احد مجندي طارق عفاش الهاربين من المخا يروي قصته : هذا ماحصل!!
يمانيون../
“نزلنا نتعسكر، ويقع لنا زايد ناقص من الإماراتي أو السعودي، مش نهتان”
وينكِسُ رأسهُ وكأنهُ يُداري دموع على وشك البزوغ ويقول:
“استروا علينا الله يستر عليكم ولا تفضحونا في المسيرة”
هكذا بدأ ع.خ.م حديثه..في قصة عجيبة فيها من العِبرْ والدروس ما يكفي، لا تتساءلوا من هو ع.خ.م، فسأخبركم عنه في آخر الموضوع…
نزل ع.خ.م ورفقائه الثلاثة وتوقفوا ثلاثة أيام في الضالعْ؛ استلموا فيها أولَ وجبةٍ لكنها لم تكُن دسمة بما يكفي، فقد كانت خليط قليل من (الدلهفة والدلكمة) وكثير من السب والشتم والاسترخاص، وفي اليوم الرابع انطلق بهم (طقم) إلى عدن، وهناك تم اللقاء بالجدة، وتم استهلاك معظمِ الوقتِ في الشكوى، بينما الجدة تحاولُ إدارة الحديث حولَ المهام الجديدة، مضَت سبعة أيام جميلة وممتعة ورائعة، تشمسوا في ثلاثة أيامٍ منها، على رمالِ شاطىء جولدمور، وتسبَّحُوا كثيرًا في الوقتِ المسموحِ لهم والذي يبدأ من الخامسة حتى الثامنة، وبعد الثامنة ينهض الحلفاء من نومهم ويُصبحُ الشاطئ حكرًا لهم من الساعةِ الثامنة وحتى الثانية عشر ظهرًا، وهكذا كانت الأمور تتم بسلاسةٍ وبلا احتكاك…
في اليومِ الثامن بدأت الحياة تتغير، وبدأت سحائبُ السَّعادة تنقشِعْ، وبدأ حشرُنا في شاحنة مواشي من نوع(لوري) كبيرة، تتسعُ لعشرين ثورًا تقريبًا، لكنَّا كُنا 113 فردًا وجميعنا من شمال اليمن، كان الزحامُ شديدًا، والحرُّ حارقًا، والوقتُ وقتُ الظهيرة، ولأوَّلِ مرةٍ أجدُ فيها سوطًا يتلوى على ظهري وظهور الراكبين، بقوةٍ وقسوة، ويتردد مع كل ضربةٍ اطلعْ..اطلعْ، تزاحمنا كما لم نتزاحم طيلة عمرنا، وتراحمنا كما لم نتراحم من قبل، وذاقَ أشدَّ السياط من كانوا آخر الطابور، فقد استلزمَ إغلاقُ الباب ضربًا شديدًا وزحامًا أشد، تحركتِ الشاحنة وأعيُننا ترمقُ الثلاثة الجلادين السودانيين؛ بحقدٍ وحنق وغيظ …
لحسن الحظ كان الطريقُ سالكًا، والمسافةُ قريبة، فما إن قطعنا مسافةَ ساعة إلا ربع؛ حتى وجدنا بانتظارنا قاربٌ كبير يسمونه سفينة، في شاطئ مهجور، وعلى متنه أربعة سودانيين وسائق يمني..كان الحالُ في القارب أكثرُ راحةً وأقل زحامًا من الشاحنة، فقد توزعنا بسرعة على الكراسي الخشبية في الميمنة والميسرة، وجلسَ البقية على أرضية القارِبْ، مُتبعينَ توجيهات العساكر السودانيين، والذين كانت رشاشاتهم بأيديهم، وقد كان نصيبي ضربةٌ قوية على كتفي بعقبِ أحدِ بنادقهم، ما زالت تؤلمني حتى الآن، ولم أتمنى السلاح كما تمنيته تلكَ اللحظة.. لقد ضربني ذلك السوداني حينَ اعترضتُ على ضربِ أحدِ الزملاء.
لم يفعَل شيئًا ذلك الزميل، سوى أن قال؛ لماذا يسلحوكم يا زول ولا يسلحونا؟ ولم يجيبوه، بل التموا عليه كالكلاب الجائعةِ ركلاً وضربًا بأعقابِ بنادقهم حتى انبطحَ في القارب مستسلمًا، تخرجُ الدماءُ من منخريه وصدغه الأيمن، ونحنُ نتوسلهم الهدوء والصبر…
وصلنا المخا، وليتنا لم نصل، بل ليت المركبَ انقلبَ بنا، وأكلتنا الأسماك الجائعة، أو ليتنا انتفضنا ضد الأربعة السودانيين وقتلناهم أو قتلونا…
استقبلنا عشرة عساكر إماراتيين وسعوديين، لا يبدو عليهم أنهم في ساحةِ حرب، فثيابهم جديدة، ووجوههم ناعمة..وهمسَ أحد السودانيين القادمين معنا في أذنِ أحدِ العساكر الإماراتيين.. وبعدها تمَّ جر زميلنا المضروب في القارب إلى غرفةٍ بعيده، ولم أره بعدها أبدًا…
ثم أدخلونا هنجرًا كبيرًا مدفونًا تحت الرمال بعناية، ولكنه مُكيف ومُريح، فأجلسونا على أرضيته المصبوبة بإحكام وكأنها مخصصةٌ للسيارات الحديثة، قامَ أحدُهم فينا خطيبًا وقال:
-نحنُ نعرف أنَّ فيكم خَوَنة، ومُندسين كثير، لكن أنتوا تحتَ المُراقبة، وأي حركة يمين يسار؛ ستطير رؤوسكم.
