية سمحت للقاتل المحترف بالدخول إلى المسجد شاهراً بندقية، أطلق منها النار على المصلين وأرداهم الواحد تلو الآخر بأعصاب هادئة ومن دون أيّ تدخل، مع كاميرا من هاتفه كانت تنقل الحدث الإجرامي مباشرة لتعميمه، وتقليده من قبل جماعات عنصرية أُخْــرَى في العالم الغربي.
هناك دلائل إضافية على ارتباط المجرم بالثقافات العنصرية وهي تواريخ المعارك التي انتصر فيها المسلمون على الفرنجة والفتوحات الإسْــلَامية والتهديد العثماني لأوروبا في حصار فيينا في القرن 17 المنقوشة على الأسلحة التي استعملها في القتل، هناك قلة تعرفها حتى بين من ينتحلون ألقاب «مثقفين» عند العرب والمسلمين. فكيف الأمر بالنسبة للغربيين العاديين الذين يجهلون كلّ ما هو خارج بلادهم؟ هذا باستثناء قلة من المتخصّصين بالإسْــلَاميات وهم من فئة العلماء الغربيين…
إلا أنّ ما وضع الطبقات العادية في الغرب تحت ضغط الإرْهَــاب «الإسْــلَاموي» هي تلك المذابح الكبرى التأريخية التي اقترفتها منظّمات القاعدة وداعش ومثيلاتها في سورية والعراق وليبيا والصومال ومعظم الشرق الأوسط في الأقليات المحلية والإسْــلَامية والمسيحية. بالإضافة إلى تنفيذها لبعض العمليات الإرْهَــابية المحدودة في أوروبا وأميركا التي بدت تبريراً للاجتياح الأميركي ولاحقاً الأوروبي لمجمل سورية والعراق وأفغانستان…
التوقيت إذاً مشبوه لتزامنه مع انهيار الإرْهَــاب الإسْــلَاموي وتراجع الهيمنة الأميركية.
الأمر الذي يوحي بأنّ مهاجمة إرْهَــابي مسيحي متطرّف مرتبط بالفكر الصهيوني المتمحور حول إعَادَة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى، لمساجد في أوروبا إنما يريد استثارة المسلمين في الشرق ودفع بؤرهم الإرْهَــابية إلى مهاجمة أهداف للمسيحيين العرب أَو الغربيين في العالمين العربي والإسْــلَامي، وبذلك يستفيد هذا الإرْهَــاب الإسْــلَاموي المتداعي، بإعَادَة هيكلة نفسه من جديد.
أهذا ما يريده الذين يقفون خلف الإرْهَــاب الأسترالي الذي قتل المصلين في أحد مساجد نيوزيلندا؟
إنما كيف يعمل الإرْهَــاب العنصري في الغرب؟ لماذا يصمت دهراً ولا يطلق مجازره إلا في مراحل معينة؟
تنتشر في الغرب تنظيمات دينية متطرفة تميل للجمع بين المسيحية واليهودية، ويجنح معظمها نحو تبني علاقة رحيمة وتأريخية عميقة مع المشاريع الصهيونية بذريعة الأصول الفكرية الواحدة، ولهذه المنظّمات وجود ثقافي في أميركا الشمالية ومعظم أوروبا الغربية وأستراليا، وبعض البلدان الأُخْــرَى.
الملاحظ أنّ هذا التطرف الديني الغربي لا يتحرك إلا في مراحل الصراعات الكبرى في العالم… مستهدفاً أهدافاً إسْــلَامية، تعمل في الغرب، لماذا الآن؟
أولاً: هناك تراجع في النفوذ الأميركي خصوصاً والغربي عموماً في المنطقة الإسْــلَامية.
ثانياً: ينهار الإرْهَــاب الإسْــلَامي في مشروع خلافته الإسْــلَامية وانتشاره على الأرض محتفظاً ببؤر كافية يزعم الأميركيون انّ أعداد الموالين لها في سورية والعراق تراوح بين 14 إلى 15 ألف إرْهَــابي.