خرجوا جميعًا، وجاءنا ثلاثة مسلحين، قد اسمرَّت بشرتهم، وانتفشَ شعرهم؛ يقولون أنهم من المقاومة الجنوبية، وقالوا:
-ورانا يالعفافيش؟
مشينا خلفَهُم، سيرًا على الأقدام؛ ككتلة متحركة في شمسٍ حارقة، مسافةَ ربع ساعةٍ تقريبًا؛ وهناكَ أدخلونا هنجرًا كبيرًا؛ لكنه مختلفٌ جدًا، فلا يمتلك نافذةً واحدة، وأرضيته رملٌ صحراوي أصفر، وأُغلقَ علينا البابُ ، بلا خبرٍ ولا جواب…
التفتَ بعضُنا إلى بعض، وبدأنا نتساءل في أنفسنا، وماذا بعد؟
الزمنُ يقتربُ من العصر، ونحنُ بلا غداءٍ، ولا ماء، ولا توجيهٍ ولا سلاح.. تحولتْ نظراتنا الصامتةُ إلى بعضنا البعض؛ إلى حديثٍ هامس، وتساءلنا:
-أينَ جدتنا من كل هذا؟ هل لحِقَ بنا كما وعدنا؟ أم أنه سيبقى في عدن ويتركنا على هذا الحال!
جن علينا الليل، ولم يأتنا بجديد، كان البعضُ يصرخ من شدة العطش، وبدأ البعضُ يلعنَ اليومَ الذي قررَ فيه المجيء، أصبحَ الصُّبح وكلٌ منا قد التبسَ فوقَ وجهه رداءٌ من الغضبِ المكتوم، وأطلق الكثيرُ لألسنتهم الكلامَ الناقِدْ، وبدأ البعض يصرخُ بقوة وينادي بأعلى الصوت، فيما قام البعضُ بالطرقِ على الأبواب بكلتا يديه…
وعندَ الظهيرة جاء خمسةٌ من الجنود بينهم ثلاثة سودانيون وفتحوا الباب، وطلبوا منا الجلوس، ونادوا على واحدٍ بيننا اكتشفنا أننا لا نعرفه، ولم يأتِ معنا في القارب، فأخذ يشير إلى واحدٍ هنا وآخر هُناك، وكلما أشارَ إلى أحدنا أسرعَ السودانيون بجذبه وعزله إلى الزاوية.. عرفنا فيما بعدَ أنَّ ذلكَ الفرد جاسوس دخل بيننا على حين غرة…
جمعوا في الزاوية تسعة منا، ثم قاموا بتقييد أيديهم إلى خلفهم؛ بخيوط بلاستيكية قوية، وبدأوا ضربهم بعصي جلبوها معهم، كان الضربُ مبرحًا، وكل واحدٍ منهم يتلوى ألمًا وجوعًا وعطشا، لم يتوقفُ الضربُ عنهم حتى دخل بعضهم في غيبوبة، والبعض الآخر في خمولٍ بلا حركة..كانَ المشهدُ مخيفًا ومرعبًا .. وكانت أصوات المعتدين تتردد عندَ كل ضربة:
-أنتم خونة، أنتم مجوس، أنتم عملاء للحوثي.
لم يكُن فينا حوثيٌ واحِد، ولا نعرفُ ما هي المجوسية، وما عرفناهُ تلك اللحظة أننا فعلاً عملاء، وخونة، ضد الوطن وضد ترابه…
كنتُ أحدثُ نفسي في تلكَ اللحظات، أنْ يكونَ أوَّلُ قرار، بعدَ هذه الإهانات والإذلال هو أخذ السلاح و الفرار…
والقصة طويلة، لكن خلاصتها أن جدتي لا يهش ولا ينش وليس له أمر ولا نهي، فقد لقينا أشد العذاب والإذلال بعد ذلك..
وحين حانت الفرصة، وأثناء المعركة في معسكر خالد، وعند الغروب؛ تسللت مع (الخُبرة) والآن أنا في وجيهكم…
جزء من قصة طويلة ومعاناة مريرة، لواحد من الهاربين الثمانمائة!
#مصباح_الهمداني
29/04/2018