انّ هذه المستجدات لا يجب منطقياً أن تشجع الإرْهَــاب الغربي على استهداف المسلمين؛ لأَنّ منظّماتهم الإرْهَــابية تنقرض.
هذا ما يدفع إلى الاعتقاد بأنّ الأهداف الجديدة للإرْهَــاب المسيحي المتطرف على علاقة بمواقيت جديدة وضعتها مصالح دولها «حديثاً»، أيّ بعد تراجعها النسبي في الشرق الأوسط.
فيبدو أنّ المطلوب غربياً إعَادَة نصب الإرْهَــاب الإسْــلَامي من مُجَــرّد بؤر كامنة تراجع عديدها من مئات الآلاف في خلافة كانت تنتشر على أكثر من 170 ألف كيلو متر مربع، إلى بضعة آلاف فقط، كيف يكون ذلك؟ بتوفير الظروف التي تؤدّي إلى استنهاضه.. وتبدأ بمهاجمة أهداف إسْــلَامية في الغرب، ما يؤدّي تلقائياً إلى أعمال إرْهَــابية ضدّ كلّ ما يتصل بهذا الغرب مباشرة في بلدانه الأوروبية والأميركية ومؤسّساته المنتشرة في البلدان الإسْــلَامية وصولاً إلى مهاجمة سكان محليين في سورية والعراق ولبنان ومصر ينتمون إلى مذاهب مسيحية محلية هي الأقدم من نوعها في تأريخ الأديان موارنة، أقباط،… إلخ.
والغاية واضحة، وهي إجهاض الانتصار الذي تحقّــق في سورية والعراق، وإعَادَة الحرب الأميركية على المنطقة إلى مرحلة 2003، أيّ تأريخ اجتياح العراق.
الملاحظ إذاً أنّ هناك توقيتاً مدروساً لتغطية العملية الإرْهَــابية في نيوزيلندا؟ وإعَادَة التأسيس لحروب جديدة في سورية والعراق.
هناك أولاً، إدارة أميركية يقودها الرئيس ترامب الذي لا ينفكّ يعلن منذ ترشحه للرئاسة وحتى الآن أنه يكره كلّ ما هو غير أبيض البشرة، ويحتقر السود والمسلمين والمكسيكيين.
ثانياً: هناك صعود لليمين الأوروبي وفي أميركا الجنوبية وكندا وأستراليا وهذا ملائم للعمليات الإرْهَــابية العنصرية.
ثالثاً: تتراجع الاقتصادات الغربية بشكل تؤثر فيه على مداخيل الطبقات الوسطى والفقيرة فيزداد كرهها للأجانب، وخصوصاً الأقليات الإسْــلَامية التي يزداد عددها ودخلت مرحلة «الجيل الثاني من المغتربين» أيّ الذي اكتسب جنسية البلاد التي هاجر أهله إليها بالولادة، وأصبح مؤثراً في انتخاباتها وبالتالي سياساتها.
رابعاً: تستلزم إعَادَة بناء الإرْهَــاب الإسْــلَاموي مثيلاً غربياً له، وهذا لا يكون إلا بتبادل تنفيذ عمليات إرْهَــابية ذات أبعاد طائفية لا تخدم إلا المصالح الاقتصادية للعالم الغربي المهيمن، وذلك بإعَادَة الاضطرابات إلى سورية والعراق.
انّ انكشاف الأهداف الأميركية الجديدة تتطلب اعمالاً مضاعفة من المحور السوري والعراقي واللبناني للقضاء على آخر بؤر الإرْهَــاب، والحضّ على مكافحته فكرياً بمشاريع وطنية وسياسيّة تساوي بين كُلّ أنواع المواطنين مهما تباينت انتماءاتُهم المذهبية والطائفية والعِرقية.